الجامعة العربية تدعو إلى إعادة صياغة التشريعات لمواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي    الدوسري يناقش عددا من البنود خلال اجتماع الدورة 19 للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب    وزير الخارجية: الاعتراف بفلسطين قرار صحيح يمنحنا الأمل.. يجب وقف النار فوراً في غزة    رفع الطاقة الاستيعابية لقطار الحرمين السريع لموسم حج 1445    "إدارة الدين" تعلن إتمام ترتيبها لإصدار صكوك دولية ب 5 مليارات دولار    رابطة العالم الإسلامي تُدين مجازر الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني    الصحة الفلسطينية تعلن انهيار المنظومة الصحية في غزة    مفتي عام المملكة ونائبه يستقبلان رئيس جمعية غيث للخدمات الطبية    البديوي يشارك في الدورة ال 16 لمهرجان الخليج للإذاعة والتلفزيون    «الأمر بالمعروف» تسخِّر تقنيات الذكاء الاصطناعي لخدمة ضيوف الرحمن    هل باتت «الهدنة» من الماضي؟    أمير المدينة يكرم الطلاب الحاصلين على جوائز محلية وعالمية    أمير حائل يشهد حفل التخرّج الموحد للمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني    وزير الاقتصاد والتخطيط يبحث مع الوزيرة الاتحادية النمساوية للشؤون الأوروبية العلاقات الثنائية بين السعودية والنمسا    رونالدو يعلق على انجازه في الدوري السعودي    ارتفاع أسعار النفط إلى 84.22 دولارا للبرميل    رياح مثيرة للأتربة على الرياض    "البحر الأحمر" تسلم أول رخصة ل"كروز"    إضافة خريطة محمية الإمام لخرائط قوقل    وزير الداخلية يدشن مشروعات حدودية أمنية بنجران    "الشؤون الاقتصادية": اكتمال 87% من مبادرات الرؤية    الهلال يمًدد تعاقده مع جورجي جيسوس    القادسية يتوج ب"دوري يلو"    طائرات "درون" في ضبط مخالفات المباني    وزير الحرس الوطني يرأس اجتماع مجلس أمراء الأفواج    خيسوس وكاسترو.. من يحصد «أغلى الكؤوس»    أمير تبوك يطلع على استعدادات جائزة التفوق العلمي والتميز    «الشورى» يطالب «حقوق الإنسان» بالإسراع في تنفيذ خطتها الإستراتيجية    5 أعراض يمكن أن تكون مؤشرات لمرض السرطان    تحذير لدون ال18: القهوة ومشروبات الطاقة تؤثر على أدمغتكم    هذه الألوان جاذبة للبعوض.. تجنبها في ملابسك    مكتب تواصل المتحدثين الرسميين!    هؤلاء ممثلون حقيقيون    القيادة تهنئ رئيسي أذربيجان وإثيوبيا    أمير المدينة يستقبل السديس ويتفقد الميقات    الهلال الاحمر يكمل استعداداته لخدمة ضيوف الرحمن    كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة.. ريادة في التأهيل والتطوير    الملك يرأس جلسة مجلس الوزراء ويشكر أبناءه وبناته شعب المملكة على مشاعرهم الكريمة ودعواتهم الطيبة    هيئة تنظيم الإعلام: جاهزون لخدمة الإعلاميين في موسم الحج    العروبة.. فخر الجوف لدوري روشن    أخضر الصم يشارك في النسخة الثانية من البطولة العالمية لكرة القدم للصالات    القارة الأفريقية تحتفل بالذكرى ال 61 ليوم إفريقيا    ولاء وتلاحم    تعاون بين «الإلكترونيات المتقدّمة» و«نوبكو»    الحسيني وحصاد السنين في الصحافة والتربية    اختتام معرض جائزة أهالي جدة للمعلم المتميز    مثمنًا مواقفها ومبادراتها لتعزيز التضامن.. «البرلماني العربي» يشيد بدعم المملكة لقضايا الأمة    أمريكي يعثر على جسم فضائي في منزله    «أوريو».. دب برّي يسرق الحلويات    وزارة البيئة والمياه والزراعة.. إلى أين؟    أسرة الحكمي تتلقى التعازي في محمد    تواجد كبير ل" روشن" في يورو2024    شاشات عرض تعزز التوعية الصحية للحجاج    دعاهم للتوقف عن استخدام "العدسات".. استشاري للحجاج: احفظوا «قطرات العيون» بعيداً عن حرارة الطقس    عبدالعزيز بن سعود يلتقي القيادات الأمنية في نجران    ملك ماليزيا: السعودية متميزة وفريدة في خدمة ضيوف الرحمن    تفقّد ميقات ذي الحليفة.. أمير المدينة: تهيئة الخدمات لتحسين تجربة الحجاج    القيادة تعزي حاكم عام بابوا غينيا الجديدة في ضحايا الانزلاق الترابي بإنغا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشيخ/ سلمان بن فهد العودة
خطبة الجمعة.. رؤية تصحيحية
نشر في الجزيرة يوم 16 - 06 - 2002

نشتكي كثيراً من سيطرة الآخرين على الإعلام، وهذا صحيح، بيد أنه ليس كل الحقيقة؛ لأن هذه السيطرة هي أحد أخطائنا الاستراتيجية العصيّة على العلاج. أما الشق الآخر من الحقيقة فهو أن الميدان الذي نملكه واسع أيضاً، ولكنا أخفقنا في استثماره لأسباب كثيرة.
فنحن - أحياناً - نشعر بأنه لا منافس لنا، فنتحرك ببطء شديد، وأحيانا نشعر بأن الدائرة تضيق علينا، فنهرب إلى معادلة شديدة الاستحالة، وهي: إن ما نملكه لا قيمة له، والشيء القيم لا نستطيعه.
وبين هذا وذاك يخلد المرء إلى التبعية والتقليد والمحاكاة، ويضم إلى ورد الصباح: ليس في الإمكان أبدع مما كان.
لقد تحسن الأمر كثيراً، فلقد كان الخطباء يرددون خطب ابن نباتة المصري حتى وقت قريب! والحق أن سندنا الأقوى هنا هو الدين.
نعم. الدين الذي ساق هذه الملايين إلى ساحة الخطبة طوعاً واختياراً والدين الذي استنصتهم، وكاشفهم أن من مس الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له.
والدين الذي هو اللغة المشتركة بيننا وبينهم، فباسمه نتحدث وباسمه يستمعون فإذا أحسنّا التعامل مع قضاياه وحقائقه أمسكنا بالزمام، وإلا فسيكون الضعف من حيث كانت القوة.
2- المضمون:
وهذا يقود إلى جوهر الموضوع.
فحجر الزاوية هو حسن اختيار موضوع الحديث، وطول التفكير فيه، ليكون قادراً على المواءمة بين مطالب الشرع، وحاجات الواقع، وتطلعات المستقبل.
إن التوفيق في اختيار الموضوع بحد ذاته، نجاح حتى لو حدث نقص في تغطيته.
والاتكاء على مُحكمات الشرع ومجملاته أليق وأوفق، فالحديث عن الله وكمالاته. ونعمه وأعطياته، والقرآن وفتوحاته، والرسول وكراماته، ثم الإيمان وأركانه، والإسلام وأعلامه، والإحسان وبيانه..
وتأييد ذلك ببديع القول، ولطيف الإشارة، ومساق المثل، وأعجوبة القصة، وبليغ الشعر، ومكتشف العلم الحديث، وعبرة التاريخ. مراعياً في ذلك المقصود الأسمى في تحريك القلوب، وتصفية العقول، وضبط السيرة.. دون إيغال في جدليات لا تناسب المقام، أو تذهب ببهجة الكلام. أما تفصيلات الأحكام فلها حيزها المحدود، فلا تستأثر بالأمر، ولا يخرج الحديث الى تشقيق مفرط، أو تشهير محبط، أو محاكمة بين الأقران، أو تهديد بلاهب النيران. اللهم إلا إذا جاء الحديث عن قطعيات ومحكمات، من واجبات أو محرمات، فهناك يكون الاقتداء بمنهج القرآن في الوعد والوعيد.
وأي تثريب على خطيب يأمر بالصلاة والزكاة، أو ببر الوالدين وصلة الأرحام، أو بالإحسان إلى الجيران، أن يشفع حديثه بوعد صدق للعاملين، وجنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين؟!
