للأسف لا نعثر على كتاب مثير للجدل إلاَّ بين آونة طويلة وأخرى، وعندما يصدر كتاب يحرّك المياه الراكدة ستبقى زوبعته دهورًا إلى أن يصدر آخر. وفي السنوات الأخيرة صدرت كتب مهمّة ورائعة أقل ما يُقال عنها إن مؤلفيها سطّروها بوعي منسجم مع قناعاتهم، وتجاربهم الشخصية، ومعايشة لتلك الأفكار والهواجس سنوات إلى أن نزفت فصدرت، ولو في وقت متأخر. وهنا يحضرني كتاب «بنية التخلّف» للبليهي، و«السياسة بين الحلال والحرام»، لتركي الحمد، و«النقد الثقافي»، و«القبيلة والقبائلية» للغذامي.. وغيرها أمّا في الإبداع فشأن آخر.. وبعد موجة الروايات، وكتب النقد انحرف مسار التأليف إلى الفكر بأطيافه، فصدر كتاب نوعي ومفاجئ وجريء نسبيًّا، ومخالف للسائد يصنف -في اعتقادي- في علم الاجتماع السياسي، وهو كتاب الأستاذ عبدالعزيز الخضر (السعودية.. سيرة دولة ومجتمع)، ولعل الوقفات المدونة خلال قراءتي للكتاب لا تكتفي بمقال، لكن -بداية- سأتوقف عند الكتاب كظاهرة ثقافية مهمة «غير»، اجتهد فيه المؤلف أن يحرف بوصلة التأليف، ويعيد الأذهان المشوّشة إلى النظرة الموضوعية في تقويم الأحداث، وتاريخ مكتنز بالصراعات والمصالح والنجاح والسقوط، وكأننا في ظل هذا التاريخ المفعم بالغبار، ورائحة الطيب يصدر المؤلف كتابه ليقول: (وبعد)! يذكرنا الكتاب بأن التاريخ لا يُنسى، وسينصف الضمير الحي القابع في ظله يحوم عليه التهميش والتجاهل، وأن الانتهازيين وأوباش المرتزقة سيقدمون للمحاكمة، وأن الأجيال القادمة لن ترحمهم، وسيبقى الجميع في مقياس اختباري فيزيائي لا يخطئ، ولا يجامل، ولو بعد سنوات من الموات والنسيان. والمثير في الكتاب أن أحداثه وشخوصه وأزمنته عناصر عايشناها، فبقيت جزءا في الذاكرة لا ينفك تأثيرها ولو بالتحلل منها، فالتشوّهات التي تركتها عقد السياسة والأيديولوجيا ستبقى ندوبًا شبه مختفية في منظومة التفكير، وصارت المشاهد السينمائية في الكتاب قاعة محاكمة لا ترحم. فممّا يبدو أن طبيعة المؤلّف الهادئة، ونظرته المحايدة في التحليل، ومتابعته الشأن السياسي، إبّان جريدة المحايد والشرق الأوسط والمجلة، و«استنارته» بعد عقود من انغماسه وولائه للصحوة، وتقلبات السياسة والإحساس ب«الغلط» الراهن.. كل ذلك جعل منه كاتبًا يدلي بشهادته بعد فراغ سنوات من الصمت كلّلته أرتال الوثائق، والجلد العجيب، والاستقصاء وسعة الصدر وطول البال. طبعًا -وبصراحة- لا يوجد كاتب محايد مهما اصطنع الإنصاف والمصداقية، فالمؤلّف في سرده لتاريخ الصحوة، وفي بداية الكتاب، ظهر متوهجًا، ومتأنّقًا في أسلوبه الذي ترهّل كلّما تقدمت في فصوله، والمؤلّف عايش الصحوة بوجدانه، وأبهرته أحداثها وصراعاتها ورموزها، فعندما يسرد -مثلاً- سيرة رمز من رموزها «العودة»، ظل الطرح عن مجدٍ آفل تهاوى واندثر، معجبًا بتفاصيله وحكاياته عتبة عتبة، فهو تابع ومؤيد، وكأنه يحكي تجربته إزّاءها! وهذا في مقابل سياط السرد الموجع في قص سيرة «القصيبي» مع الصحوة.. واستطاع الكاتب التخلّص من عقدة التصنيف والاتّهام بالميل لتيار ضد آخر، وذلك في ذكر المحاسن والمساوئ، وقد يكون ممّن أصلته نار الغدر والانتهازية، ومصالح الصحافة، فنلحظ الترديد الدائم بأنه لا يميل مع هذا أو ذاك، وإنّما «يضع الأمور في نصابها». هذا الكتاب «ظاهرة» في محاولة الرصد والتتبّع في غفلة من الناس، وهو درس في تعليم الكتبة والمثقفين والمتمصلحين العقلانية في الممارسات العملية، وصدمة بعد تسليط الأضواء على الساحات المعتمة، هذا وإن كان في الدراسة انتقائية لعناصر يراها المؤلّف تخدم فكرته، واختصار مخل، أو تجاهل لأحداث عاصفة لها ما بعدها. وآمل مواصلة الموضوع في مقال قادم، ما لم أسبق في الكتابة عن فحواه..