20 يونيو موعد الإعلان عن إلغاء الضريبة في "سياحة جدة"    أمير تبوك يستقبل رئيس وأعضاء لجنة جائزة سموه للمزرعة النموذجية    الرئاسة العامة تقدم مجموعة خدمات توعوية نوعية للحجاج والمعتمرين والزوار    جهود المملكة العربية السعودية في صيانة جناب التوحيد والتحذير من الشرك    الأمين العام للجامعة العربية يلتقي نائب الرئيس الصيني    رئيس الوزراء الإسباني يستقبل الوفد الوزاري بشأن التطورات في قطاع غزة    أمير الشرقية يتفقد عدداً من إدارات خدمات المستفيدين والمستفيدات بالإمارة    النفط يصعد والذهب في انخفاض    إصدار صكوك دولية ب5 مليارات دولار    الجامعة العربية تدعو إلى إعادة صياغة التشريعات لمواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي    الدوسري يناقش عددا من البنود خلال اجتماع الدورة 19 للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب    رفع الطاقة الاستيعابية لقطار الحرمين السريع لموسم حج 1445    البديوي يشارك في الدورة ال 16 لمهرجان الخليج للإذاعة والتلفزيون    رابطة العالم الإسلامي تُدين مجازر الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني    الصحة الفلسطينية تعلن انهيار المنظومة الصحية في غزة    التصريح للخطوط الجوية البولندية بتشغيل رحلات مباشرة للسعودية ابتداء من 4 يونيو    أمير المدينة يكرم الطلاب الحاصلين على جوائز محلية وعالمية    أمير حائل يشهد حفل التخرّج الموحد للمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني    هل باتت «الهدنة» من الماضي؟    رونالدو يعلق على انجازه في الدوري السعودي    رياح مثيرة للأتربة على الرياض    وزير الداخلية يدشن مشروعات حدودية أمنية بنجران    الهلال يمًدد تعاقده مع جورجي جيسوس    القادسية يتوج ب"دوري يلو"    إضافة خريطة محمية الإمام لخرائط قوقل    "الشؤون الاقتصادية": اكتمال 87% من مبادرات الرؤية    طائرات "درون" في ضبط مخالفات المباني    خيسوس وكاسترو.. من يحصد «أغلى الكؤوس»    أمير تبوك يطلع على استعدادات جائزة التفوق العلمي والتميز    «الشورى» يطالب «حقوق الإنسان» بالإسراع في تنفيذ خطتها الإستراتيجية    وزير الحرس الوطني يرأس اجتماع مجلس أمراء الأفواج    5 أعراض يمكن أن تكون مؤشرات لمرض السرطان    تحذير لدون ال18: القهوة ومشروبات الطاقة تؤثر على أدمغتكم    هذه الألوان جاذبة للبعوض.. تجنبها في ملابسك    هؤلاء ممثلون حقيقيون    القيادة تهنئ رئيسي أذربيجان وإثيوبيا    كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة.. ريادة في التأهيل والتطوير    أمير المدينة يستقبل السديس ويتفقد الميقات    الهلال الاحمر يكمل استعداداته لخدمة ضيوف الرحمن    الملك يرأس جلسة مجلس الوزراء ويشكر أبناءه وبناته شعب المملكة على مشاعرهم الكريمة ودعواتهم الطيبة    هيئة تنظيم الإعلام: جاهزون لخدمة الإعلاميين في موسم الحج    مكتب تواصل المتحدثين الرسميين!    ولاء وتلاحم    تواجد كبير ل" روشن" في يورو2024    الحسيني وحصاد السنين في الصحافة والتربية    اختتام معرض جائزة أهالي جدة للمعلم المتميز    العروبة.. فخر الجوف لدوري روشن    وزارة البيئة والمياه والزراعة.. إلى أين؟    أسرة الحكمي تتلقى التعازي في محمد    أخضر الصم يشارك في النسخة الثانية من البطولة العالمية لكرة القدم للصالات    مثمنًا مواقفها ومبادراتها لتعزيز التضامن.. «البرلماني العربي» يشيد بدعم المملكة لقضايا الأمة    أمريكي يعثر على جسم فضائي في منزله    «أوريو».. دب برّي يسرق الحلويات    شاشات عرض تعزز التوعية الصحية للحجاج    دعاهم للتوقف عن استخدام "العدسات".. استشاري للحجاج: احفظوا «قطرات العيون» بعيداً عن حرارة الطقس    عبدالعزيز بن سعود يلتقي القيادات الأمنية في نجران    سلمان بن سلطان: رعاية الحرمين أعظم اهتمامات الدولة    القيادة تعزي حاكم عام بابوا غينيا الجديدة في ضحايا الانزلاق الترابي بإنغا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في سياق تكريم النادي الأدبي بالرياض للأديب ابن إدريس:
ندوة علمية حول جهوده الشعرية والنقدية والصحفية د.البازعي: من «الأثنينية» وأنشطة أخرى أدركت قدرة ابن إدريس وعطاءه د. عبدالمحسن القحطاني: ورقة الهويمل ضبابية مخاتلة
نشر في الجزيرة يوم 22 - 11 - 2002

*تغطية- عبدالحفيظ الشمري/ تصوير- التهامي عبدالرحيم:
في سياق حفل تكريم النادي الأدبي بالرياض للأديب الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن إدريس الذي جرى على مدى يومي الأحد والاثنين 12، 13 رمضان المبارك.. كانت هناك ندوة علمية حول مسيرة وعطاءات الشيخ ابن إدريس الشعرية والنقدية والصحفية في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض.
