"وزير الاتصالات"يطّلع على استعدادات "زين السعودية" لموسم الحج 1445ه    تطوير الاقتصاد أول وعود مرشحي إيران    مدرب الأخضر "مانشيني" يواجه الإعلام .. للحديث عن لقاء الأردن    د. العيسى: ما يعانيه الشعب الفلسطيني سيبقى محفورًا في كل ضمير حيّ    ختام بطولة العالم للبلياردو في جدة    TikTok يختبر خاصية Snapstreak    دراسة: السعودية تنجح في الحد من تأثير ارتفاع الحرارة على الحجاج    الجبير يلتقي وزيرة البيئة والمياه والتحول البيئي بالإكوادور    المملكة تؤكد أن تأشيرة الزيارة بجميع أنواعها لا تخول حامليها أداء الحج    جازان: إحباط تهريب 220 كيلوغراما من نبات القات    إخضاع منتجات شي إن للفحص والنتائج تؤكد خلوها من المواد الضارة    أمير القصيم يوجه بتوثيق الطلبة المتفوقين في كتاب سنوي    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تعتني بثقافة الحج وتاريخ الحرمين    وزارة الدفاع البريطانية تكذب مزاعم الحوثي بتعرض مدمرة لهجوم    ارتفاع عدد شهداء مخيم النصيرات وسط قطاع غزة إلى أكثر من 300 شهيد    هيئة النقل: أكثر من 10 آلاف عملية فحص رقابية بمنطقتي مكة والمدينة    شفاعة أمير الحدود الشمالية تثمر تنازل أولياء دم الجميلي عن بقية مبلغ الصلح    أمير الرياض يستقبل رئيس الهلال    أمير تبوك يواسي عامر الغرير في وفاة زوجته    2.6 تريليون ريال حجم الائتمان المصرفي السعودي    سمو أمير منطقة الباحة يرعى حفل يوم البر السنوي    استعراض أعمال وجهود الكشافة بموسم الحج في معرض "البهيتة الأمني"    "تعليم الرياض" يطلق حملة إعلامية تثقيفية بالتخصصات الجامعية    الوزاري الخليجي: ثروات المنطقة المغمورة للكويت والسعودية فقط    كيف أصبح هيكل ملكية أرامكو بعد طرح 1.545 مليار من أسهمها    تحذير من مواقع تنتحل هوية «تقدير»    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الوزاري للحوار الاستراتيجي الخليجي-التركي    جماهير الأهلي تتصدر "إكس" بسبب كيميتش    بلجيكا تُعول على دي بروين ولوكاكو في يورو 2024    «مسام»: إتلاف 602 لغم وعبوة ناسفة وقذيفة غير منفجرة في أبين    «الموارد البشرية» ترصد 399 مخالفة على المنشآت في تشغيل العمالة الموسمية بالمدينة المنورة    "لذة الوصول" يوثقها الحجاج في ميقات ذي الحُليفة    نائب أمير الشرقية يستقبل رئيس وأعضاء لجنة الحج في مجلس الشورى    محاولة من الاتحاد لضم رحيمي    فريق طبي "ب"مركزي القطيف" ينقذ حياة مقيم    ( نقد) لقصيدة ( في رثاء بدرية نعمة) للشاعرالحطاب    استقبال 683 حاجا من 66 دولة من ضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج    محافظ البكيرية يتفقد مشاريع الإسكان بالمحافظة    نمو الأنشطة غير النفطية 3.4% بالربع الأول    الأرصاد: ابتداء من غد الاثنين استمرار ارتفاع درجات الحرارة لتصل إلى 48 درجة مئوية    وصول الفوج الأول من حجاج أمريكا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا    شرائح إنترنت واتصال مجانية لضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج    ليس للمحتل حق «الدفاع عن النفس»..!    