أمير تبوك يرعى حفل تكريم مدارس الملك عبدالعزيز النموذجية    أمانة الشرقية تسلط الضوء على الموارد البشرية الخضراء    تحسن نتائج الشركات المرتبطة في برامج رؤية المملكة 2030    المملكة تقود قطار النضال الدولي    مجلة "الهندسة" بجامعة الملك خالد ضمن قائمة "سكوبس" العالمية    إعلاميون: نتطلع لاستنساخ تجارب القيادات لصقل القدرات    المغرب.. مغادرة أولى رحلات مبادرة «طريق مكة»    القيادة تهنئ ملك الأردن ورئيسي زامبيا والأرجنتين    ضبط 17030 مخالفاً للإقامة والعمل خلال أسبوع    الدفاع المدني يتيح خدمة بيان رحلة المستثمر عبر منصة «أبشر أعمال»    الفضلي يقف على جاهزية منظومة "البيئة" لموسم حج 1445ه    عبدالعزيز بن سعد يزف خريجي جامعة حائل    عروض فلكلورية بالمنتدى العالمي العاشر للمياه    السفير البصيري يقيم مأدبة غداء تكريماً لرئيس مجلس الشورى خلال رئاسته وفد المملكة المشارك في مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي بالجزائر    النقل تؤكد ضرورة امتثال الشركات للأنظمة لضمان سلامة الحجاج    60 متطوعاً ومتطوعة بالهلال الأحمر لخدمة حجاج العراق في منفذ جديدة عرعر    وكالة فيتش ترفع التصنيف الائتماني للسعودية للكهرباء إلى +A    تعليم جدة يشارك في معرض جائزة أهالي جدة للمعلم المتميز «نحو استدامة الأثر»    منظمة الصحة العالمية تنوه بالمشاريع والبرامج الطبية التي تنفذها المملكة حول العالم    بعد قرار محكمة العدل الدولية..الخناق يضيق على إسرائيل    ضبط عمالة تغش في زيوت السيارات وتخبئها في حوش أغنام    "الأمر بالمعروف" بالحجرة بمنطقة الباحة تنشر محتوى حملة "الدين يسر"    العمير تزور مديرة الثانوية الخامسة في جازان للإطمئنان على صحتها    أمطار ورياح على أجزاء من 5 مناطق    بعد ساعات من كشف الجريمة.. القبض على «سفاح التجمع» في القاهرة    مباراة الوحدة والهلال تقترب من الطائف        أمانة نجران تضبط 1782 كيلو جراماً من اللحوم الفاسدة    جامعة الجوف: وظائف أكاديمية في 12 كلية عن طريق «النقل»    مشكلة في المثانة تنقل وزير الدفاع الأمريكي إلى المستشفى    145 ألف دولار إجمالي جوائز الدانة للدراما    "مفاجأة حزينة" و"أحلام ميسّرة" ترويها مستفيدة مبادرة طريق مكة من تركيا    الهلال يتخذ قرارًا بشأن مصير ميتشيل ديلجادو    "حسن" ينير منزل الاخصائي عزي بقال    "جوجل" تتيح مشاركة كلمات المرور مع العائلة    "سناب شات" تضيف عدسات الواقع المعزز لكروم    بن نافل: نطمح لمكانة أعلى للهلال بين الأندية العالمية    "موديز" تصنف المملكة عند "A1"    المجالس الأدبية والفنية في القرن ال19    تقنية جديدة لعلاج الشلل بالضوء    ابتكار رقاقة تحمي الأجنة قبل الولادة    الأطفال والمراهقون أكثر عُرضة لقصر النظر    مصرع عشرات الأشخاص بسبب ارتفاع درجات الحرارة في المكسيك    جمعية إسناد تقيم حفل ختامي لمستفيدي مراكز الرعاية والتاهيل    دول العالم تفشل في التوصل إلى معاهدة بشأن الاستعداد للجوائح    الاتفاق يستأنف تحضيراته بتدريب استشفائي بعد مباراة الشباب    تتويج نادي أبها ببطولة الدوري السعودي الرديف للموسم 2023-2024    "الاتحاد" يحسم لقب الدوري الممتاز لدرجة الناشئين تحت 17 عاماً    من المسؤول ؟    