أم أي تثريبٍ على خطيبٍ ينهى عن الشرك وأسبابه، أو العقوق، أو بخس الحقوق، أو فواحش الأخلاق، أو محكمات المنهيات في الشريعة أن يزع النفوس بوعيد ترجف له القلوب، وتصطك له الأسماع؟
ولعل هذا وذاك خير من عزل الوعد والوعيد عن أسبابهما، وإفرادهما إفراداً يرسل النفوس مع رجاء، أو يقطعها من خوف.
أما مواطن الاختلاف، وتعارك الأسلاف، فحقيق بمن مرّ عليها أن يمر مرور الكرام، عارضاً لكل أحد حجته، ملتمساً عذره، غير مهددٍ ولا متوعد.
على أن الأمر كله في ذلك موصول بكل جديد، ومستفيدٌ من عبر الزمان وأحواله وتقلباته، ومن شهادة الواقع ومعاناته، ومن فتوح العلم ومنجزاته.
ثم إن حاجات الواقع أوسع من ذلك وأفسح.
فقضايا الاجتماع، والعلاقات الاجتماعية بمداراتها المختلفة وتشعباتها ومشكلاتها - حقيقة بالنظر الإصلاحي العميق ومثلها قضايا الاقتصاد وتطوراته وشؤونه وميادينه.. والفقر والبطالة وآثارها.. ومعيار طلب الدنيا وطلب الآخرة.
وهكذا الشأن في مسائل الإعلام ووسائله، وخيره وشره، وحلوه ومره ثم أمور السياسة: مداراتها، واتجاهاتها، وخطئها وصوابها، ثم منجزات العلم في كل الميادين، من طب، وصناعة، وفلك، وتربية، وإدارة، وحاسب، واتصال..
وهذه البنود شديدة اللصوق بحياة الناس الأسرية والفكرية، ولذا فهم شديدو التعلق بطرقها، متى كان الطارق حاذقاً، والمحل موافقاً والحال مواتياً.
يظن البعض أن خوض السياسة هو وحده الذي يكسب الخطيب تألقه، ويحشد حوله الناس.
والصواب أن الموضوع الحي، والتناول السديد، ورشاقة الأسلوب، وجودة الإلقاء، وحسن الانتقال.. هي ضمانات الإبداع، ومحققات الالتماع، وجالبات الاستماع.
وكم من واعظٍ بضاعته التبشير والتخويف، تحتشد حوله ألوف بعد ألوف!
وكم من فقيه متحدث في الحلال والحرام.. والناس حوله فئام إثر فئام!
وكم من مفسر.. ومفكر.. ومنظر.. وما شأن برامج الإذاعة والتلفزة عنا ببعيد!
أي معنى لخطيب يتحدث في الزنا والفاحشة، ولا يعرج على الأيدز وإحصائياته المذهلة، ونظائره من الأمراض الجنسية!
وأي معنى لخطيب يتكلم في النكاح، والطلاق، ولا يعرّج على أثر الإعلام والمسلسلات الرومانسية، والروايات الغرامية، ولا يستشهد بالإحصاءات والأرقام، ويذكر كل ذلك بلسان العارف الخبير المطلع، لا بلسان الناقل المتلقف المتخطف!
وأي معنى لخطيب يتحدث عن الإعلام، ثم يجمل الحديث عن الإنترنت ووسائل الاتصال باعتبارها رجساً من عمل الشيطان، أو شراً محضاً ينبغي محاربته ونبذه!
إن ثقافة الخطيب الشخصية ذات أثر بعيد في نجاحه، ويفترض أن ما يلقيه المتحدث في موضوعه لا يتجاوز 10% مما قرأه حول الموضوع.
وحين تتناول هذا الموضوع، أو ذاك، فتذكر أن في مستمعيك من يفوقك - ولو في موضوع خاص - فجاهد نفسك في الدقة العلمية، وإصابة المرمى، وإن أعوزك الأمر فلذ بتعميم العبارة، وتوسيع الإشارة، وحاذر من حكاية الأوهام، بحجة أنك لست في باب الحلال والحرام، فإنك تخسر بذلك كل يوم فئة تدري أن ما تحكيه ليس بصواب، فتنجفل إلى الباب!
وأقمِنْ بالخطيب - والحديث يجر بعضه بعضاً - ألا يصغي بأذنه لخبر محتمل، أو رواية مترددة، أو ظن أو تخمين، حتى يعلم علم اليقين!
وما أحراه أن ينأى بنفسه عن الحديث عن الأشخاص، والأعيان تصريحاً أو تلميحاً!
وما أجدره أن يجانب لغة السب والتقريع والتوبيخ، ورديء القول، وشنيع المقال، فالعفة من الإيمان، والبذاءة في النار.
وليكن في وارد البال أنه كلما كان الموضوع أكثر تحديداً - في هذا الباب - وأكثر دقة، وأبعد عن التعميم كان ذلك أدعى لسهولة الإعداد، وأيسر لتحقيق المراد، وأقرب إلى الفهم، وأوضح في الحكم.
ومن تناول الموضوع بعموميته حام حوله، ولم يصب كبده.
ولأن هذه المسائل مترابطة بسنّة الحياة، فليس ببدع من القول ان تتناول الخطبة الواحدة عدداً منها من جوانب شتى.
إذ لا يمكن فصل موضوع الزواج عن باب الاقتصاد، ولا عن باب الإعلام، ولا عن مبتكرات العلم الحديث، فضلاً عن الوعد والوعيد، والقرآن والحديث.
أما عن تطلعات المستقبل فالقاعدة فيها النظر إلى مستقبل الإنسانية: علماً، وفكراً، وسياسة، واقتصاداً، إذ المسلمون جزء من هذا العالم لا يملكون عزل أنفسهم عنه بحال، فهم به متأثرون كثيراً، ومؤثرون قليلاً، بل نادراً، والله المستعان.
ولكن استراتيجيات الدعوة، وخططها وطموحات أهلها مربوطة بهذا الأفق الواسع الكبير، ولا ينجح في الفلاحة من لا يعرف طبيعة الأرض.
ثم هناك، بعد هذا وذاك، مستقبل الإسلام والمسلمين، والدعوة والدعاة، وقدرتهم على إدارة الحياة، وتوجيهها وفق شريعة الحق والعدل.
وهذه المناحي الثلاثة تحتاج من الخطيب الحاذق لمساتٍ واعية، ونفثات هادية، وتأصيلاً بديعاً، وترسيماً رفيعاً، يصل الأمس باليوم، واليوم بالغد، ويستشرف أفق المستقبل الواعد، ما أعيت الحيلة فيه في الحال الحال، من غير هروبٍ، ولا مجازفة، ولا تخدير مع محاذرة التوقعات المحددة، والتخوفات المرددة، والآمال الكذاب، والأحلام العذاب.
ولقد أصبح المستقبل، ودراساته علماً قائماً بذاته، له مدارسه ومراكزه ومؤسساته، وله متخصصوه، وكتابه ومؤلفاته، وهو كالنتيجة للمقدمة، والثمرة للسبب، والأثر للمؤثر، وإن كان الظن يصدق ويكذب.
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غدٍ عمى
هذه وقفاتٌ سريعة غير مفقطةٍ ولا منقطة حول مضمون الخطبة وموضوعها وفحواها ومعناها.
وسيتم الحديث بحوله تعالى حول إطارها ومبناها، ومبدئها ومنتهاها، وأسلوبها وشكلها وطريقتها، وهو ما عسى أن يكون ميداناً آخر لبعض الحديث.
اللغة والأسلوب وطريقة التعبير، سواءٌ أكانت لفظية منطوقة، أم كتابية مسطرة، هي وعاءٌ للحقائق والمعلومات، والأفكار التي تحملها.
ودون شك فإن المضمون الجميل، حقه أن يقدم في قالب جميل يليق به، ولذلك قال بعض المفكرين: إن الطريقة التي تقدم بها الفكرة هي جزء من الفكرة ذاتها.
وهذا صحيح.
ولعل جزءاً منه يتبين في مثل صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حال الخطبة، ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبّحكم ومسّاكم، ويقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ثم يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليَّ وعليَّ».
فحين كان صلى الله عليه وسلم يتكلم عن أمر التخويف والتحذير، كان هذا يبدو على قسمات وجهه، ونبرات صوته، من غير تكلف، ولا تعمل.