اقيمت الندوة مساء الاثنين حيث استهل مديرها الدكتور عبدالعزيز السبيل الحديث مرحباً بالحضور والمشاركين وهم الأستاذ الدكتور ناصر بن سعد الرشيد والأستاذ الدكتور حسن بن فهد الهويمل والدكتور عبدالعزيز بن سلمة.
حدد الدكتور السبيل «مدير الندوة» الوقت لكل متحدث بنحو عشرين دقيقة محاولاً في هذا السياق أن يعطي للحضور فرصة مناسبة للحديث عن الضيف ابن إدريس، أو المداخلة على أوراق المشاركين في هذه الندوة.
كانت البداية للناقد الأستاذ الدكتور ناصر بن سعد الرشيد في ورقة عمله المعنونة « ابن إدريس شاعراً» حيث بدأها قائلاً:
«صاغ الأستاذ عبدالله بن إدريس تصوره للشعر صياغة تقارب المقايسة أو القولبة في كتابه «شعراء نجد المعاصرون» إذ يقول «أنا لا أعدُّ الشعر شعراً ما لم يكن على قدر كبير من التأثير القوي والموسيقية الهادئة الحنون، والتصوير الصادق والتعبير المنسجم، وليس بشاعر من لم يكن ذا خيال خصب مجنح وذا أنغام عذبة ومعانٍ متساوقة، متدفق الشعور، عميق الإحساس بجمال الكون والحياة».
إن ابن إدريس في هذه المقولة القصيرة يضع شروط الشاعرية الحقة. وان كنت لا أخالفه كثيراً في هذه المقايسة فإنني سأنطلق في دراستي لشاعرية ابن إدريس وشعره من معياره هذا.
ويبدو لي ان ابن إدريس لم يكن مقتنعاً بهذه المقايسة فقد كرس هذه المقايسة لألفاظ الشعر دون معانيه ومجالاته وموضوعاته، إذ إن الخلاف بين الفنية والموضوعية في وقت كان ابن إدريس هو الدرس النقدي الذائع، أدرك ابن إدريس ذلك وتلافاه في مكان آخر من كتابه الرائد المشار إليه آنفا وهو يتحدث عن الواقعية، لأن ما قرره سابقا من معيار نقدي للشعر إنما ينطبق على مذهب واحد هو مذهب الرومانسية. فأنت مقايسته في هذا الباب مقايسة تشمل الموضوع والفنية أو المعنى واللفظ، يقول: «لابدُّ للأديب في سبيل التأثير على الواقع من صبغ الأثر الأدبي بالأصباغ الملائمة وتلوينه، والانفعال به، واختيار النماذج الحية التي لها جوانب وأهداف إنسانية بناءة، كما لابدَّ له - من ناحية المضمون من الاندماج في واقعه ومعايشته أحداثه، والمشاركة في معركة التطور الاجتماعي، واشاعة الروح العصرية التي تحترم الإنسان وتؤمن بحريته وكرامته وحقه في الحياة الحرة الكريمة التي تكره وتمقت الأثرة والمحسوبية والاستهتار والتحكم والظلم والاستغلال والاحتقار والتعسف الفكري، وكل ما من شأنه إرجاع عجلة الحياة إلى الوراء».
ويتبنى ابن إدريس شرطاً في الواقعية خاصاً بمجتمعه وهو «الدعوة إلى الأخوة العربية الإسلامية المتراحمة المتعاطفة، وتحث على الخير والفضيلة وتنهى عن الشر والطغيان، ومن أهداف هذه الواقعية في الشعر، إحلال المساواة بين أفراد المجتمع وإزالة الفوارق التي لم يرد لها أساس في الدين ولا مستند من العقل السليم، ودستورها في ذلك قول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام «الناس سواسية كأسنان المشط» وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».
هذا ولا أدري أنلزم ابن إدريس شروطه. ومقاساته، فأنا لا أريد محاكمة ابن إدريس بما يقول فهو شاعر يتأبى على التصنيف ويقول ما لا يفعل، أضف إلى ذلك أنني لست من دعاة التصنيف ولا الدعوة إلى التمدرس والتمذهب، وخاصة في الشعر وحتى لو أردت تصنيف ابن إدريس في مدرسة فنية شعرية معينة لتأبَّي عليَّ ذلك؛ لأن ابن إدريس وصحبه ومن اتبعه بإحسان لم يتمذهبوا تمذهباً فنياً، شأن أهل الحداثة مثلا فهم مخضرمون لهم لمساتهم التجديدية ومحاولاتهم الانعتاقية من سائد ماكان من منهاج شعري يتوخى غبار السابقين أو يحاول إحياء نسجهم مكانة وفصاحة، وكذلك كل المخضرمين في تاريخ الشعر العربي: لأن الخضرمة في مفهومها الفني انتماء إلى عصرين أدبيين أو مذهبين فنيين كشعراء الإسلام الأوائل وكشعراء المولدين في العصر العباسي ومثل شعراء الخضرمة الحديثة التي تعزف فنياً بمصطلح «شعراء الإحياء»، والحق أننا لو عممنا الخضرمة بمفهومها الزمني والفني لوجدنا أن كل شاعر هو مخضرم بين جيلين، جيل سبقه وجيل هو فيه، وتأسيساً على مفهومي للخضرمة التي لا شك عندي أن ابن إدريس واحد ممن يمثلونها فلا أستطيع أن اصنف عبدالله بن إدريس، ولو حاولت تصنيفه لما انطبقت عليه معايير هذا التصنيف، ولا أعلم شاعراً من شعرائنا يمكن أن تنطبق عليه هذه المعايير، لأن الشاعر ببساطة متمرد لا تحدُّه حدود المدرسة الفنية ولايستسلم لأطر التصنيف الساذج الذي ساد في وقت من الأوقات.
