جعل الله تعالى العلماء نجوم الأرض، إذا رحلوا بقي نور علمهم في تلاميذهم، وكتبهم، وفقههم، فيبثوا ضياءه على الناس، ليكون لهم نوراً في الحياة الدنيا يستبصر الناس به الهدى، ويعرفون الخير من الشر، والحق من الباطل، والفاضل من العاطل. فالعلماء ورثة الأنبياء وحملة العلم من بعدهم، يهدون ويرشدون ويبينون ويوضحون كلٌ على حسب ما أعطاه الله تعالى، فذاك بقلمه وبنانه، والآخر بفصاحته وبيانه، والآخر بطلابه وأتباعه وإخوانه. وقد رفع الله تعالى العلماء لما رفعوا ذكره وعظَّموا أمره قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (11) سورة المجادلة، ولا ريب أنِّ موتهم منقصة في الأرض قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، وقال مجاهد وعكرمة: (إنقاص الأرض من أطرافها معناه خرابها، أو هو موت علمائها)، ففقدهم رزية كبيرة وبلاء عظيم، ولكن أعظم ما ينفس الكربة ويكشف الغمة أن علمهم أصبح مكتوباً، فهناك التلاميذ الذين ينقلون علمهم، وهناك ما كتبت أيديهم من العلم، وقد جعل الله تعالى لهم حقاً وإجلالاً، فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منَّا من لم يجلَّ كبيرَنا، ويرحمْ صغيرنا، ويعرفْ لعالمنا حقَّه)؛ رواه أحمد والترمذي. لذا كان حقاً علينا أن نحفظ حقوقهم ونصون جنابهم، ونبين أمرهم للناس ليعرف الناس فضلهم ومكانتهم وعلمهم. بالأمس القريب جداً فقد العالم الإسلامي شيخاً جليلاً له مكانته في العلم والقدر، درَّس أجيالاً متتالية ذهبوا في مشارق الأرض ومغاربها، إنه (الشيخ عبدالله بن صالح المحسن)، المعروف في زمانه بالعلم، ممن يشار لهم بالبنان من أهل الحديث والفقه، الذي بقي سنوات حياته في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى توفي رحمه الله تعالى، يوم الأربعاء 13 رجب 1432ه وُصلي عليه عشاء ذلك اليوم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والشيخ من مواليد عام 1333ه، في الشيحيةبالقصيم، ويرجع نسبه إلى قبيلة سبيع من العرينات، وأصل مرجع الشيخ يعود إلى قرية الضلفعة إحدى قرى القصيم. نشأ الشيخ عبدالله نشأة مباركة بين كنف والدين كريمين حرصا على أن ينهل من العلم، كما اهتم الشيخ بنفسه على أن يأخذ العلم من مناطق مختلفة ومتعددة، حيث طلب العلم في القصيم، والرياض، ومكةوالمدينة على يد علماء كان لهم الأثر البالغ في تخريج كثير من أهل العلم والمشايخ، فعندما ولد الشيخ لم يكن هناك تعليماً يذكر في الشيحية، لذا سافر به والده إلى البكيرية لوجود الكتاتيب، وكانت أول رحلة له في طلب العلم وقد كان صغير السن. وفي سنة 1349ه التحق بالهجانة العسكر في المدينة ثم مكة سنتين في عمر الحادية عشرة، وكان ذلك في قلعة أجياد بمكة، كما كان يتردد فيها على حلق العلم في الحرم، ليعود مرة أخرى إلى البكيرية ليدرس على علمائها وأشهرهم عالمها الشيخ محمد بن مقبل، والشيخ عبدالعزيز السبيل وهو أخ إمام الحرم. كما درس في بريدة على عدد من العلماء الأجلاء من أشهرهم الشيخ العلامة صالح الخريصي، ومن ثم قدم الشيخ إلى مدينة الرياض عام 1364ه لينهل العلم من المشايخ وعلى رأسهم الشيخ العلامة محمد بن عبداللطيف -رحمه الله- جد سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ. وبذلك