وحين انتقل إلى تقريب الساعة وبيانها استخدم صلى الله عليه وسلم، صيغة عملية ملفتة، وهي الجمع بين إصبعيه، حتى يضم إلى الدّلالة اللفظية إيضاحاً عملياً مشهوداً يستقر في الذهن.
وحين تدرج إلى ذكر بعض النتائج والفوائد جاءت على صيغة فقرات مفصولة موجزة، يأخذ بعضها بزمام بعض، وتنطلق إلى أذن السامع كأنها حبات عقد نظيم.
وحين ختم بقوله «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه.. إلخ» كان من الواضح أن اللهجة قد هدأت وأن الدورة الطبيعية للحديث قد بلغت نهايتها.،
ولذلك قال النووي تعليقاً على هذا الحديث «6/156» «يستدل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، ويرفع صوته، ويجزل كلامه، ويكون مطابقاً للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب، أو ترهيب، ولعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمراً عظيماً، وتحذيره خطبا جسيماً..».
إن تعبير «السحر» الوارد في حديث جابر بن سمرة في مسلم تلخيص دقيق لمهمة «البيان»، فهو يسبي العقول، ويأخذ بالألباب، ويطرب الآذان، ويحرّك المشاعر، ويبدل القناعات، ويصنع العجائب.
ولذا فإن الحس الأدبي المرهف، والذوق الرفيع من أسباب النجاح والتوفيق في الخطاب، خطبة كان، أو مقالة، أو شيئاً آخر.
ورُبَّ أسلوب راق كان مرافعة ناجحة عن قضية من قضايا المبطلين. ورُبَّ أسلوب ضعيفٍ متهالكٍ كان جناية على فكرةٍ عظيمة نبيلةٍ.
والذي يحدث - أحياناً - أن من يتشبع بنظر صحيح يخيل إليه أن صواب الحجج العقلية والنقلية التي يملكها يعفيه من إخراجها في القالب الأدبي الشاعري الآسر.
والحق أن عليه أن يدرك أن جودة العرض، وحسن الصياغة، وملاءمة الخطاب اللفظي يضفي على نصاعة الحجة مزيداً من القوة والإقناع والتأثير.
ثم إن سعة الأفق، كما تكون في شمولية الفكرة، وتناسبها مع قطاع عريض من الناس، تكون - أيضاً - في شمولية الأسلوب، وخروجه عن الإطار الخاص.
إن الخطيب الذي يستحضر أنه يخاطب الأمة ممثلة في هذه المجموعة المصيخة له، يبني جسوراً قوية عابرة إلى تقارب الأمة بعضها مع بعض، بشرائحها وفئاتها وشعوبها.
والذي يختزل هذه الفئة ويستلها ثم يخاطبها خطاباً خصوصياً مستديماً..قد ينساق- من حيث يدري أو لا يدري- إلى نقيض ذلك، فيعمق الفوارق بين فئات الأمة.
ولو أن الفوارق كانت تميزاً لفئة بمزيد فهمٍ، أو علمٍ، أو عملٍ.. أو مزيةٍ شرعية، فإن الأمر- حينئذ - صائبٌ لا عتب فيه، فكل فئة تنقل من حيث هي، إلى ما هو أرقى وأنقى وأبقى.
أما حين تكون تلك الفوارق مناطقية أو إقليمية أو مصطنعة فترسيخها ترسيخ للفرقة بين المؤمنين.
واللغة جزء من ذلك، فالاتكاء على لهجة خاصة، والحفاوة بمصطلحاتها، ومفرداتها، وأمثالها، وتراكماتها.. يحول دون شمولية المعالجة، وسعة الطرح، وامتداد التواصل.
واللغة الفصحى السهلة، البعيدة عن التقعر والإغراب، هي القالب اللائق بالخطبة التي يسمعها جمهور عامٌ، فلا يترقى الخطيب إلى لغة المعاجم والقواميس، التي تحجب الفكرة عن سامعه، ولا ينحط إلى لغة السوق المبتذلة التي تزهد الناس فيما لديه، أو تصرفهم عنه، ولا يمنع هذا وذاك من الإحماض بين الفينة والأخرى بلفتةٍ عابرةٍ مفهومة تربط الفلاح بالخطبة، وتشده إلى معناها، أو أخرى لذي اختصاص تبهره وتزكي فهمه.