إن مقولتي ابن إدريس الآنفتين صُوى على طريق المنهج الذي أود أن أرسم لدراسة شعر ابن إدريس على أنه هُدىً لا تَتَبُّعٌ أو محاسبة، وهذه الصُّوى هي حسب ترتيب ابن إدريس :
الأولى: التأثير القوي. والشعر إن لم يكن كذلك فهو ضعيف وقديما قال شاعرنا العربي:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه
فليس جديرا أن يقال له شعر
وهزة الشعر التي يحدثها الشعر في المتلقي معيار فني مهم والرواية لشعرنا العربي التي أحدثت الهزة كثير. نعم الرواية كثيرة ولكن هل عند ابن إدريس شاعرنا شيء من ذلك؟ إن شعر ابن إدريس مقايساً بهذا المعيار متأرجح بين إحداث الهزة وبين إحداث السكون حسب حالة ابن إدريس الشعرية وطبقا لصدقه الفني والموضوعي، وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق إذا أخذنا قصيدتين من ديوانه الأول «في زورقي»، الأولى تحمل من الصدق الفني والانفعالي ما يجعلها تثير في قارئها أو متلقيها قدراً من الهزة، والثانية لا تحدث هزة ولا حتى إيماءة لأنها تفتقد ما افتقدته الأولى من السمات الفنية، فالقصيدة الأولى «صوت من الجزائر» قالها في جهاد أهل الجزائر للتحرر من فرنسا يقول:
لا.. لن نحيد عن الكفاح
ولن نحار... ولن نهون
أو يستبَّد بنا السكون
رغم المقاصل والسجون
حتى نمرغ طاغيا
طاغ وقاح
أما القصيدة الثانية فهي من رثاء الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة العربية السعودية آنذاك، يقول:
للعلم عاش وشرعة الإنصاف
وقضى الحياة مكرم الأوصاف
ناداه من نبع المكارم محتدٌ
فغدا يعيد مآثر الأسلاف
خمسون عاما للشريعة خادم
نعم الكفاح موسع الأكناف
هذه الأبيات الثلاثية التي تكون مطلع القصيدة لا تحدث في متذوق الشعر أية هزة، وقد نعتذر لشاعرنا بأن القصيدة قصيدة رثاء «قصيدة مناسبة»، ومثل هذه القصائد ذات المناسبة لا تكون في العادة قوية مؤثرة،، بَيْدَ أن الشعر شعر والموضوع «المعنى» ليس عاملاً فنيَّاً صارماً في إضافة الشاعرية أو التقريرية، وما مرثية متمِّم بن نويرة في أخيه مالك، وابن الرومي في ابنه وابن مناذر في عبدالمجيد الثقفي وأبي تمام في ابن حميد والمتنبي في أم سيف الدولة، ونزار في عبدالناصر والتهامي في ابنه والصيخان في الشيخ ابن باز إلاَّ برهان واضح يرد ادعاء أن شعر المناسبات وخصوصاً الرثاء شعر يفتقد الصدق وإحداث الهزة.
الثانية: الموسيقية الهادئة الحنون: أوافق على الموسيقية شرطا في شعرية الشعر، إذ هي الفارق الجوهري مع وصفها بالهادئة الحنون، فقد تكون كذلك وقد تكون موسيقى هادرة جشة كما هو الحال في شعر الحماسة ومثالها عند ابن إدريس القصيدة التي أوردناها سابقا في جهاد الجزائر، بل قد تكون هذه الموسيقى مبحوحة لتحدث الهزة الحزينة، كما هو الحال في شعر الرثاء الصادق، وأحسب أن جملة من قصائد الرثاء في ديوان العرب التي طرب لها النقاد طرباً يليق بموسيقاها كانت قوافيها عيناً مفتوحة أو عينا مضمومة، والقافية لا ينكر دورها في موسيقى الشعر.
الثالثة: التصوير الصادق: ويقصد به التصوير الفني الصادق لمعاناة الشاعر تجاه الحدث والتعبير عنه بأسلوب شعري يحدث الهزة التي أشار إليها ابن إدريس آنفا، وأحسب أن قصيدة : «المؤذن ابن ماجد حين بكى» يمكن ان تقف شاهدة على صدق التصوير عند شاعرنا، إذ ندغم شاعرنا بمؤذننا فأصبحا شخصا واحداً ابن إدريس المؤذن و ابن إدريس الشاعر، فابن إدريس هو ابن ماجد في الحقيقة يقول:
وطنت نفسي أن أراه مهيلا
بعد الشموخ.. ولم يعد مأهولا
وطنت نفسي وارتفقت صمودها
حتى أهيىء عزمي المغلولا
ومضت شهور سيرها متواثب
نحو النهاية موعداً ووصولا
لكنني عند اقتراب فنائه
ما عدت أقدر أن يروم رحيلا
نفسي ونفسك يا أجل مواقعي
همَّان في همٍّ يبيت شكولا
يترنم الماضي الحفي بروحنا
أبداً.. ويذكر فضلك المبذولا
قالوا غدا «للفجر» تصدح بالندا
وتلم «عفشك» راحلاً موصولا
يا صبح ذاك اليوم رفقاً إنني
ما عدت ذاك الصيدح المجبولا