سيميوني: ريال مدريد هو الأفضل في العالم    القصيبي: فرق «مسام» انتزعت أكثر من 450 ألف لغم وعبوة ناسفة    ولي العهد يعزي رئيس السلطة التنفيذية بالإنابة في إيران بوفاة الرئيس ووزير الخارجية ومرافقيهما    خطيب الحرم: أمن الحرمين خط أحمر ولا شعارات بالحج    «الأحوال المدنية»: منح الجنسية السعودية ل14 شخصاً    خريجو «خالد العسكرية»: جاهزون للتضحية بأرواحنا دفاعاً عن الوطن    تنوع أحيائي    أمير حائل يشكر جامعة الأمير محمد بن فهد    برعاية الأمير عبدالعزيز بن سعود.. تخريج مجندات بمعهد التدريب النسوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبو عبدالرحمن بن عقيل في زمن مختلف
نشر في المدينة يوم 12 - 03 - 2010

عبر زمن ليس بالقصير تابعنا بمزيد اهتمام هذا اللقاء المطول للشيخ الأديب أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، على مدى أشهر، حتى أنسانا آخره أوله، فجاء حديثه عبره محققًا لما اشتهر به الشيخ من الاستطراد، الذي يأخذك بعيدًا عمّا طرحه في البدء، فإذا عاد إليه لم تستطع المتابعة إلاّ أن تستعيد ما بعد عنك بالاستطراد نستحضره بمشقة لتصل منه ما انقطع بهذا الاستطراد، هكذا هو أسلوب الشيخ في كل ما يكتب، وهو أسلوب نفر الكثيرين من القراءة له، خاصة في هذا العصر الذي لم يعتمد يحتمل المطولات في كل شأن عظم أو صغر، خاصة في مقالات الصحف والمجلات، والشيخ به معجب، ومحبوه متورطون في متابعته، وله معجبون قلة يرون في هذا الأسلوب دلالة سعة علم وآفاق رحبة من الثقافة. بعض سمات المواجهة: وظهر منذ البدء في هذا اللقاء تردد الشيخ في جل ما آمن به من قبل، ورغب في نشره، ودافع عنه زمنًا، حتى إذا عنت له مصالح متأخرة في التبرؤ منه فعل، وما حديثه عمّا أحرق من كتب ألفها قبل كتابه الذي سمّاه “الفروع والأصول” وموضوعه الأنساب، تقليدًا لابن حزم، وللشيخ -حفظه الله- قصة مع الأنساب لا تنتهي، وسنعرض لطرف منها في هذا التعليق فيما بعد، ومنها كتابه الذي سار فيه على منهج إمامه الذي يقلده أعني ابن حزم -رحمه الله- والذي سمّاه (النغم الذي أحببته)، ومن كتبه ما لم يرتح لما دوَّنه فيها بعد عمر مديد، فتراجع عن بعض ما فيها إرضاء لتيار هو اليوم في ما يظهر يتقرب إليه مثل كتاب (نظرات لاهثة)، وكتاب (نظرات لاهية)، بل إن موقفه من سائر ما ألف لا يبعد عن هذا فهو يقول: (هذه الكتب التي عندي ليس فيها ما ينال إعجابي ورضاي إلاّ قليل)، وضرب لهذا القليل بكتاب حققه ولم يؤلفه، وهو إن كان قد أبلغنا بحقيقة اعتقاده، فقد أمضى العمر في غير طائل، وحاشاه أن يكون كذلك، وإن كان يريد أن يشعرنا بتواضعه ففي سيرته ما لا يؤيد ذلك. رأيه في الحريات: وقد عشنا زماننا كله، والشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل عندنا من رموز ثقافتنا المحلية، وكنا نربأ به ألا يرى في الحرية إلاّ ما عبر عنه في مواجهته هذه، حيث حصرها في حرية كونية لا توجد، لأن الإنسان في نظره مسير لا مخير، في مولده وموته وخطه في الحياة من فقر وغني، وشقاء وسعادة، ومرض وصحة، فهي أمور كلها قدرية كما يقول، وحرية سلوكية لا يراها قيمة فكرية، وإن كانت موجودة، فلم ير اختيار فيها للإنسان إلاّ للأسوأ، والحرية التي يعترف بها هي ما سمّاه الحرية الفكرية، والتي يترتب عليها السلوك، وهي موجودة في نظره بقدر وتحت قيود تحدها فقال: (لابد أن يكون الإنسان حرًّا في فكره، لا يضغط عليه فكر مضلل، سوى مسلمات بنى عليها سابقًا، إذا يكون للإنسان رأى بيقين أو رجحان تنتهي عند الحرية، ويأتي باب الالتزام، وهو بهذا يلغي وصول حرية الفكر باستقلال عند الإنسان، ويضع لها من القيود ما يلغيها، وهذا اللون من التفكير هو ما أضر بنا في عهودنا المتأخرة، المتحررة من كل ألوان الحرية، والمنضبطة بكل ألوان القيود اللاغية لها، والتي سادها الجمود الفكري حتى آل أمرنا إلى ما نحن عليه اليوم، بل إن الشيخ عفا الله عنه يرى (أن الديمقراطية في اللغة والممارسة تعني حرية الشهوات والشبهات)، والعلّة في ذلك عنده أنها مبنية على القانون الطبيعي الذي ينكره، فلا يرى من الإسلام إلاّ ما يظن أنه يلغي الحريات التي لم تعد مجال أخذ ورد في عالمنا اليوم، ولا يرى في التصويت الذي هو آلية من آليات الديمقراطية حق إلاّ لفئة مخصوصة هم ذوو الحل من المؤمنين، ومصطلح أهل الحل والعقد حتى يومنا هذا لم يحرر بعد، ولا يزال الناس حول دلالته مختلفون، ومن هم المقصودون به، أمّا عامة المواطنين فهم في عرفة غوغائية لا حق لهم في هذا التصويت، ويعلن الشيخ دون أي خجل أنه أجهل الناس بأمر التعليم في المملكة منذ ترك الدراسة، ليعفي نفسه من الحديث عن معضلاته، ويذكر أنه جرب التدريس ففشل فيه، ولكنه رمى فشله على الطلبة الذين قادهم حظهم العاثر أن يكونوا له تلاميذ، فيحكم عليهم بأنهم لا يفهمون، وإن فهموا فإنما بعسر هو لم يحتمله، وحكم على التعليم -آنذاك- بأنه لا يزيد عن تدريب على العلم، لا علمًا يحصل، ومع هذا الإقرار منه بأن لا علاقة له بالتعليم منذ ترك التلقي في مدارسه، إلاّ أنه يفسر ويؤول في قضايا المناهج والمقررات، وأمّا موقفه من مذهبه المنسوب إلى الظاهر، فهو موقف كل منتمٍ إلى مذهب معجب به معتز برموزه، ولا أحد يعارضه في ذلك، ولكن أن يكون المذهب الظاهري في أي فترة زمنية مضت معتبرًا المذهب الرابع، قبل انتشار المذهب الحنبلي فقول فيه نظر، فما كان قط منها ولا إليها ينتسب، وهو اليوم يكاد أن يكون من المذاهب المندثرة لولا ذكاء ابن حزم ومؤلفاته الذي أبقاه نظريًّا، ولا أتباع له عمليًّا، إلاّ أفراد قلائل من أمثال أبي عبدالرحمن بن عقيل الذي ها هو يتخلّى عنه تدريجيًّا لمذهب آخر فيه بعض ملامحه، وكان له من قبل مجافيًا مهاجمًا له. نفى القياس وأسبابه: ونفى القياس، والادّعاء بالنص على الحكم فيه بالمعنى، إنما هو دفع ما وقع فيه الظاهرية من تناقض، ينكرون القياس ويستخدمونه باعتباره حجة عقلية لا يدفعها احتمال معتبر، والدعوي أن العقل، الذي لا يعترف به الظاهرية دليلاً، حجة في إطار النص إنما هو تلاعب بالألفاظ عند التمحيص، ولم ينكر الصحابة رضوان الله عليهم القياس، وإنما أنكروا إثبات الحكم بمجرد الرأي، والقياس إنما يثبت الحكم في الفرع بما نبث به في الأصل وهو الدليل ويقول الشيخ -عفا الله عنه-: (والله العظيم ما اتفق العلماء على القياس، الذي ذكرت أنه محظور، ومن أباحه جاء بظنون لا بيقين فيها، أو رجحان، لا بضرورة شرع ولا ضرورة برهان علمي من العقل والحس، كعللهم الكثيرة في الربان فهم لم يتفقوا على قياس معين في المسألة الواحدة) وهي مجرد أوهام يتهم بها ابن عقيل الظاهري -عفا الله عنه- الأئمة الأبرار من علماء الأمة في مذاهبها الأربعة أنهم لم يتفقوا على اعتبار القياس أحد أدلة الأحكام الأربعة، وهو الأمر الذي يجافي الحقيقة، وإذا كان أبو عبد الرحمن -سلمه الله- يرى أن القياس محظور فعليه أن يذكر لنا الدليل المحرم له إن استطاع، بل إن الدليل يؤيده والبرهان العلمي والعقلي قائم على اعتباره دليلاً يثبت به الحكم، وكل ذلك مرقوم في كتب الأصول لمن أراد الاطلاع عليه، ورأي الظاهرية في الإجماع معروف، ولا ينفي الإجماع أن لم يعترف به بضعهم، وإن كان الثابت من الإجماع الذي وقع في حجبته اختلاف. العبارات المسيئة: وترد عند الشيخ في إجاباته الكثير من العبارات التي تمنينا لو أنه اجتنبها، لما فيها من إساءة إلى الغير، كقوله عن الشيخ عبدالفتاح أبو غدة -يرحمه الله-: (وفي كلامه حق وفيه مصانعة لأن عداءه للسلف عورة لا أستطيع سترها)، وأنا أقول له دعوى لا يثبتها دليل، والشيخ عبدالفتاح -يرحمه الله- لا يحتاج إلى ستر من أبي عبدالرحمن أو غيره، وهو -يرحمه الله- المجاهر بكل رأي له يدعمه الدليل، ومثله لا يعادي سلف ولا خلف، بل مطلبه الحق، اسأل الله أن يكون قد عاش ومات عليه، وكان الوفاء يفرض على ابن عقيل أن يذكر عن شيخه محاسنه، وقد لقي الله لا أن يدّعي عليه عداوة للسلف لم تقع منه، ثم يذكر عن الشيخ أبي تراب الظاهري -يرحمه الله- (أنه لم يكتب عن الظاهرية شيئًا إلاّ في مسائل قليلة، والجانب النقلي عنده أكثر من الفكري)، والسؤال الذي يطرحه هذا القول هو: ما الذي كتبه الشيخ ابن عقيل عن الظاهرية، وهل يفوق ما كتبه شيخه أبو تراب عنها، لا أظن أن الأمر بينهما مختلف، أليس هو من يقول: (كل ما كتبته من فقه ابن حزم محصور في بحوث بالصحافة والدوريات، ولم ير النور في كتاب إلاّ مسائل في كتابي (مذاهب بعض الأصحاب) وهي مسائل في صلف الشباب كثيرة التسطيح، والباقي ترجمة له في كتابي (ابن حزم خلال ألف عام)، في أربعة أجزاء (ونوادر ابن حزم في مجلدين) فيما ذا يباهي أبو عبدالرحمن من سبقه إلى اعتناق مذهب الظاهرية، ولعله هو من هداه إليه، إلاّ أن يكون ما أجلت الحديث عنه من مواقف الشيخ أبي عبدالرحمن أنار الله بصيرته عن الأنساب، فما ندب الشرع إلى حفظها والعناية بها إلاّ من أجل التعارف الذي أمر الله به حيث قال: (يا أيُّها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير)، وما كان قط من أجل التفاخر بالانتماء إلى هذه القبائل أو تلك الشعوب، وأبو عبدالرحمن لم يجد ما ينتصف به من الأديب عبد الغني القستي، والعالم الجليل إلى تراب الظاهري، لدعوى أطلقها بأنهما هجواه شعرًا إلى أن قال: إنهما أعجميان صلتهما بإيقاع العرب كعلاقة الأتان بالمهرة)، وما كان الانتساب إلى العجم عيبًا ينتقص به المسلم، وقد أبطل الإسلام التفاخر بالحسب والنسب، وقيد التفاضل بين الخلق بالتقوى وهي فعل لا يكتب بالولادة، وكم