أمكنه من تدريس أبناء الشيحية أربع سنوات ثم انتقل للتدريس النظامي في ثرمدا في شقراء. حرص الشيخ على أن يكون في طريقة تعلمه متبعاً للسنة، ونابذاً للتعصب متبعاً للحق، ولذا فقد فاق كثيراً من أقرانه في طلب العلم، حيث نهل العلم من جميع المذاهب السنية، ويرجع لكلام المحققين من أهل العلم كابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله تعالى. وقد حبا الله تعالى الشيخ كثيراً من الفراسة والحكمة ومعرفة الناس ومعادن الرجال حتى عرض عليه العلامة الشيخ عبدالله بن حميد القضاء مرتين وألح عليه في ذلك ولكن الشيخ رفض واعتذر. تخرج من كلية الشريعة عام 1380ه، وعين قاضياً في عقلة الصقور فاعتذر الشيخ، وشفع له الشيخ ابن باز رحمه الله، طالباً من الشيخ محمد بن إبراهيم أن يجعله معه في الجامعة الإسلامية مدرساً فوافق الشيخ بن إبراهيم، فانتقل الشيخ عبدالله إلى المدينةالمنورة للتدريس في الجامعة الإسلامية، وأصبح من المؤسسين للجامعة، وبهذا استقر في المدينةالمنورة منذ تعيينه، وكان سماحة العلامة بن باز -رحمه الله- نائباً لرئيس الجامعة بينما كان رئيس الجامعة سماحة الشيخ العلامة الإمام محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى. لهذا كان العلامة بن باز -رحمه الله- يثني على علم الشيخ عبدالله وعلى حسن إلقائه وأسلوبه العلمي، حتى إنه أمر بنشر رسالته في الأخلاق، كما وقف مع من وقف مع الشيخ عبد الله عندما امتنع عن القضاء، لأنهم رأوا فيه براعة العلم والتعليم. خلال عامي 1393ه و1394ه أُنتدب الشيخ إلى الهند للتدريس في الجامعة السلفية، فأقام هناك سنتين في مدينة بنارس الهندية، ثم عاد إلى المدينة فاستمر في التدريس في الجامعة الإسلامية إلى العام 1402ه، وخلال هذه الرحلة العلمية الطويلة صاحب الشيخ كثيراً من العلماء الأجلاء من أهل الحديث والفقه، منهم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- والعلامة عبدالرزاق عفيفي -رحمه الله- نائب رئيس الإفتاء، والشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- صاحب كتاب (أضواء البيان)، والشيخ المحدث حماد حمد الأنصاري، ومعالي الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو اللجنة الدائمة والإفتاء وعضو هيئة كبار العلماء، والشيخ عبدالرحمن العجلان رئيس محاكم القصيم سابقاً والواعظ في المسجد الحرام، والشيخ محمد بن ناصر العبودي رئيس رابطة العالم الإسلامي المساعد وله معه زمالة وصداقة قديمة، والشيخ العلامة عبدالله الغنيمان المدرس في المسجد النبوي، والشيخ عمر محمد فلاته -رحمه الله- أمين الجامعة الإسلامية والمدرس بالمسجد النبوي الشريف، والشيخ محمد تقي الدين الهلالي، والشيخ محمد المختار الشنقيطي والد الشيخ محمد المختار الواعظ بالمسجد النبوي -رحمه الله- والشيخ محمد عطية سالم المدرس بالمسجد الحرام. أما تلاميذه فهم كثر منهم في داخل السعودية وخارجها، بل استمر طلبة العلم يأتون إليه حتى قبل موته بقليل، لكن لعل من أشهر من درس عليه الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي الذي قال عنه: (ما انتفعنا بأحد مثل ما انتفعنا بالشيخ عبدالله المحسن). وكذلك من تلاميذه