مستشفيات وعيادات دله تواصل تقديم رعايتها الصحية خلال إجازة عيد الأضحى المبارك    صور مولود عابس.. تجذب ملايين المشاهدات !    قميص النصر يخطف الأنظار في ودية البرتغال    بارقة أمل.. علاج يوقف سرطان الرئة    نفائس «عروق بني معارض» في لوحات التراث الطبيعي    توفير الأدوية واللقاحات والخدمات الوقائية اللازمة.. منظومة متكاملة لخدمة الحجاج في منفذ الوديعة    نصيحة للشعاراتيين: حجوا ولا تتهوروا    أثر التعليم في النمو الاقتصادي    اطلاق برنامج أساسيات التطوُّع في الحج    استفزاز المشاهير !    مَنْ مثلنا يكتبه عشقه ؟    مرسم حر    التنظيم والإدارة يخفِّفان الضغط النفسي.. مختصون: تجنُّب التوتّر يحسِّن جودة الحياة    «إنجليزية» تتسوق عبر الإنترنت وهي نائمة    الجهات الحكومية والفرق التطوعية تواصل تقديم خدماتها لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موجات التغيير تجعل التجديد ضرورة شرعية وواقعية

الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله؛ وبعد فإن التغيرات الحضارية؛ ثقافية، ومدنية إذا تسارعت وعظمت في مجتمع أو أمة فإنها تستوجب عملية إصلاح إنسانية تقاوم هيمنة الحضارة على الإنسان، ليكون الإنسان نفسه هو المهيمن عليها بقيمه الإنسانية لا أن يصبح آلة، أو حيواناً تستعبده ملذاتها، وشهواتها. عملية الإصلاح هذه – في المجتمع المسلم – تسمى التجديد ، الذي يعيد للتعاليم الأصلية في الإسلام المتمثلة في مقررات القرآن الكريم، والسنة المشرفة حضورها بعد غياب، ونقاءها بعد تشوه، وإجاباتها للمستجدات بعد توقف. لا يماري أحد بأننا نعيش في السنين الأخيرة في موجات من التغير الضخم والسريع في مختلف مجالات حياتنا ما يعني أن (التجديد) يعد – الآن – ضرورة شرعية، وواقعية، وأن به – لا سواه – إصلاح الأحوال، وإجابة التساؤلات الحضارية، وحل المشكلات المتوالدة، وقطع الطريق على من يريدون تجاوز الشريعة الإسلامية كلها نحو منطلقات إصلاح من خارج الدائرة الإسلامية، نتيجة الشعور بعدم قدرة علماء الشريعة على رسم مسالك هذا الإصلاح. (التجديد) عملية شمولية تتشكل من مجموعة اجتهادات يهدف – هذا التجديد - إلى رسم مسالك الحياة للمسلم ترضى ربه من جهة، وتحقق مصالح حياته من جهة أخرى، ويتخذ هذا الاجتهاد مسارين: المسار الأول : يتعلق بالعقائد، والعبادات، وهذه دور الاجتهاد فيها أن يعيد حضور صورتها الصحيحة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال إعادة أولية النص؛ آيات قرآنية، وأحاديث نبوية صحيحة للمعرفة؛ لأن قضايا الاعتقاد، والشعائر التعبدية صلاة، وزكاة، وصوماً، وحجاً – ومعها الحدود، والمقدرات جاءت النصوص الشرعية بها؛ كلياتها، وتفصيلاتها، حدود المجتهد فيها هو إعادة حضور النص فيها، وكشف الخروجات التاريخية عنها، وترتيبها، وإيضاح دلالات النصوص فيها، وأبعد مجال اجتهادي فيها هو كيفية تطبيقها في الظروف والأوضاع الإنسانية