من علماء الأمة حتى في لغتها من الأفذاذ من العجم استعربوا بألسنتهم وعمر قلوبهم الإيمان، ونحن عالة اليوم على كثير منهم في علوم مختلفة. موقفه من أبي تراب: وكم أفرغ الشيخ ابن عقيل -أرشده الله إلى الصواب- ما في صدره من موجدة على أبي تراب الظاهري في هذه المواجهة، والناس يعرفون لأبي تراب فضله وسعه علمه، ولن يؤثر فيهم هجاء ابن عقيل، وقد عجبت لأبي عبدالرحمن يقول:انه التقى به أول مرة في حدود عام 1384ه ويصف مقابلته له بأنها كانت ودية، وان أبا عبدالرحمن أرادها تتلمذًا على يدي الشيخ أبي تراب، ممّا يشير إلى أنه -أعني أبا تراب- شيخ لأبي عبدالرحمن بن عقيل وإن أنكر ذلك، ممّا تعرف على الظاهرة إلاّ بعد هذا التأريخ بثلاث سنوات حيث يقول: (والإمام ابن حزم عرفته في شقراء قبل عام 1387ه بسنوات، وصرت له مقلدًا في عام 1387ه، وهو يعترف أن أبا تراب هو السابق لاعتناق الظاهرية، ونحن نعرف الصلة القائمة بينهما زمنًا طويلاً، وإن ساءت أحيانًا. ولم يستطع الشيخ ابن عقيل أن ينتصر لنفسه من أبي تراب، وهو بيننا حيٌّ، رغم أنه يشاركه الحدة الموروثة عن الإمام ابن حزم، فأراد أن يستدرك ما فاته حال حياة شيخه بعد مماته، وقد أوصانا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن نتذكر محاسن موتانا حتى وإن جرى بيننا وبينهم وهم أحياء اختلاف، ولعل أبا تراب لو كان حيًّا لما جرؤ شيخنا ابن عقيل عن ترديد كل هذه التّهم، التي لها أول وليس لها آخر يوجهها للراحل -يرحمه الله- يقول أبو عبدالرحمن عفا الله عنه: (وجدت ما عند الرجل هو نقل من الكتب ونسخ، ولكنه لا يؤصل معلوماته ولا يصوغها ذات إيقاع يعزي، وظاهريته تقليدية للإمام ابن حزم رحمه الله)، وإذا أمعنت النظر في هذه العبارة دفعتك إلى أن تقول قسرًا: وهل حال الشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل يختلف عمّا وصف به شيخه؟ لا أظنه يختلف عنه قيد أنملة، ولعله يجيب عن تساؤلنا بالأمثلة ممّا كتب أبو تراب، ثم ممّا كتب هو. ويقول: (إنه رجل مقلد بحت للإمام ابن حزم وهو يحفظ وينقل، وليس برجل فكر ولا منهجية، فهو كأي مقلد من المذاهب الأخرى)، ولعله يرى شخصه الكريم وحده رجل الفكر والمنهجية في هذا الباب، فليقدم لنا نماذج ممّا كتبه تفوق ما كتب أبو تراب، رغم انه اعترف بأن جل ما ألف لا يرضاه، فلعلّ القراء حينئذٍ يجدون الفرق بينه وبين شيخه كما رسمه. والأمر الغريب أن ما صنعه الشيخ ابن عقيل وعيب عليه زمنًا طويلاً، يعيبه اليوم على أبي تراب -يرحمه الله- هو إباحة الغناء، والمسألة فرعية خلافية لا تستحق من شيخنا ابن عقيل كل هذا التشنيع على أبي تراب، وهو قد أباح معه ذلك أيضًا، بل ويوزع الأحكام على الشيخ ومن ردوا عليه، فيعلي قدر أحدهم ويصفه بأنه عابد ورع، ولكن فيه يبوسة، والآخر سريع التحمس بلا علم وأسلوب صحفي، وكلاهما قد توفاه الله، وسيظل الجدل حول الغناء قائمًا ما دام في الساحة علماء يرددون النظر في الأدلة، ويعيب على الشيخ ما لا يعاب فحتى إبداؤه، الرأي في مسألة الطلاق ثلاثًا بلفظ واحد بما يوافق قول ابن تيمية يرحمه الله، وأصبح يفتي به المفتون الرسميون في المملكة، وأبو عبدالرحمن يوافق عليه جعله من عيوب أبي تراب بحجة أنه لم يؤذن له بالفتوى، والفتوى لم يقل أحد من أهل العلم انه يلزم العالم أن يحصل على إذن بها، فهي في الأصل غير ملزمة، باتفاق، وحصرها على معين أو معينين لا تخرج عنهم لم يرد في الشرع ما يؤيده، وعاب على الشيخ أبي