ولأن الخطبة عادة تتكرر، وشريعة تنتظم، ودابٌ يدوم، فإنه يجمل بالخطيب أن يقتدي بهدي القرآن العظيم في تصريف الآيات، وتنويع العبر، واستشراف الإبداع، وأن يعطي لخطبته عصارة جهده، وخلاصة كده.
فالوقت الكافي الذي يصرفه في إعداد مادتها، وصياغتها، ومراجعتها، وتقليب النظر فيها، سيجعل منها مادة دسمة غنية ثرية، وسيشعر المستمع- لا محالة- أنه محل الاحترام والتقدير، حين استفرغ المتحدث جهده لأجله، فقدم له هذه المادة المنتقاة المرتبة، إنها ليست سلالة من كتاب، ولا ارتجالاً مرتبكا من غير تأهل، ولا تسديد فراغ، ولا عبئاً يتطلع صاحبه إلى الخلاص منه.
فذلك الخطيب الحاذق.. اختار محامده التي استهل بها حديثه بعناية ظاهرة، ونوّع فيها، وناسب بينها وبين موضوع خطبته، واستبعد منها كل وحشي في اللفظ أو في المعنى، وحلاها بدرّ نظيم، من قبسات الهدي الكريم، ولم يطل فيمل، ولم يقصر فيخل، ولم يكرر تكراراً يبعث على السآمة، ولم يغرب إغراباً يجر إلى الملامة وربما ركن بين الفينة والفينة الى الاستفتاح بخطبة الحاجة، أو خطبة النكاح- كما سماها بعض المصنفين والشراح- دون التزام صارم بها.
فلقد وردت بها السنة في حديث جابر في مسلم، وفي سواه من الأحاديث، بيد أن هذا لا يعني أن ثمة التزاماً صارماً لا يختلف بل إن ألفاظها ذاتها تختلف بين رواية وأخرى، وقارن مثلاً حديث جابر المنوه عنه سابقاً، بحديث ساقه مسلم الى جواره عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قصته ضماد.
وبعض أهل العلم قصرها على مجلس عقد النكاح، ولكن هذا ما لا يسعفه الدليل.
وقد جاء في صحيح السنة صيغ مختلفة لدعاء الاستفتاح في الصلاة، وهو مما يتلوه المرء في سره، فيكون أشد عليه إقبالاً، وأكثر استحضاراً، فما بالك فيمن يسمعه غيره؟
فلتكن فقرات صالحة معتدلة منوعة، ومن دون التزام صارم بنوع منها يستل من المستمع المتوثب روح التطلع والتوقع، ليمنحه عوضاً عنه الإخلاد والاسترسال وراء هواجس النفس وشواغلها. ولتكن الخطبة كلها قصداً، لا تهويل ولا تطويل، ولا ابتسار ولا اختصار، ولكن قصد عدلٌ، كما كانت خطبة محمد صلى الله عليه وسلم- قصداً، وصلاته قصداً، كما في حديث جابر بن سمرة عند مسلم وغيره.
وليتخير من جوامع الدعاء المأثور ما يليق بالحال والمقام والموضوع، دون اعتداء ولا إفراط فإن الله لا يحب المعتدين، ويتلوه بتخشع وتضرع، وحضور قلب وابتهال، فهي ساعة إجابة يرجى أن تفتح لدعوته فيها أبواب السماء.
وليتجنب السجع المتكلف في دعائه وخطبته، فإنه مذموم، إلا ما جاء منه عفواً دون عناء، وفي الحديث المتفق عليه عن متكلف السجع أنه من إخوان الكهان.
ولا أعرف على التحديد سبباً وجيهاً لتجنب الخطباء الشعر جملة وتفصيلاً.
نعم. لا يصلح أن تتحول الخطبة إلى أمسية شعرية، ولا أن يكون الغالب عليها الشعر، لكن بيت أو بيتان تسوقهما المناسبة، فيهما من التنويع والجاذبية الكثير، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يستزيد من الشريد بن سويد كما في صحيح مسلم، ويقول له: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قال: فأنشدته مائة قافية «يعني مائة بيت أو مائة قصيدة» والتوسط في هذا وغيره مطلوب وكل شيء في إبانه حسن، وإن من الشعر لحكمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.