المتغيرة وتكثيف أحكام ما يمثل إشكالات في العصر. المسار الثاني: المتعلق بالشؤون الاجتماعية، سياسة، واقتصاداً، وإدارة، وثقافة، وإعلاماً ونحوها. أي في المجالات التي لم يحدد الشرع فيها – بشكل عام – صوراً تفصيلية ملزمة إنما حدد مواصفات، وشروطاً كالشورى، والعدل، والبيعة في النظام السياسي، وشروط البيع، والإجارة في النظام الاقتصادي، ومواصفات اللباس، والغذاء، والشراب ... إلخ. أما الصور التفصيلية فالذي ينشئها هم الناس، وهم الذين يطورونها بحسب رقيهم الحضاري، ومستواهم الفكري، وتقدمهم المدني. اجتهاد جزئي ودور الاجتهاد في هذا المسار له وجهان: الوجه الأول: أن يسبق علماءُ الشريعة مجتمعَهم في حركته الزمنية فيضعون له المسالك العملية في تلك المجالات – صوراً من المعاملات الاقتصادية، وأنواعاً من النظم السياسية، مثلا- بحيث تكون قائمة على قواعد الشريعة، وقيمها، وتكون في الوقت ذاته على مستوى ما وصل إليه عصرهم في هذه المجالات، فيغنون مجتمعهم عن التسوُّل من الأمم الأخرى وتقليدها من جانب، ويسعدون نفوسهم حينما تكون حياتهم إسلامية، وعصرية في الوقت نفسه. الوجه الثاني : حينما يسبق المجتمعُ علماءَه في تحولاته الزمنية، وتجدُّ فيه أمور غير ما استمرأه؛ على مستوى الأفكار، أو السلوك، أو أنماط الحياة المدنية؛ سواء تولدت من داخل المجتمع، أو وفدت عليه من خارجه فيقوم العلماء إذ ذاك بملاحقة هذه المستجدات من أجل تصورها في منطلقاتها، وعلاقاتها، وآثارها سعيا لبناء حكم شرعي على هذا التصور يُنَبَّه الناس إليه لإعادة تقويم تعاملهم مع هذه المستجدات؛ قبولاً شرعيا لها، أو تعديلا، أو رفضاً وبحثاً عن بديل. الاجتهاد حينما يكون جزئياً في مسألة، أو مسألتين ونحو ذلك ولم يصادم تقليداً اجتماعياً أو توجهاً سياسياً، فإن أمره هين، وقد لا يثير تساؤلات، ويمضي الزمن سواء كتب له القبول، أو الموت؛ لكنه حينما يكون متكاثفاً في القضايا أو من أشخاص عديدين، وفي الظروف التي يتجاوز فيها الاجتهاد دائرة العلم نحو التفاعل المباشر معه من قبل المجتمع بكل عناصره، وخاصة إذا كانت الظروف التي تتعلق بها قضايا الاجتهاد لأطراف أخرى من خارج الدائرة الإسلامية أثر فيها؛ مسلمين، أوغير مسلمين أساساً فإن هذا الاجتهاد الذي يكون في حيويته، وتكثفه قضية (تجديد) يكون حساساً جداً، وخاصة في الوجه الثاني من المسار الثاني حيث إن هذه العملية قد تنتهي إلى خلاف ما يريده أصحابها فقد ينجرف هؤلاء الراغبون في التجديد من حيث لا يقصدون بفعل ضغط العصر من جهة، والشعور بثقل النقص في الواقع من جهة أخرى نحو دركات تنزلق بهم خارج دائرة التجديد نحو التحريف، وقد تكون الظروف أقوى منهم فتجعل - من قبل المشدودين لكل ما هو قائم ضد كل جديد – من هذا التجديد وسيلةً إما إلى تكريس التخلف والتشبث بما هو كائن ضداً على هذا التجديد الذي من السهل وصفه بالتحريف، أو تجعل هذا التجديد – من قبل اللادينيين- سلَّماً نحو التحرر والانفلات، لا من تقاليد اجتماعية – أو فتاوى فقهية، نحو فتاوى أخرى – وإنما