إن هذه القصيدة التي أبدعها المؤذن ابن إدريس من اجمل ما قرأت للشاعر ابن إدريس، وإن صدق التصوير وصدق التعبير عن معاناة مؤذننا الشاعر ابن إدريس هو ما يميز هذه القصيدة ويرشحها لأن تكون من المختارات أو المفضليات في ديوان شعرنا السعودي الحديث، ولقد استخدم ابن إدريس الشاعر أدوات المؤذن الحقيقي ابن ماجد «المسجد ، المنارة المكرفون، النداء، الصوت، المحراب ونثاره» لكي يخلعها على ابن إدريس الشاعر أو بمعنى آخر وجد ابن إدريس الشاعر عالمه الثقافي والاجتماعي والفكري في مسجد ابن ماجد فاندمج المسجد والعالم وأصبحا شيئا واحداً كما أصبح المؤذن والشاعر شيئا واحداً ولذلك فإن ابن إدريس شعر أو لم يشعر لم يعبر عن ابن ماجد المؤذن ومسجده الجامع الكبير، وإنما كان ابن إدريس ينعى محرابه الشعري المتناثر وصوته المنقطع وفضاءه الشعري المتهدم، وهذا هو ما أحال ابن إدريس الشاعر إلى ابن إدريس المؤذن، وهذا هو ما أحال أدوات ابن إدريس الشاعر «البيت، القصيدة، النادي والجريدة والكتاب، والإلقاء، والإعلان» إلى أدوات المؤذن ابن ماجد «المسجد، المنارة، الميكرفون، المحراب، الغناء.... الخ» وعضد هذا كله بأن شكَّل ابن إدريس الشاعر كلمة «الفناء» المكسورة الألف بالفتح «الغناء»، لأنه كان ينعي نفسه وينعي نفسه وينعى عالمه الشعري والثقافي المتهدم وينعي أمله المتحطم الذي عبَّر عنه بقوله:
لله هاتيك المنائر ما اشتفت
إلا قليلاً في الوجود قليلا
كانت تؤمل أن يطول بقاؤها
لتوزع التكبير والتهليلا
لكنها بعد انفراط عقودها
وهوّيها بعد الوقوف نحولا
لكن ابن إدريس لم يستطع أن يواصل في مسيرته الشعرية هذه الفضيلة الشعرية «صدق التصوير»، إذ نراه في عدد من قصائده، وخصوصا قصائد المناسبات، وهي تمثل جزءا كبيرا من ديوان شعره، يعجز أن يجاري قصيدته في ابن ماجد في صدق التصوير وجيشان المعاناة، ويكاد يجمع النقاد على أن شعر المناسبات أقلَّ شعر الشاعر صدقاً في التعبير إلا ماندر، ولو كان لي من الأمر شيء، لطالبت الشعراء ومنهم ابن إدريس ألا يضمنوا شعر المناسبات البارد دواوينهم التي تحفل بشعر جيد وإنما يفردون هذا الشعر بدواوين مستقلة أو يحتفظوا به لأنفسهم، ولا يمكن لي أن أقارن شاعرية ابن إدريس من قصائده الثلاث: المؤذن ابن ماجد حين بكى، وغبت على مذابح سادر، وفي زورقي» بقصائده التي عنونها بالمراثي أو بالاجتماعيات ويكفينا مثالاً على خفوت صدق التصوير عند ابن إدريس في قصائده الاجتماعيات أو المراثي قصيدته «يوم الجامعة».
أما الانسجام بين الفاظ القصيدة فقد نراها في قصيدته «حفيدي»، إذ يقول:
وتشدو «بكافٍ وغين»
و«كغ»
تردد في نبرتين
ولحنهما يسكبان
صدى اللثغتين
بكاف وغين
تروم التّفوُّه بالأحرف
تزم الشفاه
ولا تقتدر
لكيما تبوح
بما في الحنايا استتر
كأنك مستعجل نهبته
ولو من شقا أمة
مجدها يعتصر
وبوح الرؤى يحتضر
أن هذه القصيدة لا تمثل انسجاماً واحداً كما يرى شاعرها في الشعر الجيد وإنما تمثل عدة انسجامات، فانسجام بين ألفاظها وهي ما اسْتُشْهِد له بها، وانسجام بين ألفاظها ومعانيها، وانسجام بين قائلها وبين المقولة فيه «الذات والموضوع»، فالحفيد هو الجد والجد هو الحفيد، وانسجام في الرمز والمرموز به والمرموز له، وانسجام بين رؤى الشاعر للحياة وللمستقبل وهو يراقص حفيده المسكين الصغير الذي لا يكاد يبين وإنما يلثغ بكغّ فهذه اللثغة الضعيفة والتعجل عند الحفيد للانطلاق هي لثغة الشاعر الجد في خوضه لخضم حياته المعاصرة وهذا التعجل عند الحفيد للمشي هو تعجل عند الجد للانعتاق والخلاص.
الخامسة: «وليس بشاعر من لم يكن ذا خيال خصب مجنح، وذا أنغام عذبة ومعانٍ متساوقة، متدفق الشعور عميق الإحساس بجمال الكون والحياة».
وأخيراً فان هذه الجولة القصيرة التي قمنا بها في شعر ابن إدريس كافية للبرهنة على ريادة ابن إدريس الشعرية في منطقة نجد في بداية النصف الأخير من القرن الماضي ومعه عدد من الشعراء أسهموا في هذه الريادة الشعرية».
وبعد ان اتم الناقد الرشيد ورقته النقدية جاء دور المحاضر الثاني الناقد الدكتور حسن بن فهد الهويمل والذي استهل ورقته المعنونة «ابن ادريس ناقداً» حيث اشار في بداية ورقته الى ان من حق هذا المحتفى به «الشيخ الأديب ابن ادريس» ان نتلمس احسن ما عنده.. مؤكداً في هذا الاستهلال ان تجربة ابن ادريس النقدية تتوازى مع طرحه الشعري فقد يرى انه عرف واستقر بالاذهان على انه شاعر وناقد.