تراب أنه منع من التدريس في الحرم المكي الشريف، ونسي أنه منع قبله أفذاذ من علماء مكة، لظروف يدركها الجميع، ولعل زمانها اليوم ولّى، ويعود الأمر إلى طبيعته فنجد ذاك التنوع المثري في حلقات الدرس في الحرمين الشريفين. والغريب أن ما في صدر أبي عبدالرحمن على أبي تراب تجاوزه إلى والده الشيخ عبدالحق المحدث الجليل فقال عنه: إنه ليس من رجال الفكر والاستيعاب العلمي، وهذا الحكم بناه لما صرح على لقاءات عابرة، وأبو عبدالرحمن مغرم بمثل هذه العبارات “ليس من رجال الفكر والاستيعاب” وأشباهها ولو طلبت منه أن يثبت دعواه من تراث من نفى عنه الفكر والاستيعاب لما استطاع أن يدلك على ما يثبت دعواه. وبالغ في ذم شيخه حتى أنه لم يعترف له بما يعترف به الجميع، وهو تفوقه في مجال اللغة وعلومها، فرآه في التصحيح مقلِّدًا بحتًا، وعلّة ذلك عنده أن اللغة بليت بمحتجزين يخطئون كل ما لم يجدوه في معاجم اللغة، كما بليت بإباحيين يجيزون كل لحن، وجعل من الصنف الأول شيخه أبي تراب، أمّا هو فلعله يرى نفسه من النوع المتفوق الذي يعرف خطأ المعاجم، ولا يجيز كل لحن، وليته يوثق لنا بالأمثلة دعواه من كتبه ومقالاته. ويبلغ الاعتداد بالنفس عند الشيخ ابن عقيل قدرًا يخرجه عن الإنصاف حيث يقول: (فإذا حزبتني مسألة فقهية أخذت كتب الفقه المقارن ككتب الشافعي وابن جرير والطحاوي وابن حزم وابن عبد البر -رحمهم الله تعالى- ولا أرمق كتب الفروع التقليدية بمؤخرة عيني إلاّ للعبرة بتوثيق المسيرة التقليدية)، وهؤلاء الذين ذكروا ينتمون لمذاهبهم ولها ينتصرون، وإن قابلوا بين المذاهب أو قارنوا، وما في الكتب التي لا يرمقها ابن عقيل بمؤخرة عينه هو العلم الذي بنى عليه العلماء تراثهم العلمي، والاستهانة بها على هذه الصورة لا تدل على عدل في الحكم. ويقول عفا الله عنه: (فإن خطر في المسألة بحث لغوي لم ألجأ إلى الكتب الحشوية كالقاموس ولسان العرب) غافرًا عالمين جليلين، ليته قد قدم عُشر ما قدموا لعلم اللغة. والشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل -سلمه الله- معتاد الغمز واللمز يرسله في كل اتجاه، بدأه بغمز لمدير مدرسته في شقراء الأستاذ عبدالرحمن العبدالكريم لمجرد انه كان يشتد عليه أثناء تعليمه له، ثم رأينا له جملة مقالات للشيخ أبي عبدالرحمن فيها من ألوان الغمز واللمز لرمزين من رموز العلم والأدب في هذا الوطن، هما الدكتور محمد عبده يماني، والدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة، عبر جريدة الجزيرة من الاتكاء على أسلوب عقيم يرتكز على خطاب أنتم ونحن، عندنا وعندكم، ممّا أظن أن كل مثقف في هذا الوطن يجب أن يتجنبه، خشية الولوج إلى منطقة بث الفرقة عبر التعصب للأقاليم والمذاهب والمناهج، وما حمدنا للشيخ ابن عقيل شيء من هذا من لدن زمان، والبردة التي يتّهم عبرها أهل إقليم من بلادنا هي من عيون الشعر، التي ملأ الإعجاب بها النفوس، حتى