من الدين كله مبادئ، وأحكاماً (إننا نرحب – يقول محمد إقبال – من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر في الإسلام الحديث، ولكن ينبغي لنا أن نقرر أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي أدق اللحظات في تاريخه، فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال..) محمد إقبال تجديد الفكر الديني في الإسلام ترجمة عباس محمود 187. ليس هذا الكلام نأياً بالعلماء والمفكرين عن دورهم الاجتهادي، والتجديدي الذي يفرضه الوقت، ومن ثم يقضى به الشرع؛ لكنه تنبيه إلى ما ينبغي رعايته في هذا المجال العظيم – وحسبان الظرف الذي تُقدَّم الاجتهادات في سياقه، واعتبار توازن القوى الفاعلة في الساحة المعني كلٌّ منها بتوظيفه لتحقيق أهدافه. دعوات الإصلاح لقد ران على الأمة الإسلامية خلال القرون التالية لمرحلة الازدهار الحضاري جمود فكري، وتخلف ثقافي، واجتماعي شامل على الرغم من ظهور بعض المصلحين الذين يحاولون إعادة الحيوية في مفاصل الحركة الثقافية، إلا أن الزمن كان أقوى منهم قد يؤثر – بعضهم - في محيطهم المحدود، وقد يمتد تأثيرهم زمنياً في بقع معينة لكن المسيرة العامة للأمة ظلت في تخلفها الثقافي إلى درجة أن مبدأ الإصلاح كان ينظر إليه بارتياب، وتشكك؛ مما جعل ألفاظ (التجديد) و (الاجتهاد) تطلق على مريد الإصلاح للتنفير منه، وتشويهه فيقال: إنه يدعى التجديد، أو يدعى الاجتهاد، أو تجاوز نصوص المتأخرين ونحوها. في العصور الحديثة – منذ ثلاثة قرون بدأت تَغيُّرات على ساحة الأمة من خلال دعوات إصلاحية سلفية التوجه في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، السنوسية في شمال إفريقيا، السلفية في المغرب خاصة لدى المولى سليمان، والعلماء معه، وبعده، أهل الحديث في الهند ابتداء من الإمام أحمد السرهندي وولي الله الدهلوي، اليمن مع الصنعاني والشوكاني ونحوهم، في الوقت نفسه كان قد بدأ تفكك الدولة العثمانية وضعفها، ثم انحلالها وظهور دعوات إصلاحية جديدة، ووقوع أكثر بلاد المسلمين تحت هيمنة الاحتلال الغربي الذي خَلفَتْه حكومات وطنية عسكرية – في الغالب – ذات اهتمام دنيوي، لا ديني تحت رايات قومية، واشتراكية ... إلخ. في مرحلة " العصور الحديثة" كان لمجتمع الجزيرة العربية الذي أصبح بعد ذلك "المملكة العربية السعودية" نمطاً مميزاً في تحولاته الثقافية، توصف ب (الخصوصية) وإن كان بعض الناس ينفر من هذه اللفظة التي أصبحت - خاصة مع مد العولمة – في تصور هؤلاء دعوة إلى العزلة، والانطواء عن مسيرة العصر. تشكلت هذه الخصوصية من خلال عدد من العوامل: - دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية السلفية؛ حقيقتها، وحيويتها الاجتماعية، وامتداد تأثيرها زمنياً، ومكانياً، وانحصار مسلكها الإصلاحي في التصحيح العقدي، والعبادي، والضبط السلوكي الاجتماعي مقاومةً لمخلفات عصور التدهور الحضاري، لكن دون تواصل مع الحضارة الغربية المعاصرة ولا تفاعل فكري وتقني معها ذي بال. خصوصية المملكة - عدم وقوع هذا البلد