ويضيف الدكتور الهويمل ان استكناه الحالة النقدية لابن ادريس جزء من التاريخ النقدي لدينا حيث يرى انه صاحب تجربة ثرية في مجال النقد رغم انه اصدر العديد من الكتب التي تحمل المضامين النقدية ربما ابرزها كتاب «شعراء نجد المعاصرون».
وطرح الهويمل سؤالاً مهماً يتلخص بالتالي هل عبدالله بن ادريس ناقد ام مؤرخ أدبي..؟.. أيهما ألصق به..؟ وكيف لنا ان نحرر هذا المفهوم النقدي من ظاهرة هذه الدوامة المفرغة..؟ فهو يرى ان من وجد ابن ادريس ناقداً ليس صعباً ان يجد مايريد شاعراً، ومن اراده كاتباً ليس صعباً ان يراه ناقداً.
ويشير المحاضر الى ان علاقته بالاديب ابن ادريس قد تجاوزت نصف قرن، وبعد صدور كتابه «شعراء نجد المعاصرون» قبل اربعين عاماً زادت هذه العلاقة وتوطدت.
ويؤكد «الهويمل» في معرض حديثه عن الضيف على ان هذا الكتاب للأديب بن ادريس قد اصبح مادة متميزة حظيت بالمتابعة وكانت مثار بحث في العديد من المنتديات..
واورد الدكتور الهويمل العديد من الشواهد النقدية التي استدل بها على نزوع ابن ادريس الى استلهام الخطاب النقدي حول جملة من القضايا التي كان يكتبها او يشارك فيها حيث يرى ان رؤيته النقدية تتجسد في طرح رؤية استقرائية خاصة تشكل سياقا معرفياً هاماً.. فيما تواصلت ورقته حول العديد من المفاهيم والرؤى التي كانت منطلقاً لتقديم ورقته حول ابن ادريس ناقداً..
ثم جاء دور المشارك الثالث في هذه الندوة، الدكتور عبدالعزيز بن سلمة الذي بدأ ورقته (عبدالله بن ادريس صحفياً) مؤكداً انها نظرة الى اسهاماته في الصحافة السعودية حيث قال:
ترتبط تجربة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن ادريس بالصحافة في اذهان افراد الجمهور بفترة اصدار صحيفة «الدعوة» وذلك بعد تطبيق الدولة نظام المؤسسات الصحفية في عامي 1383 و 1384ه.
غير ان البداية الحقيقية لتلك التجربة تسبق ذينك العامين بعقد ونصف من الزمن، حينما بدأ ابن ادريس يبعث بأولى تجاربه في ميدان الشعر الى رئيس تحرير صحيفة «البلاد السعودية» عبدالله عريف، وكان عريف رحمه الله ينشر بعض تلك التجارب على علاتها، دون حذف او تعديل، وينشر بعضها الآخر بعد ان قد اعمل فيه القلم، تعديلاً وشطباً وحذفاً، تاركاً الخيار فيما بعد للشاعر المتفتح على دنيا الثقافة والادب لنشر ما كانت تجود به قريحته، دون تعديل، او الاخذ بما كان يقترحه عليه.
تلك كانت تجربة افسح لها عريف المجال للظهور في صحيفته، كبرى الصحف السعودية في نهاية الستينيات الهجرية من القرن الماضي والنصف الاول من السبعينيات، وبعد بضع سنوات على دخوله معترك الثقافة في المملكة من خلال بابها الكبير على صفحات «البلاد السعودية» سرعان ما كشفت تلك التجارب، او لنقل تلك البدايات عن موهبة اصيلة، وتبدى نضجها بعد فترة وجيزة من انطلاق مسيرة الصحافة في المنطقة الوسطى، بقيام الشيخ حمد الجاسر رحمه الله باصدار مجلة «اليمامة» في نهاية عام 1372ه.
اسفر ذلك الحضور في الساحة الثقافية عن نفسه وهو حضور لم ينقطع منذ ذلك الحين وحتى اليوم من خلال قصيدة نشرت في عدد خاص اصدره الجاسر عن وفاة جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن ال سعود رحمه الله ، وكانت تلك القصيدة التي جادت بها قريحة ابن ادريس قطعة فنية جميلة ومعبرة، اودع فيها الشاعر ما كان يشعر به وشعر به كل ابن من ابناء هذه البلاد من حزن وألم، أمام ذلك الخطب الجلل، وخير تصوير لأثر تلك الفاجعة في النفوس قوله:
حمل الأثير إلى العوالم كلها
نبأ «العظيم» فروَّع الأقطارا
يارافع الدين الحنيف على السها«م»
والجاعل الوحي الشريف شعارا
مشت العروبة في جيوشك مصلحاً
بل فاتحاً وممصرا أمصارا
كان عبدالله ادريس من بين عدد محدود من الكتاب الذين بدت مواهبهم التعبيرية ومهاراتهم اللغوية والبلاغية مبكراً، وسجلوا بنتاجهم المنشور في مجلة ثم صحيفة «اليمامة»، وفي صحف سعودية اخرى حضوراً قوياً ولافتاً للنظر، حضوراً بشَّر بقدوم جيل مثقف يرتكز على تراث عربي اسلامي ثري أصيل، ويستند الى ثوابت عقدية ووطنية واضحة، كان ذلك الجيل تواقاً الى الاصلاح والى التطوير، ومنفتحاً في الوقت نفسه على هذا العالم الذي بدأ يقتحم اسوار مدن وقرى وبلدات هذه المنطقة من بلادنا، بفعل تحول صناعة الزيت الى محور رئيس في حياة هذه البلاد الاقتصادية والاجتماعية، وبفعل ما احدثه ذلك العامل من تغيرات في المجتمع السعودي، تجسدت في حركة بناء وتحديث وتوافد اعداد غفيرة من خارج المملكة الى المنطقة الوسطى وغيرها من مناطق المملكة.