أنك لن تجد بيتًا واحدًا إلاّ ما ندر في عالمنا الإسلامي من سواحل دول شرق آسيا وفي سواحل المحيط عند مراكش لا توجد به البردة نصًّا شعريًّا متفوقًا، ترددها الألسن وتعقد لتلاوتها المجالس، وهي قصيدة حب ووفاء لإمام المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد بن عبدالله رسول الله وعبده، سلسلة رواتها أئمة العلم وحفاظه، وشراحها منهم في المقدمة، ولا أظن نصًّا حظي بالعناية كما حظي نص البردة، وإن وجد في أبياتها أحد ما ينتقده فهو القليل النادر، ويمكن حمله مع حسن الظن بالمسلم على أحسن المحامل، وأن يوجد له من التأويل ما يجعله يتساوق مع أصح عقيدة في تعظيم شأن سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رزقنا الله محبته ووفقنا لاتباعه، ولا أظن الشيخ ابن عقيل يتخذ من البردة وسيلة للمز أو همز أحد من هذا الإقليم المشار إليه بعد اليوم إن كان منصفًا. وقد استمر الشيخ عبر مواجهته في تلقيب مفكرين وأدباء بما هو إساءة إليهم، فعبدالله القصيمي وله إليه زيارات، وله معه حوارات، لا ندري مضمونها إلاّ ما ظهر من أحكام في ما كتب عنه، ومن الحكم في هذه المواجهة بتكفيره، رغم أنه يلح على أن يبلغنا أن نهاية الرجل لا يعلم بها إلاّ الله. ومن غياهب التاريخ يستدعي الهمداني المؤخر ليصمه بأنه كذّاب، وضّاع، قليل الورع، وأعلن بغضه للدكتور تركي الحمد من مفكري العصر، وغمط حق شعراء بارزين من أمثال الأستاذ علي الدميني، والأستاذ محمد الثبيتي، وجار بأحكام متعجلة على أعلام الفكر والأدب كالعقاد وطه حسين، ولم يذكر وللأسف لأحد في الوطن مفكرًا أو أديبًا، أو شاعرًا، أو ناثرًا محمدة إلاّ واتبعها بمذمة تمحها، وكأن الشيخ لم ير في هذا الكون أحدًا غيره يستحق أن يُشاد به ويعلن عن نبوغه، وإني لمندهش من قدرة الشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل، ومن طول نفسه في الاستطراد لصوغ العبارات التي تلزم غيره بمعايب ونقائص يسردها ليهاجم كل من اختلف معه أو اختلف عنه، ولكنه قد لا يبحث عن مصائب ونقائص قد تعتريه، ولعله لو بحث لاكتشف أن بعض ما انتقص به الغير فيه منه شيء كثير، وكنت أعد الشيخ ابن عقيل من رموز التنوير في بلادنا حتى قرأت له هذه المواجهة، وتلك المقولات في جريدة الجزيرة قبل شهور، وكلها لمز لرموز ثقافية في بلادنا، لم أدرك حتى اللحظة الدافع إليه، فرأيته يتخلّى عن كل ما كنا نعده به رمزًا ومختلفًا، ويصبح تقليديًّا في كل أفكاره التي يطرحها، اليوم، وهو من يعيب على غيره التقليدية، فها هو يعود بنا إلى زمن كان فيه الرمي بالكفر والإلحاد والشرك أسهل ما يستخدمه المختلفون في مواجهة بعضهم بعضًا، وكنا قد ظننا أن زمانًا مثل هذا قد ولّى إلى غير رجعة، فإذا به يعود على ألسنة وأقلام بعض كبار مثقفينا، نسأل الله لشيخنا ابن عقيل طول العمر مع الصحة الوافرة، والعافية الدائمة، والسعادة الغامرة، وأن يطهر الله قلبه ولسانه من أدران الوقوع في عرض إخوانه، أو غمزهم ولمزهم، وأن يوفقه في كل ما يروم وإليه يسعى ما دام حقًا وصوابًا إنه سميع مجيب. • باحث شرعي ص.ب 35485 جدة 21488 فاكس 6407043

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.