في قبضة الاحتلال الأجنبي الذي يفكك المجتمع إذا احتله ويعيد تركيبه بما يتسق مع مصالحه. - انبعاث الدعوة الإصلاحية مع تشكله الأخير – خلال القرن الرابع عشر الهجري، العشرين الميلادي عبر تبني الدولة لها، بما تبعثه في المجتمع من ثقافة شرعية لدى عموم شعبه، وبناء علمي شرعي لدى النخبة المتعلمة تعليماً دينياً. - أجل مع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود استعيدت الحركة الإصلاحية، وفُعِّلت في إطار الأوضاع المتغيرة: مثل تشكل الدولة الحديثة، الانفتاح على العالم، التفاعل العلمي والدعوي مع العالم الإسلامي، ومع حركة الوعي الديني العام، ونحوها من أمور لم تكن الدعوة في نشأتها قد وضعت إجاباتها عليها، وقد عزَّ على الخََلَف من طلاب العلم المنتمين لهذه الدعوة أن يتجاوزوها نحو تجديد ثان فيها، ربما لعدم توفر قدرات مهيأة لذلك، وربما للشعور بأن التغير الحاصل كميُ لا نوعي، ومن ثم يعالج بالقياس على إجاباتها السابقة، وربما لتجنب الإيحاء بانتهاء دورها زمنياً، وكان من لطف الله أن رجال الدولة/ الملك عبد العزيز ثم أبناءه من بعده كانوا يجمعون بين الإيمان الواعي بالدعوة؛ أي بالإسلام في منهجه السلفي المعتمد على القرآن والسنة وبين واقعية عصرهم الذي انفتح عليه مجتمعهم (المحافظ دينياً البدائي مدنياً) بحيث استطاعوا الاتزان بين التفاعل مع عصرهم تقنياً، واجتماعياً، وعلاقات، وبين الاستقامة على دينهم عقيدة، وتشريعاً، ومحاذرة للخروج عليه خاصة في الأسس العامة، والتشريعات كما يضاف إلى ذلك استقطابهم لكفاءات عربية، وغير عربية، ثم لمن تأهل من السعوديين من علماء، ومفكرين للدفع بهذا الاتجاه التحضري. هذه الحالة أقصد انفتاح المجتمع السعودي على عصره بتراثه الفكري غير المتضمن إجابات أسئلة الانفتاح، ومبادرة القادة السياسيين نحو الإجابات العملية لتلك الأسئلة، فضلاً عن فئة ثالثة ظهرت لا هي بالعامة، ولا بالعلماء الشرعيين؛ وهي المثقفون الداعون للتفاعل مع عصرهم دون خروج على الدين – هذه الحالة جعلت المجتمع السعودي يتحول بهدوء في النظرة العامة له إلى محافظ دينياً، عقدياً عبادياً، منفتح اجتماعياً على العصر ومنتجاته التقنية، ثم الثقافية، ولعل هذا هو ما يجعل بعض أبناء هذا المجتمع يقعون في مفارقة غريبة يدركها غيرهم أكثر من إدراكهم هم لها في ذوات نفوسهم؛ وهي هذا الجمع بين المحافظة والانفتاح كل منهما في ميدان، ولكنهما متقابلان ولكل منهما فعله في هذه الذات السعودية؛ خاصة المتدينة ويتجلى هذا الأثر في علاقات الواحد منهم؛ حيث تكون علاقته بالمسلم الآخر علاقة انقباض وتساؤل؛ لأنه انطلق من نرجسيته الدينية المحافظة – بينما علاقته بالآخر غير المسلم علاقة انفتاح معه دون توجس؛ لأنه انطلق من البعد الاجتماعي والمدني الذي يلتقي فيه مع هذا الآخر دون حساسية، وهو – أيضاً - ما يجعل فئات بارزة للعيان – ليست محدودة، وإن لم تكن عامة - متشددة في تدينها العبادي، والشكلي، ضعيفة الورع في حركتها المادية الدنيوية، ولأن العلم الشرعي بصورته " التعليمية" متركز في مجالي العقيدة، والعبادات والمعاملات وفق سياقها الفقهي الموروث بقي هذا العِلْم محافظاً شأن المجتمع بعامة، حذراً من تسرب أي شيء عصري إليه في المنهج أو الموضوعات، أو الأسلوب، معتداً هذه المحافظة قوام علميته وسلامته. تأثيرات خارجية في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري العشرين الميلادي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقيام الأمم المتحدة، وتواصل العالم، وانفتاحه على بعضه بما فيه عالمنا العربي الذي صار يدرك أكثر فأكثر عمق تخلفه الحضاري الذي جعله طُعْمةً يمضغها المستعمرون فاندفع باحثاً عن سلالم يقفز درجاتها نحو تجاوز مأزقه الحضاري، وهنا هبت رياح القومية، والاشتراكية في العالم العربي والإسلامي بعامة على أنها الإيديولوجيات القادرة على بناء مجتمعات ناهضة متقدمة، الكفيلة بحل مشكلات التخلف واجتاحت معها فئاماً من الناس في عالمينا العربي والإسلامي. المجتمع السعودي الذي تحتضن بلاده الحرمين الشريفين، ومسجد رسول الله، وقبره الشريف، وبها نزل الوحي الإسلامي، والوارث للدعوة الإسلامية الإصلاحية،
والذي قامت شرعية دولته على الحكم بشريعة الإسلام، لم يكن ممكناً له أن يرهن نفسه لأي سياق خارج دائرة الإسلام لأن ذلك نوع من الانتحار الذاتي، كما قال محمد جلال كشك، في كتابه (السعوديون والحل الإسلامي)، لكنه أيضاً لا يمكن له أن يتباطأ في عملية تطوير نفسه، والعيش على مستوى عصره حضارياً، بل إن حاجته إلى تسريع وتيرة ترقيه المدني أكبر من غيره نظراً لحياته البدائية، والبدوية، التي تغطي ما لا يقل عن الستين في المائة حين ذلك . وهنا تبنت الدولة – المملكة العربية السعودية – مساراً تطويرياً ينطلق من الوجهة الإسلامية، ويستمر المنجز البشري في أوجه الذي وصل إليه، وصدر كثير من الأنظمة، وكذلك طُور العمل الإسلامي الدعوي، وأنشئت له المؤسسات الكبرى – الرابطة – الجامعة الإسلامية – الندوة العالمية للشباب الإسلامي .. إلخ . لكن بقي العلم الشرعي سواء في حلقاته المسجدية، أو في قاعاته الدراسية في الكليات كأنه في معزل عن هذه التحولات، مع استبطان حالة نفور وخوف من كل جديد على الحياة في المجتمع، وتساؤل عما يريد الجالبون له من جلبه للمجتمع. اتجاهات الصحوة ثم ظهرت (الصحوة الإسلامية) مرتكزة على تراث الدعوة الإصلاحية العلمي الذي درسها رواد هذه الصحوة وأتباعها في تعليمهم، وعلى مشائخهم، ومتأثرة بالحركات الدعوية في العالم العربي، والإسلامي، وعلى الرغم من جمعها بين ذلك الأساس العلمي، وهذا الأثر الواقعي – في مجال الدعوة تحديداً – أي في العمل الدعوي والجهد التربوي، والاهتمام بالجانب السياسي من منظور شرعي مما كان يمكن أن يكون عامل تجديد شرعي في حركة الحياة التي كثرت تغيراتها، وأسئلتها؛ إلا أنها – الصحوة – نحت في قطاع واسع منها منحت تقليدياً في المجال المعرفي، شكلياً في الانفتاح على معطيات العصر، وجمع قطاع منها بين المحافظة السلفية، وروح المواجهة الحركية، وتطوير النظرة الحكمية في