لقد كان نزول جبريل عليه السلام من عند الله تعالى بصدر سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسان مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}. إيذاناً بتأسيس مدرسة الإسلام الأولى، حيث جاء الأمر بالقراءة في هذه الآيات تكليفا للنبي صلى الله عليه وسلم بحمل الوحي، وجاء الأمر بأن تكون القراءة «باسم ربك» بيان لجهة التكليف، ولقد تأسست من خلال تلك المدرسة قاعدة الإيمان في قلوب الناس، فقد كان القرآن داعي الله إلى الإيمان: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} ولقد استجاب الصحابة لذلك النداء ولبوا تلك الدعوة وعرفوا قيمة انتسابهم لهذه المدرسة، كما وعوا مقتضيات ذلك الانتساب ولوازمه.. فأخذوا بحقائق القرآن الإيمانية وأقاموا حروفه ووقفوا عند حدوده، وانطلقوا لتبليغ دين الله ونشره في الآفاق.. ولقد كانت مدرسة القرآن في ذلك العهد تجمع بين العلم والعمل وبين التربية والتهذيب، وتتجرد فيها المقاصد لله تعالى وتتوجه إليه، ويجتمع فيها العربي مع الحبشي والرومي والفارسي على تدارس كتاب الله تعالى وسماع كلامه وتلاوته وتدبره والتخلق بأخلاقه والعمل بما فيه، فلا يتجاوز الواحد منهم العشر آيات حتى يتعلم ما فيها من العلم والعمل، فكانت قلوبهم حاضرة لتلقي حقائق الإيمان، والأسماع منصتة لسماع آيات القرآن، والآذان واعية لحفظ آياته، وكانت العقول تتأمل، والقلوب تعقل، حتى انتفعت بذلك فسمت نفوسهم واستفادت عقولهم وأقاموا الدين والدنيا بكتاب الله تعالى... وإنه لحري بنا اليوم أن نعود لتلك المدرسة فنجعلها الأولى في حياتنا، وحري بنا أن نعترف بالأمية التي صرنا إليها مع كتاب الله والتي نبه إليها النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله زياد بن لبيد: كيف يذهب العلم ونحن قرأنا القرآن ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئون أبناءهم؟ فقال: «ثكلتك أمك يا بن لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء؟». وعلى هذا فلا بد لنا من منهج صحيح لفهم كتاب الله يوصلنا إلى التدبر الأمثل لكتاب الله ويفتح أقفال قلوبنا ومغاليق عقولنا ونجدد من خلاله الاستجابة لكلام الله، ونحقق الفقه المطلوب لآيات الله وسننه في الأنفس والآفاق، يقول محمد بن كعب القرظي: «من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله وإذا حصل ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه»، فنحن مأمورون بما أمر به الأوائل ومدعوون لما دعوا إليه فإن استقمنا على الطريقة وصلنا إلى ما وصلوا إليه من طهارة الظاهر والباطن ومن صلاح الدين والدنيا ومن السيادة والريادة والقيادة للأمم جميعاً. إننا لن نزكو بغير القرآن ولن نفلح، ولن نسود بغيره، ففيه عرض لجميع حقائق الوجود في عالم الغيب والشهادة، وتصحيح لخلل التصورات الإنسانية للكون والحياة بل وللإنسان نفسه، وفيه تربية للنفوس وتهذيب للأخلاق والغرائز والطبائع وإصلاح لنوازع النفوس وحماية من نزغات الشياطين. لذا يجب أن يكون هو مدرستنا الأولى ومشروعنا الأكبر نتلوه ونحفظه ونفهمه ونتدبره ونعيه ونعمل به ونحكمه في حياتنا كلّها ليكون هو قائد مسيرتنا إلى الله، ولنمضي من خلاله في مسيرة التصحيح والتغيير. فلنحرك به قلوبنا فلا نهذه هذا الشعر ولا ننثره نثر الدقل بل نقف عند عجائبه، ولا يكن هم أحدنا آخر السورة كما قال ابن مسعود، ولنحيي به نفوسنا فالله تعالى يقول: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، ولنرقق به قلوبنا فالله تعالى يقول: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أولئك فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، ويقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} ولنرعه أسماعنا ونقوّم به أخلاقنا فالله تعالى يقول:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ولنحيا بالقرآن فنجعله دستور حياتنا، ولنتعلم منه فقه التعبد لله تعالى في جميع جوانب الحياة ولنفقه الواقع من خلاله. يقول الله تبارك وتعالى:{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}. * الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن