ليس من الإنصاف الحكم على أي مسلسل درامي إلّا بعد اكتمال حلقاته، ومسلسل»أم هارون» يدخل ضمن الدراما التاريخية، والتاريخ من الخطوط الحمراء، والمعالجة الدرامية لأية أحداث تاريخية لابد من مراعاة الدقة فيها، والتوثق من صحة أية معلومة سواءً كانت في الحوار، أو في زمن ومكان الحدث التاريخي، ومن حيث العادات والتقاليد الاجتماعية، وطراز المباني وملابس الرجال والنساء في ذاك الزمان والمكان والأواني المستخدمة المتعلقة بشخصيات الحدث التاريخي ومنازلهم ومتاجرهم ومزارعهم وغيرها بتفاصيلها الدقيقة. لكن مسلسل أم هارون تخطى كل الخطوط الحمراء، فتطاول على التاريخ، وغيّر في حقائقه، وتلاعبَ به منذ حلقته الأولى، وهذا ما دفعني إلى التنبيه إلى خطورة ما جاء في الحلقة الأولى من المسلسل في ما ذكره مذيع المذياع، وجميع ممثلي المسلسل وممثلاته يستمعون إليه، وهو يقول « فقد تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في مدينة تل أبيب بعد انتهاء الانتداب البريطاني على أرض إسرائيل»!!. ففلسطين لم تكن قط أرض إسرائيل، وتوجد نصوص توراتية تشهد أنّ الفلسطينيين أوّل من سكن فلسطين، وأنّ فلسطين أرض كنعان، فقد ورد اسم الفلسطينيين في سفر التكوين أول أسفار العهد القديم «وتغرّب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أيامًا كثيرة» [سفر التكوين:21: 34.] فهذا النص يُثبت حق الفلسطينيين في فلسطين بدون أدنى شك، كما تحدّث سفر التكوين عن غربة إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام في أرض كنعان، ممّا يؤكد عدم وجود حق لليهود في فلسطين: «وسكن يعقوب في غربة أبيه إسحاق في أرض كنعان»[سفر التكوين: الإصحاح 37: 1]، وجاء يعقوب إلى إسحاق أبيه إلى مَمْرَا قرية أربع، التي هي حبرون (حبرون هي مدينة الخليل عليه السلام، سُميِّت باسمه عندما وفد إليها) حيث تغرَّب إبراهيم وإسحاق» [التكوين:الإصحاح 35: 27]. وتشهد نصوص التوراة باستقرار الكنعانيين العرب في فلسطين قبل زمن إبراهيم عليه السلام، حتى نسبت المنطقة كلها إليهم، وسميت الأرض باسمهم:»فأخذ أبرام (قبل أن يسمى إبراهيم) ساراي امرأته ولوطًا ابن أخيه، وكل مقتنياتهما التي اقتنيا، والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى أرض كنعان، واجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم (اسم كنعاني وليس عبرياً، وتعني المكان المرتفع، نابلس حاليًا) إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض»[تكوين: 12/ 5- 6]، «وكان الكنعانيون والفزريون (وهم من العرب أيضًا) حينئذ ساكنين في الأرض» [تكوين: 13/7]. كما توجد نصوص توراتية ورد فيها اسم القدس، ممّا يؤكد عروبة القدس منذ القدم، ورود هذا الاسم على نحو ما هو وارد في التوراة «فَإِنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ مِنْ مَدِينَةِ الْقُدْسِ وَيُسْنَدُونَ إِلَى إِلهِ إِسْرَائِيلَ. رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ.»[انظر:إشعياء:48/2.] ممّا يُلفت الانتباه أنّ هذه الأسماء جميعها: صهيون، يروشالايم (أورشليم) القدس، ليست أسماءً عبرية، أو يهودية، ولا يمكن ادعاء ذلك بأي وجه من الوجوه، وإنّما هي كنعانية، عُرفت بها المدينة قبل أن يدخلها الإسرائيليون.[محمد جلاء إدريس: أورشليم القدس في الفكر الديني الإسرائيلي: ص 18. 19.] من ذلك: أ- «وسكن رؤساء الشعب في أورشليم، وألقى سائر الشعب قرعا ليأتوا بواحد من عشرة للسكنى في أورشليم، مدينة القدس، والتسعة الأقسام في المدن.»[نحميا:11/1] ب- تُفرِّق نصوص العهد القديم دائمًا بين صهيون -أو مدينة داود- وأورشليم القدس (مدينة داود هذه ليست هي أورشليم القدس: «سبحي يا أورشليم الرب. سبحى إلهك يا صهيون»[مزمور: 147/12.] وتعترف أسفار العهد القديم ذاتها بعدم عبرانية ويهودية المدينة في خطاب حزقيال لأورشليم: «هكذا قال السيد الرب لأورشليم: مخرجك ومولدك من أرض كنعان، أبوك أموري وأمك حثية»[حزقيال: 16/3] فالكنعانيون الذين جاء ذكرهم في التوراة هم عرب ساميون سكنوا فلسطين قبل هجرة إبراهيم الخليل إليها من العراق، فهم أوّل من استقروا في فلسطين وإليهم يعود تأسيس حضارة فلسطين القديمة وترجع حضارة الكنعانيين إلى عصور موغلة في القدم، فمنذ مرحلة العصر الحديث التي تعود إلى 8000 - 4000 ق.م بدأت هذه الحضارة تنمو في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والفكرية وتتقدم في مجال التمدن. فكيف أصبحت أرض الفلسطينيين أرض إسرائيل، وقد ذكرت في أول أسفار العهد القديم (سفر التكوين) أنّها أرض الفلسطينيين؟!. أمّا اسم» تل أبيب»، فهو اسم الحي الذي كان يسكنه اليهود في يافا، أسس في فترة الحكم العثماني ما بين سنتي 1909- 1910م. أمّا مدينة يافا فهي من أقدم وأهم مدن فلسطين التاريخية، فقد أسسها الكنعانيون في الألف الرابع قبل الميلاد، وكانت منذ ذلك التاريخ مركزًا تجاريًا هامًا للمنطقة، وتقع اليوم ضمن بلدية «تل أبيب - يافا» الإسرائيلية، على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط -حسب التقسيم الإداري الإسرائيلي. وتبعد عن القدس بحوالي 55 كيلومتراً إلى الغرب. وقد هُجِّر معظم سكانها العرب بعد نكبة عام 1948م. والسؤال الذي يطرح نفسه: إلى ماذا يهدف صنّاع مسلسل»أم هارون» من تغييرهم لكل هذه الحقائق التاريخية، ب(18) كلمة جاءت على لسان مذيع مذياع المسلسل سلبت من الفلسطينيين حقهم في وطنهم فلسطين؟، وما قيمة ما أورده المسلسل في حلقاته الأولى من مظاهرة وجمع تبرعات لدعم الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، بعد الرسالة التي وجّهها لمشاهديه في حلقته الأولى التي نسفت القضية الفلسطينية من جذورها بالزعم أنّ دولة إسرائيل قامت على أرض إسرائيل؟!!.