المجال العقدي من الأشخاص إلى المؤسسات، والمجتمع كله، ما جعل بعض الدارسين يعتبر هذه الصحوة السلفية التي انطلقت من المملكة حاضن الإرهاب في المملكة وفي خارجها.. (ولقد – يقول المدغري – استيقظ السعوديون أنفسهم في السنوات الأخيرة ليجدوا دجاجة السلفية قد حضنت بيض السلفية الجهادية وفرَّخت أصحاب التفجيرات، وجميع العنف الجارية إلى الآن في مملكة آل سعود) (الحكومة الملتحية – عبد الكبير العلوي المدغري ط1/65). وأنا هنا لا أسوق كلامه إقراراً له، ولكن لبيان أن تلك الصورة أوحت لبعض الدارسين ما جعلهم يربطون الإرهاب بها. ثم توالت في نهايات القرن العشرين الميلادي أحداث كثيرة، وتحولات كبيرة ومتتابعة؛ كسقوط القوة الشيوعية، وحروب الخليج، والثورة الإيرانية بتطلعاتها القومية، والعولمة بتداعياتها – الديمقراطية – حقوق الإنسان – المد الليبرالي، والانفجار الإعلامي، والاتصالي، والمعرفي ، والانكشاف من الغير لنا، ومنا للغير، وموجات الإرهاب، والتطرف.. إلخ ما جعل الناس يشعرون أنهم بدأوا يعيشون في عالم جديد بُدِّل بعالمهم السابق، وأن المخاطر لم تعد جزئية تأتي متباعدة، وأن الفرص تنفتح بالجملة للعمل الحضاري، والأحداث يأخذ بعضها برقاب بعض وصار الناس في إطار مجتمعهم الذي انهارت الحدود بينه وبين العالم، وتحت لواء الصحوة الذي أعلن لهم روادها أن حل مشكلاتهم، وتحقيق نهوضهم الذي فشلت كل الأيديولوجيات في تحقيق شيء منه مكفول لهم بالإسلام إذا تحققوا به في حياتهم الفكرية والعملية وأنهم بذلك سينالون نهوضهم، ويرضون ربهم، ويتمكنون من أفضل ما في عصرهم في مختلف الجوانب. هنا – قال الناس – بلسان الحال – ها قد عدنا لإسلامنا، وكما أقبلنا على التعبد صلاة، وصياماً، وحجاً، واعتماراً فأقمناها نريد أن نقيم حياتنا الاجتماعية التي يعيشها عصرنا، ونعيشها على الإسلام؛ فأين إجابتكم أيها لعلماء، والدعاة، والرواد الإسلاميون على أسئلة هذا الواقع، أين البرامج العملية الإسلامية المعاصرة التي ننخرط فيها بصفتنا مسلمين نعيش عصرنا بأزماته، وإمكاناته. وإذا كان هذا عاماً للشعوب المسلمة في كل الأقطار التي أكثر لا تكترث حكوماتها بهذا الشأن، أو ترفضه، فإنه في المملكة الدولةُ مع الشعب يطلبان كلاهما من العلماء والدعاة هذه المساهمة الإيجابية المذكورة. دوافع التغيير كثير من العلماء الشرعيين والدعاة المهمومين بدينهم وأمتهم ومجتمعهم يشعرون بأن المطلوب منهم تجاه الواقع مواقف، أو مبادرات ريادية أصبح فرض عين لا يسعهم السكوت عنه وبدأ بعضهم يتفحص قدراته، أو يتساءل عن موقعه في الحراك الإسلامي القائم، أو ينقد معارفه التي كونها من حيث مدى تأهيلها له للإيجابية في هذا الحراك، أو يسعى لتكوين تصور أكثر تماسكاً وشمولاً عن الواقع بتموجاته، أو يتأمل مشدوهاً لتداول المبادرة بين التيارات، وهو يرى تياراً غير تياره يكثف فعله الفكري في السياق الاجتماعي، ليبدو التيار الإسلامي واقفاً في حالة رد الفعل بكل صور ضعفه. صورٌ كثيرة من التأملات الفردية، ومن التَّباثَّ المشترك مثلت