البارزين الشيخ محمد بن حمود الوائلي عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية سابقاً، والمدرس في المسجد النبوي حالياً. والشيخ عبدالعزيز بن عبدالفتاح قارئ عميد كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية ورئيس لجنة مراجعة مصحف المدينة النبوية، والشيخ علي سعيد الشيخي مدير المعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية سابقاً وغيرهم كثير. كما كان الدكتور إحسان إلهي ظهير -رحمه الله- (في الهند)، ممن يحب الشيخ ويستشيره في أمور كثيرة ويرجع إليه ويستند إلى قوله، وكان آخر لقاء تم بينهما قبل شهرين من اغتيال ظهير. ترك الشيخ عبد الله المحسن -رحمه الله- إرثاً علمياً عظيماً، فقد كان من محبي التأليف، حيث أمضى أكثر حياته في الكتابة، تاركاً كتباً كثيرة لا تسع الصناديق حملها، وأقوم حالياً على ترتيبها وتصنيفها، ومن ثم السعي لطباعتها، ومن أشهر الكتب التي انتشرت في العالم الإسلامي ونصح العلماء تلاميذهم بقراءتها في بادئ علمهم، كتاب الشيخ عبدالله في شرح الأربعين النووية، الذي لقي قبولاً كبيراً بين الناس من واقع خطابات الثناء، وقد طبع أكثر من مرة ويعتبر من أميز الكتب التي درست في المعاهد، كما للشيخ كتاب مطبوع في (أحاديث مختارة) بشرح مُبسط مناسب للطلبة، وله كتاب في تفسير جزء عم، وأما ما لم يطبع فكثير، وهو في طريقه للطباعة بإذن الله تعالى، مثل كتاب شرح عمدة الفقه في (ثلاث مجلدات تقريباً)، وكتاب (أحاديث في العبادات والمعاملات والأخلاق ) من ثلاث مجلدات، وشرح عمدة الأحكام في (مجلدين تقريباً)، وشرح كتاب التوحيد (مجلد واحد)، وتفسير جزء تبارك وشيء من جزء قد سمع، وكتب في القصص (مجلدين)، ومذكرات في الحديث (مجلد)، وكتب أخرى منها قصص وأخبار ومنها فقه وآثار. استمر الشيخ عبد الله المحسن في العلم والتعليم حتى تقاعد، وطُلب منه أن يكون مدرساً في المسجد النبوي، إلا أنه أصيب بحادث، ما جعله لا يستطيع التحرك، فاعتذر الشيخ بعد ذلك عن التدريس وتفرغ للقراءة والكتابة والمطالعة، وأصبح يزوره بعض العلماء وطلبة العلم داخل المملكة وخارجها للمدارسة والمناقشة والقراءة، ومن أبرز من كان يأتيه بشكل مستمر عميد كلية الدعوة والإعلام الشيخ الدكتور عبدالعزيز الطويان وكان صديقاً وتلميذاً ويحبه الشيخ عبدالله كثيراً. وكذلك الشيخ محمد بن صالح البراك الأستاذ المشارك في الجامعة الإسلامية بالمدينةالمنورة. بقي الشيخ على عهده في حب الخير وحب العلم حتى توفاه الله تعالى. وكان مما قلت في رثائه: لما أتى الخبر الجليل وأشاح عن حِمل ثقيل وتبعثرت كلماته وتكدرت بعد الأفول (الشيخ مات) وقد ثوى في أرض هادينا الرسول الشيخ مات وقد بكى أحبابه بعد الذبول غطت على عيني الدموع وأسملت بصراً كلِيل هو شيخنا هو من سمى بالعلم في شرف مهول نوراً علينا ما خبت أنواره في ذي الحمول حق الفراق وقد مضى أمر الإله على الأفول قبَّلته فوق الجبين ودعته شيخا جليل فخراً له بذل العلوم بمنزل الوحي الجليل قد عاش في رسم الكتابة بالمقالة والنقول حتى أراد الله أن يجفو الخليل عن الخليل يا رب فارحم شيخنا واجعل له الحسنى مقيل د. ناصر بن عبدالرحمن بن ناصر الحمد إمام وخطيب جامع الإمام بن ماجه