«الحج والعمرة»: احذروا شركات الحج الوهمية.. لا أداء للفريضة إلا بتأشيرة حج    «الطيران المدني»: تسيير رحلات مباشرة من الدمام إلى النجف العراقية.. ابتداء من 1 يونيو 2024    ولي العهد يهنئ رئيسة جمهورية تنزانيا المتحدة بذكرى يوم الاتحاد لبلادها    الأرصاد: لا صحة عن تأثر السعودية بكميات أمطار مشابهة لما تعرضت له بعض الدول المجاورة    أخو الزميل المالكي في ذمة الله    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام و النبوي    تشكيل الهلال المتوقع أمام الفتح    كيسيه يعلق على الخسارة أمام الرياض    جوارديولا: الضغط يدفعنا إلى الأمام في الدوري الإنجليزي    أمير جازان يرعى حفل افتتاح مهرجان المانجو والفواكه الاستوائية    إصابة حركة القطارات بالشلل في ألمانيا بعد سرقة كابلات كهربائية    الشاب عبدالله بن يحيى يعقوب يعقد قرآنه وسط محبيه    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    أعمال نظافة وتجفيف صحن المطاف حفاظًا على سلامة ضيوف الرحمن    وزير الشؤون الإسلامية يعقد اجتماعاً لمناقشة أعمال ومشاريع الوزارة    أمريكا: اكتشاف فيروس إنفلونزا الطيور في 20% من عينات الألبان    أستراليا تقدم الدعم للقضاء على الملاريا    اتفاق سعودي – قبرصي على الإعفاء المتبادل من التأشيرة    فرصة لهطول أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة    "زرقاء اليمامة" تعيد الأضواء ل"مركز فهد الثقافي"    إصابة مالكوم وسالم الدوسري قبل مباراة الهلال والفتح    الأخضر تحت15 يخسر من سلوفينيا في بطولة ديلي نازيوني    "واتساب" يتيح مفاتيح المرور ب "آيفون"    "المُحليات" تدمِّر "الأمعاء"    مقامة مؤجلة    حرب نتنياهو .. إلى أين ؟    هوس «الترند واللايك» !    صعود الدرج.. التدريب الأشمل للجسم    تقنية مبتكرة لعلاج العظام المكسورة بسرعة    التنفس بالفكس    أمير حائل يرفع التهنئة للقيادة نظير المستهدفات التي حققتها رؤية المملكة 2030    مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل يهنئ القيادة نظير ماتحقق من مستهدفات رؤية 2030    افتتاح المعرض التشكيلي "الرحلة 2" في تناغم الفن بجدة    أمير جازان ونائبه يهنئان القيادة بما تحقق من إنجازات ومستهدفات رؤية المملكة 2030    هيئة السوق المالية تصدر النشرة الإحصائية للربع الرابع 2023م.    الصحة: رصد 15 حالة تسمم غذائي في الرياض    تحول تاريخي    الأخضر تحت 23 عاماً يواجه أوزبكستان في ربع نهائي كأس آسيا    الهمس الشاعري وتلمس المكنونات    «ألبرتو بُري» يتجاوز مأساته    المملكة تبدأ تطبيق نظام الإدخال المؤقت للبضائع    أمين الرياض يحضر حفل السفارة الأميركية    محمية الإمام تركي تعلن تفريخ 3 من صغار النعام ذو الرقبة الحمراء في شمال المملكة    أرامكو السعودية و«الفيفا» يعلنان شراكة عالمية    تشجيع الصين لتكون الراعي لمفاوضات العرب وإسرائيل    مقال «مقري عليه» !    خلط الأوراق.. و«الشرق الأوسط الجديد»    تفكيك السياسة الغربية    القيم خط أحمر    لو ما فيه إسرائيل    نائب أمير الشرقية يستقبل نائب رئيس جمعية «قبس»    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة ال82 من طلبة كلية الملك عبدالعزيز الحربية    إطلاق برنامج تدريبي لطلبة تعليم الطائف في الاختبار التحصيلي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يلتقي مديري عموم فروع الرئاسة في مناطق المملكة    أمير عسير يعزي الشيخ ابن قحيصان في وفاة والدته    التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن وكالة الأونروا    تحت رعاية الأمير عبد العزيز بن سعود.. قوات أمن المنشآت تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    أسرة البخيتان تحتفل بزواج مهدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد الصافي النجفي طائر بلا جناحين
نشر في الحياة يوم 02 - 07 - 2015

يصور الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي (1896-1977) جسمه وكأنه نعشه، حين يمشي يحمله على كتفه، وغالباً ما يشبه نفسه بطائر ترابي، والطائر الترابي العجيب هذا، الذي قُصّ جناحاه «فظل يسبح في التراب» (كما يقول) هو عينه أحمد الصافي النجفي، مشبوحاً في صورة فوتوغرافية قديمة له، اختارتها دار الجمل حديثاً (2015) لتتصدر غلاف دراسة في تجربته ومختارات من أشعاره الكاملة أعدها وقدم لها الشاعر العراقي محمد مظلوم.