وتزامنت تجربة ابن ادريس مع الصحافة مع وضع سياسي عربي فريد، وضع كانت الامة العربية اثناءه تمر في مخاض عسير، دول منها تسعى الى التخلص من براثن الاستعمار، واخرى تسعى جاهدة الى تبوء مكانة الزعامة الاقليمية، انظمة تعين المستعمر على بني جلدتها وانظمة تسعى الى جمع كلمة العرب وبناء قدراتهم، بعيدا عن الشعارات الرنانة وحملات التأجيج، ووسط كل ذلك كان ابن ادريس مثله مثل ابناء جيله يشهد تلاطم وتصادم تيارات فكرية، قوية ومؤثرة في الوطن العربي، لم يسلم البعض من الخوض في اوحالها، وظل هو ومعظم اقرانه في معزل عن التأثر بها، وان كانت معايشتها عن قرب قد اكسبته واكسبتهم نضجاً مبكراً، تبدى جلياً في كتاباتهم فيما بعد.
كان اسهام ابن ادريس في تلك الفترة من فترات مسيرة الثقافة في المملكة ثرياً ومتنوعاً، سطع نجمه في النصف الاول من السبعينيات الهجرية من القرن الماضي مع زميلين له وهما عمران بن محمد العمران وسعد البواردي، وكل هؤلاء يمثلون طليعة الجيل اللاحق لحمد الجاسر وعبدالكريم الجهيمان، وكان نتاج هؤلاء الشباب الثلاثة: ابن ادريس وزميليه، من ناحية النوعية والكثافة، علامة مميزة في حياة صحيفة «اليمامة»، منذ صدورها مطلع عام 1375ه وحتى بدايات الثمانينيات الهجرية.
وفيما بعد اي في النصف الثاني من السبعينيات الهجرية اصبح قلم ابن ادريس حاضراً في الشأن الاجتماعي والثقافي، والتربوي ايضاً، اي في مجال التعبير عن هموم المواطنين، وآمالهم، وتناول بعض المفاهيم مثل مكانة العرب في العالم وواجب المثقف ومسؤولية شباب الوطن، مع تركيز خاص على مفهوم النقد ووظيفته في حياة البلاد والمجتمع، ولعله يضاف الى ذلك انه كان سباقا في طرح بعض المقترحات النافعة، مثل دعوته في افتتاحية لصحيفة «اليمامة» الى تأسيس مجمع لغوي في المملكة، بعد بضعة اشهر من انتخاب حمد الجاسر عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة، منطلقاً في مطالبته تلك، من كون المملكة منبع لغة القرآن الكريم، والمركز الذي انطلقت منه هذه اللغة العالمية، وانتشرت منه مع انتشار الاسلام في العالم.
ولم يكن غريباً ان نجد تطابقاً في فهم وظيفة النقد لدى ابن ادريس وصاحب اليمامة حمد الجاسر الذي جعل مقالين من مقالات ابن ادريس الكاتب الناشئ حينذاك افتتاحيتين للصحيفة في عددين مختلفين، اولهما بعنوان «عندما يضيق المسؤولون بالنقد» والثاني بعنوان «حتى لانمشي على الشوك»، وهذا المقال الافتتاحية كان مثله مثل المقال الاول وصفاً صادقاً لمعاناة الكاتب مع بعض فئات المجتمع مسؤولين ومواطنين الذين لايفهمون او يتفهمون وظيفة النقد ومسؤولية الكاتب الملتزم بقضايا بلاده ومصلحة مجتمعه، وشبيه بالافتتاحية الاخيرة، افتتاحية اخرى مؤثرة وجهها عبدالله عريف الى المديرية العامة للاذاعة والصحافة والنشر، ونشرت في صحيفة «حراء» في تلك الفترة، بعنوان «الى المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر: لكي لا نمشي على الشوك»، ولعله يحسن في هذا المقام ان نقتبس عدداً من الفقرات من الافتتاحية الاولى، بحكم انها تتضمن شعوراً عاماً كان يشاركه فيه شباب وطني متحرق الى الاصلاح، ويستشعر مسؤوليته تجاه رفعة بلاده يقول ابن ادريس:
«ليست مفاهيم النقد ان نعيب الشيء المنقود ونذكر مساوئه لمجرد اتخاذ ما فيه من عيب او نقص وسيلة للتشفي والتشنيع على من وجد منه العيب والنقص.. كلا.. ان النقد اسمى من هذا هدفا وانبل منه غاية.. ان مما يعنيه النقد الصحيح النزيه التوجيه والارشاد الى ما هو خير وافضل.. انه يعني البناء لا الهدم.. والاصلاح لا الفساد.. لأن الناقد اذا عثر على خطأ او ما قد يعتقد انه خطأ لابد وان يناقشه لأمرين: اما لتصويب الخطأ، او للأقتناع بأن ما فهمه هو الخطأ.. وذلك الاقتناع لا يتأتى إلا عن طريق التجاوب بين الكتاب والمسؤولين».
وبموازاة ذلك نجد قلم ابن ادريس يُعنى بالمجال السياسي ايضا، من خلال التفاعل، مقالة وشعراً مع قضايا الامة، ونضال ابنائها ضد الصهيونية والاستعمار، في فلسطين والجزائر وعمان وغيرها، فها هو يعبر عن فرحته بفشل العدوان الثلاثي على مصر في نهاية عام 1956، بقصيدة «هزيمة الاستعمار»، التي ابتدأها بقوله:
حقد امض قلوبهم وسعار
فتآمروا فتجلت الاسرار
وهاهو يحيي ثورة عمان ضد الانجليز بقصيدة اخرى، نشرت في «اليمامة» بعد ذلك بعامين «ثورة عمان اللاهبة».
