دين الإسلام العظيم هو دين الرحمة، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو من قال الله تعالى فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} وهذه الرحمة النبوية تعدت من الرحمة الخاصة بالمؤمنين التي وصفها الله بقوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} إلى رحمة العامة بجميع العالمين، وفي السنة النبوية المباركة، وفي السيرة العطرة، نماذج مشرقة لهذه الرحمة النبوية مع المسلمين وغيرهم، نقول هذا لأنه في هذه الأزمان أتى من أهل الإسلام من يشوه صورته الناصعة وصفحاته البيضاء بأعمال إجرامية تدل على قلوب خلت من الرحمة، وبعد أن عاثوا سنوات فسادا يدعون نصرة الدين بالإرهاب والتفجير والتخريب وقتل المعاهدين، زين لهم الشيطان فتجاوزا ذلك في السنوات الأخيرة إلى تكفير أهل الإسلام وقتلهم ونحرهم نحر الشاة، بل ويصورون هذه المشاهد الدامية اغتراراً بأعمالهم ومفاخرة بها، وبئس ما فعلوا، فقد توعد الله أمثالهم بقوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}. إن المتتبع للأحاديث النبوية يجد مظاهر الرحمة في أزهى صورها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتعاملاته وتوجيهاته، حتى في أحلك الظروف وأصعب المواقف، فعن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً) رواه البخاري. كما أن هذه الرحمة النبوية تعدت من أرض السلم إلى أرض الحرب، فعن ابن عمر رضي الله عنهما (أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة. فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لهما (وجدت امرأة مقتولة في بعض تلك المغازي. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان). لقد كانت توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم واضحة جلية في هذه المواقف فعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أمر أمير على جيش أو سرية، أوصاه خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا. ثم قال (اغزوا باسم الله. وفي سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال). فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين. وأخبرهم أنهم، إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين. يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء. إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه. فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه. ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك. فإنكم، أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله. ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا) رواه مسلم. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر هذه الرحمة في صريح قوله فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل: يا رسول الله! ادع على المشركين. قال: (إني لم أبعث لعانا. وإنما بعثت رحمة) رواه مسلم. وموقف الرحمة هذا تجلى منه صلى الله عليه وسلم في مواقف حفظتها لنا كتب السنة: ففي صحيح الإمام البخاري رحمه الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه، على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: (اللهم اهد دوسا وأت بهم). وفي سنن الإمام الترمذي رحمه الله بسند صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنهم قالوا: يا رسول الله! أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم. فقال: اللهم اهد ثقيفا). إن هذه الأدلة وغيرها تدل على مقدار ماكان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من رحمة ورأفة وحب للخير للناس فالمقصد الأسمى من الجهاد هو نشر دين الله تعالى وهداية الناس إليه فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر: (لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه). فقاموا يرجون لذلك أيهم يعطى، فغدوا وكلهم يرجو أن يعطى، فقال: (أين علي). فقيل: يشتكي عينيه، فأمر فدعي له، فبصق في عينيه، فبرأ مكانه حتى كأنه لك يكن به شيء، فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: (على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم). رواه البخاري ومسلم.