كان الصافي النجفي طريد جسده ولو استطعت الاكتفاء بهذه العبارة لفعلت، فهو كان يقتل أحواله وتفاصيل حياته بالإطالة المملة في الأوصاف ولو اكتفى بالبيت والبيتين لأجاد.
تنظر إلى الصورة فينتابك إحساس بأنك أمام كائن صحراوي هزيل داخل ثوب ضيق وقف وقد أعطى ظهره لبحر بيروت، على رأسه عقال وكوفية. سحنته سمراء بدوية هزيلة، فإذا أغمضت عينيك قليلاً وجدت أن أنفه الدقيق في وسط وجهه النحيل هو أشبه ما يكون بمنقار طائر غريب، ووقوفه معقود الساعدين إلى خصره، يشير إلى أنه أشبه بطائر أعرج. عبارة «طائر أعرج» هي عنوان بيتين للصافي النجفي يصف فيهما نفسه: «أنا طائر لا يرتضي الأرض مسكناً/ كأني بين الجو أبحث عن عرشي... ولكن دهري قص جنحي وأرجلي/ فما حال طير لا يطير ولا يمشي».
وأنت حين تقرأ البيت والبيتين والثلاثة للنجفي، تلمس قاع تلك الروح المتشردة في هيكله الجسدي الهش، والذاهبة في الأمكنة الكثيرة من حيث يكاد يكون الرجل لا يقيم في مكان، أو يقيم في لا مكان، أو لا يقيم... أي هو التلاشي أو يكاد أو هو الرفض والدوران المضني حول ذاته كحبة غبار في زوبعة صحراوية. وهذا الدوران، وصف الشاعر حركته الهندسية المتنافرة من خلال قوله «سرت دهراً ولم أزل في مكاني/ أتراني أسير في دوراني؟». شعر أحمد الصافي النجفي ابن جسده المتآكل الذي ما لبث أن تحول إلى جسد نفسي مضطرب ومتناقض. هو شعر هيكلي هش وهامشي كبنيته بلا ريب، لكنه في الوقت نفسه شعر متعال ومتأله فإن إحساسه بالصعلكة الجسمية ما لبث أن ارتد فيه إلى عصب استعلائي. انخلع النجفي باكراً عن كل شيء: الأهل، الوطن، الأصدقاء، الشعراء، المظهر، الزواج... وتسكع في مقاهي دمشق وبيروت، وأقام في الغرف والزوايا المعتمة والقذرة. ماذا تراه كتب ووصف لنا؟ لقد وصف كل شيء رآه في حياته، بمعنى أن شعره ابن حياته اليومية العملية وليس ابن القراءة، فقراءته قليلة وهو يفاخر بذلك، ويستعيظ بالحياة عن القراءة فيقول إن شعره ابن الحياة.
سجال نقدي
يكتب مظلوم في دراسته للمختارات الشعرية للصافي النجفي، يشير إلى أنه وارث المخلوعين والمطرودين «والعدائين في القفار هرباً من البشر» (ص 44) وأن أسلاف هذا «الصعلوك الهارب المذعور» بتعبيره، هم الشعراء الصعاليك العرب من أمثال «تأبط شراً» والعنبري والأحيمر السعدي. وهؤلاء هم أولاد اليأس والبؤس.
إنها لمسألة حيوية أن نخوض، اليوم (العام 2015) في شعر كتب منذ نحو ثلاثة أرباع القرن، وكان خاض فيه مارون عبود بالذات. لكنّ محمد مظلوم في دراسته المطولة التي وضعها في مقدمة المختارات الشعرية من أعمال النجفي الكاملة (75 صفحة)، ينحاز للشاعر المتمرد، صاحب السيرة المهمشة، والقبر الضائع. وعلى امتداد الدراسة، لا تني تتوالى أحكام فيه، نقتبس بعضها نصياً، لنجد مثلاً أن الصافي النجفي «ينتمي إلى صميم الحداثة الشعرية اللازمنية، وتقف قصائده بثقة عبر العصور»، وأنه «وقف وحيداً بين جيلين» وهو «ملك العزلات المتوج بشتى نعوتها وسيميائها»، وأنه أحد أبرز شعراء العراق في القرن العشرين «وأن في تجربته» التمرد والاغتراب والانشقاق والعصيان ورفض التلقينات الأبوية في الثقافة والوعي والحياة»...
يشير مظلوم إلى غرابة النجفي واغترابه ويتطرق لما يشبه دراسة نفسية للشاعر، يستعمل فيها بعض مفردات علم النفس الحديثة: الاغتراب والتماهي والتقمص والتناسخ، ويركز على عالم الطفولة الذي عاش فيه الشاعر. يصفه بأنه «شاعر مغترب ومنعزل ومنشق أبدي» وأنه «شاعر شيئي ينحو إلى لغة النثر اليومي في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي». إنه «شاعر تجربة وليس مؤلفاً بلاغياً».... وهذه هي مجمل آراء محمد مظلوم فيه. الأمر الجوهري الذي جاء به محمد مظلوم في دراسته للنجفي هو الكشف عن أصل بعض شعره الذي مزج فيه بين الغيبي واليومي. هذا الأصل يعود إلى تأثره ب «فن الرباعيات في الشعر الفارسي عموما تأثراً هضمياً لا بإيقاعها العروضي». «ولا شك أن هذا التأثر، خاصة بشعر الخيام الذي انشغل النجفي ثلاث سنوات بترجمة رباعياته قاده إلى طريق مختلف بهذا المزج الرصين بين الغيبي واليومي وفي مقاربة مضامين عرفانية وروحية ونحت الحكمة من يوميات الحياة» (ص ص 71-72).
هذه هي اللقيا الحقيقية النقدية لمظلوم في شعر النجفي، بعض شعره. إن أحمد الصافي النجفي (ما خلا استثناءات قليلة أشرنا لبعضها في السياق) شاعر مشكلته الكبيرة في الصيغة الشعرية بالذات وليس بأحواله وسيرته وتشرده ونزوعه للحرية... فهو إذا كتب البيت والبيتين برع، لكنه سرعان ما يستدرجه النثر الإخباري في القصائد الطويلة إلى لغة منزوعة العصب، وسرد بلا مخيلة ولا استعارة، وإلى إطناب ممل يلهث فيه الشاعر وراء الإخبار ولا يهمه الابتكار. هذا هو السبب في أن أحمد الصافي النجفي أهمل هذه المدة الطويلة من الزمن. ولنأخذ أمثلة، وهي موجودة على امتداد مختاراته الشعرية البالغة ما يزيد على 300 صفحة من مجمل ما ترك من أشعار.
الشعر والحياة
ففي القصيدة الأولى «الغربة الكبرى» يقول مقارناً نفسه بالآخرين: «وهل يشبه الإنتاج عندي نتاجهم/ وهل تشبه الأشواك عندهم زهري... عسى في غد أن تجتمع أمة الشعر/ وقد أجلسوا الشيخ المعري في الصدر»...
يكفي أن تقرأ الشطر المتعلق بالإنتاج لترمي القصيدة. مباشرة تأتي بعدها قصيدة «حياة التشرد» فيبدأ بهذا البيت: «قد اخترت منذ القدم عيش التشرد/ لفقري وللفوضى وحب التجرد». ولا أعتقد أن «حب التجرد» إلا دليل هشاشة شعرية لا تحتمل «دعك من التشرد»... فإذا وصلت إلى قصيدة «العيون» حيث يتباهى الشاعر بموضوعاته المأخوذة من الحياة فيقول: «زاحمت بالإنتاج منتوجاتكم» وهو شطر متروك للنقاد.... أما إذا وصلت إلى واحدة من أطول قصائده، التي بلغت 124 بيتاً بعنوان «الدار المرفوضة» ويصف فيها رفضه لدار قدمها له صديق لأنه يرغب في أن يظل حراً من أي ارتباط بمكان أو بملكية، فتجد الفكرة جليلة وعميقة على ما نرى. ولكن إذا قرأت القصيدة بأبياتها هذه، لوقعت على ما يقتل الروح من نظم غث، وخيال مقصوص، وصيغة إخبارية لا تمت بصلة لا للشعر ولا للسرد بمعناه الفني، كأن يقول: «وراح يعرض دارا/ رفضتها تكرارا» «شغلي الحفاظ على الدار ليلاً ونهاراً» «يا ليت بيتي يغدو/ سيارة أو جداراً» «لو كنت أشغل نفسي/ بالتافهات كثارا».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.