وبين هذه القصيدة وتلك مقالات ومقالات، بعضها جعلته الصحيفة افتتاحيات لها، تختزن في مفرداتها ومضامينها شعوراً شعبياً عاماً تجاه قضايا الأمة ومعاناة شعوبها، وتتضامن مع تطلع تلك الشعوب الى الحرية والعزة والكرامة، وبعض آخر منها يستحث الهمم ويدعو الى تعبئة الطاقات ونصرة تلك الشعوب، تلبية لواجب الاخوة في المعتقد والشراكة في المصير، ولا يتسع المجال هنا لإيراد شواهد من تلك المقالات، او من تلك التي اتسمت بالرؤية التحليلية المستندة على مراقبة الاحداث واستقرائها، مثل مقاله «عبث الاستعمار واسرائيل بالقانون الدولي»، ومقال «مكانتنا بين الأمم».
ولا يكتمل الحديث عن تجربة ابن ادريس مع الصحافة في تلك الفترة دون الاشارة الى تلك السلسلة من المقالات التي تحدث فيها مطولاً عن مشاهداته في عدد من مناطق ومدن المملكة، اثناء جولات تفتيشية قام بها في اطار عمله الرسمي آنذاك، وكانت تلك المقالات التي بلغت اربعة عشر مقالاً تمثل في مجملها تحليلاً اجتماعياً نفَّاذاً، تجاوز الانطباعات السطحية والملاحظة العابرة التي طبعت معظم مقالات الرحلة آنذاك، وقدم الكاتب من خلالها للقراء صورا صادقة ودقيقة للواقع الذي كانت تعيشه بعض مناطق المملكة، اول تلك المقالات المتسلسلة نشر في شهر رمضان عام 1377ه، وآخرها مقال من اربعة اجزاء بعنوان «مشاهدتي في ربوع جازان» نشرت في الفترة الواقعة بين ذي القعدة 1378ه ومحرم 1379ه.
تلك كانت مرحلة غنية بتجاربها وبدروسها ايضا، توجت باصدار ابن ادريس اول كتبه وباكورة عطائه «شعراء نجد المعاصرون» ومن خلال استعراض ما نشر في فترة صدور الكتاب من مقالات نقدية وتقريظية في صحافة المملكة وفي صحافة عدد من الدول العربية، يتضح جلياً انه حظي بحفاوة وترحيب قلّ ان يحظى بهما كتاب لمؤلف سعودي في تلك الآونة، وقد يكون مرد ذلك اضافة الى جدة وثراء مضمونه الى كونه صدر في القاهرة احدى مراكز النشر الكبرى في السبعينيات الهجرية.
ويخلص الدارس لتجربة ابن ادريس مع الصحافة الى انه وان كان حريصاً على المشاركة بالكتابة في الصحف والمجلات السعودية ولصيقاً بالعاملين في مجالات الثقافة المتمثلة في صناعتي الصحافة والنشر، لم يكن قبل منتصف الثمانينيات الهجرية، وقت تأسيس مؤسسة الدعوة معنياً بالجانب المهني، او لنقل الحرفي.
ثم أتت مرحلة أخرى في مطلع الثمانينيات الهجرية، شهد فيها الاعلام السعودي تغيرات كبيرة، اسهمت في تكوينها ظروف محلية واقليمية وطبعت بتبعاتها واقع المجال الاعلامي، او لنقل الصحفي تحرياً للدقة، وكان على رأس تلك التغيرات اقرار الدولة لنظام المؤسسات الصحفية عام 1383ه وتطبيق ذلك النظام في العام التالي، الأمر الذي ادى الى اسدال الستار على مرحلة طويلة وحافلة من مراحل المسيرة الاعلامية في المملكة.
وبعد، فلم تكن فترة الانصراف عن العمل الصحفي المهني الى مسؤوليات جليلة اخرى لتبعد اديبنا عن مواصلة رسالته في الاهتمام بالشأن العام الذي يتعلق بحياة المواطنين وبالثقافة، ولذلك نجده لم ينفك عن مدَّ الصحف والمجلات السعودية وعدد آخر من الصحف والمجلات العربية بما يجود به قلمه، متفاعلاً مع قضايا وطنه وأمته، غير هيَّاب من التعبير عن قناعاته ووجهات نظره، حتى ولو ادى ذلك الى السجال بالقلم، والمبارزة بالرأي والحجة، وأقرب شاهد على ذلك تصديه لمحاربة طغيان الشعر العامي على المضمون الثقافي في الصحافة السعودية، قبل عقدين من الزمن.
ثم تقوده المسؤولية في مطلع هذا القرن الى عمل صحفي من نوع آخر، عمل تولى من خلاله بصفته رئيساً للنادي الادبي بالرياض اصدار ورئاسة تحرير مجلة «قوافل» و«أدبية»، وهما الدوريتان الادبيتان اللتان لا يزال النادي يصدرهما حتى يومنا هذا، ويجب القول في هذا المقام ان اعباء رئاسة النادي لم تصرفه عن الاسهام بقلمه في صحافتنا المحلية طوال فترة رئاسته للنادي، ولا يزال حتى يومنا هذا يتحف القراء بمقالات شيقة ثرية في مضمونها، جلها يعبر عن تفاعله مع قضايا الوطن والأمة، وقليل منها يمثل اطلالات على الماضي، تجمع بين الطرافة والعبرة.