بمجموعها حالة مخاض هي نتاج (أزمة فكرية حادة تجاه حركة الواقع). هذا "الواقع" الذي كما أسلفت اختلف عليهم في نسقه، الفكري، ومستواه الثقافي بصورة تكاد تكون جذرية، وفي نمط حياته المدنية، وفي تفاعله مع العالم بكل مستجداته، وفي ضغط العولمة الذي يحيط به مما أدرك – معه هذا الرائد- أو تراءى له أن نسقه الفكري الذي كان يمتح منه إجابات جاهزة لم يعد قادراً على إغاثته بما يكفي، وأنه بحاجة إلى أن يفعِّل ذاته الاجتهادية مما يحيله تلقائياً إلى الشريعة في نصوصها، وقواعدها، ومقاصدها من جهة، وإلى الجهود الاجتهادية المعاصرة لعلماء خارج مداره الفكري والجغرافي، ممن لم يكن منجذباً للقراءة لهم من جهة أخرى. عاد بعض العلماء، والدعاة نحو تأهيل الذات عبر هذين المسلكين وسواهما. وصار هؤلاء يقرأون أنفسهم، وواقع مجتمعهم ببناه الفكرية، وتقاليده، بل ومشاعره وروحه الدينية من جهة والمتجهة نحو عصرها ، ويسبرون إفرازات ذلك كله على مستوى الفكر –كما في الشبكة العنكبوتية – والسلوك .. كما يقرأون خارج مجتمعهم أيضاً فكراً، وعلماً شرعياً لعلماء، ومفكرين، وحياةً ثقافية اجتماعية لتلك المجتمعات المسلمة بالذات. هذه القراءة للذات والواقع، للمحلي، والخارجي التي شملت، مستويات مختلفة أحدثت تحولاً لدى هذه الفئة من طلاب العلم، والدعاة في المشاعر – ومن ثم في الفكر – أنهم أصبحوا يقرأون خارج القفص، وأنهم صاروا يتفهمون الاختلاف، والمختلف عنهم في الاجتهادات، وتجاوز العقلية العامية! في التعامل مع الأشياء؛ تصوراً مختزلاً لها، وارتجالاً في الأحكام عليها، وتحريماً لغير المعتاد من المستجدات، ووقوفاً عند بسائط القضايا، وعزوفاً عن التحليل وتقديساً للأشخاص، ومن ثم لآرائهم مهما تبدى نقصها، والتعامل مع الواقع وفق مستجداته، والتخطي المستحيي لبعض القواعد المكبِّلة للعقل عن الاجتهاد؛ من مثل : ((ضلال من قال في مسألة ليس له فيها إمام) و (شروط الاجتهاد الكثيرة، المستحيل تحققها في بشر فرد الآن)... إلخ. التحول في هذا المسار بطيء، وليس عاماً للجميع؛ لكنه جار ومستمر، ويتضح سنة بعد أخرى، سواء على مستوى الأفكار عند مناقشة القضايا في الأقسام العلمية، وفي الأطروحات، والندوات، أو على مستوى الأفراد؛ تعاقب الأجيال، وإطلال على العصر من قبل الجيل الشاب، وتقديم دراسات لها اجتهادات قد تختلف من اجتهادات علماء بارزين أو حتى هيئات فقهية؛ كما في مثل نقل الأعضاء، والتأجير المنتهي بالتمليك.. وإلخ – كما قلت هو تحول إيجابي يتضح بتقدم الوقت، حتى لقد أصبح الذين يتسيدون المجالس مستندين على دعامات من كونهم طلاب الشيخ الفلاني، أو – مجرد – يحفظون كذا من المتون، أو لديهم الجراءة لإعطاء الأحكام الاجتهادية الحدية، ومصادرة مخالفتها بحجة مخالفته للدين، أو للمنهج السلفي، أو للعالم الفلاني – لقد أصبح هؤلاء – يتأخرون و يتريثون؛ فإن وجدوا من في المجلس على شاكلتهم تقدموا، وإلا تواروا يتهامسون، أو يستبطنون أفكارهم لمجلس آخر . •أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.