ان الخطوط العريضة لجهود ابن ادريس في مجال الصحافة المكتوبة والتي سعى كاتب هذه السطور الى تضمينها في هذه السطور توضح بجلاء الدور الذي قامت به هذه الشخصية التي نسعد بتكريمها اليوم، ولكنها وسبق ان قلت ذلك لشيخنا واديبنا الجليل لن تغني عما يجب ان يخطه بنانه هو، ولن تسد فجوات في المعرفة عن تلك الفترة الثرية من تاريخه الصحفي والاعلامي، هو الأعرف بها والأقدر على تسجيلها من غيره بشمولية ودقة.
ولعله في يوم قريب يتحفنا بصفحات عن تلك المرحلة، تتعلق بجوانب مهنية لم يسبق له ان تطرق اليها في كتاباته.
وأخيراً، أجد لزاماً علي أن أثمن ما قام به النادي الأدبي بالرياض من إعداد جيد ومتأن لهذا المهرجان التكريمي الذي يليق بمجتمع وفيِّ يقدِّر جهود وإسهامات علمائه وأدبائه ومبدعيه، وأحمد لهذا النادي ابتعاده عن التسرع والارتجال الذي طالما قلل من ألق الكثير من مناسباتنا الثقافية الكبرى.
وفور أن أتم الاساتذة النقاد اوراق عملهم عن الاديب بن ادريس سمح مدير الندوة د. السبيل للحضور بالتعليق والمشاركة وتقبل الاسئلة.. فكانت اولى المداخلات للدكتور عبداللطيف الحميد الذي شكر فيها النادي الادبي بالرياض على حسن اختيار هذه المناسبة لاهميتها وحضور صاحبها الشيخ عبدالله بن ادريس.. والمح الدكتور الحميد الى ان كتابه «شعراء نجد المعاصرون» هو من اهم الكتب واندرها فربما تكون ندرة هذا الكتاب مفارقة عجيبة تجعله غير موجود بين يدي القارئ والحديث عنه متصل منذ عقود اربعة.
وجاء ثاني المداخلين على الندوة الناقد الدكتور عبدالمحسن القحطاني الذي اشار الى ان حضوره من مدينة جدة ومن النادي الادبي الثقافي فيها هو بمثابة رغبة في المشاركة في هذا التكريم للأديب بن ادريس.
علق الدكتور القحطاني على هذه الاوراق التي قدمها النقاد واصفاً ورقة الدكتور ناصر الرشيد بانها محاولة بين مفهومي «التنظير والتطبيق» وهو يرى انها ليست عيباً لأن ظاهرة الشعر لدى ابن ادريس وغيره تنبع من دواخلنا كبشر وقد نختلف حول لون هذا الشعر او ذاك لكنه يظل هو الضياء القوي في حياتنا الادبية.
ووصف ورقته الناقد الهويمل بانها مخاتلة اعتمدت على اللغة حيث يرى القحطاني ان هذه المحاولة من الناقد الهويمل هي بمثابة ملامسة خفيفة تعتمد على الاسلوب ربما لو نظر الى مقدمة كتاب بن ادريس نظرة متأنية لكفانا مؤونة البحث والنظر. فيما اشار الى ورقة الدكتور بن سلمه واصفاً اياها بانها تجربة في شعرية الضيف لكنه لم يتطرق الى تجربته الصحفية في مجلة الدعوة تحديداً.
وجاءت مداخلة الناقد الاستاذ الدكتور سعد البازعي مؤكدة على اهمية ان تكون هناك ندوات علمية في هذا المجال ومثل هذه المناسبة واورد في سياق مداخلته ان هذه الندوة تحيط بشخصية ابن ادريس من خلال ثلاثة محاور تحدث عنها المشاركون وتمنى الناقد البازعي لو ان هناك محاور اخرى تكون اقرب لحياة الاديب ابن ادريس ربما يلامسها احد ابنائه.
وقدم البازعي ملاحظة مهمة حول تجربة ابن ادريس من خلال النادي الادبي بالرياض حيث ذكر ان «الاثنينية» وهي نشاط منبري متميز سجلت حضورها الايجابي فكان لابن ادريس دور في هذا النشاط الذي تواصل على مدى اعوام عديدة.
ووصف الاستاذ زياد بن عبدالله بن ادريس اوراق العمل المقدمة حول تجربة والده بانها اوراق ربما تلامس التجربة ولا تدخل فيها بعمق حيث اشار الى ان من سبقه في الحديث ولاسيما الدكتور عبدالمحسن القحطاني قد وجه الانتباه الى ان اوراق المشاركين في هذه الندوة قد نختلف معها.. وربما قصيدة «المؤذن» والتي اعجب بها الناقد ناصر الرشيد لاتعجب احداً آخر.. فيما اشار الى ان ورقة الهويمل لفَّها شيء من الغموض والضبابية فلم نعرف ابن ادريس هل هو ناقد ام غير ذلك؟؟ فيما اكد على ان ابن سلمه قد اتجه الى قراءة شعرابن ادريس ولم يقدم حديثاً حول تجربته الصحفية منذ عدة عقود.
وجاءت مداخلة حجاب بن حسن الحازمي رئيس نادي جازان الادبي تصف خلق وشمائل الشيخ عبدالله بن ادريس وتصفه بأنه الزميل المتميز في عطائه وجهده، كما ذكر الحازمي ان علاقته بالضيف قد امتدت منذ مايزيد على اربعة عقود عندما نشر اولى قصائده في مجلة الدعوة واجازها ابن ادريس.
وفي نهاية الندوة اجاب المشاركون على العديد من الاسئلة التي تلاها «المدير» حيث حظيت هذه التساؤلات باجابات مستفيضة شكر على اثرها الحضور والمشاركين منوهاً الى ان النادي الادبي بالرياض سيواصل نشاطاته المنبرية خلال شهر رمضان المبارك.. فيما شكر كل من ساهم في انجاح هذه المناسبة المتميزة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.