عند بدايات القرن العشرين، كان أدب دوستويفسكي بدأ يُعرف على نطاق واسع في فرنسا... ومع هذا لم يكن فرنسيون كثر يحبون هذا الكاتب الروسي الذي كانت أوروبا كلها قد اعتادت تبجيله منذ زمن. في ذلك الحين، حين كان باحثون فرنسيون يُسألون عن سبب ذلك الود المفقود بين صاحب «الاخوة كارامازوف» ووطن بلزاك وروسو، كان الجواب في أغلب الاحيان يتضمن اشارات واضحة الى موقف دوستويفسكي نفسه من الفرنسيين، إذ لا ننسيَنّ هنا أن عميد الرواية، الروسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لم يتحدث عن فرنسا والفرنسيين بلطف واعجاب ولا سيما في النصوص التي كتبها عن رحلاته الأوروبية والفرنسية. اذاً، بالنسبة الى رهط كبير من النقاد والباحثين الفرنسيين، كان دوستويفسكي هو الذي افترى و «بدأ الخصام». لكن اندريه جيد، الأديب الفرنسي الكبير، عارض هذا التحليل، منذ العام 1908 ، اذ عزا الود المفقود، من ناحية الى نزعة دوستويفسكي المغرقة في مسيحية خاصة به، تتوج أفكار رواياته، ومن ناحية أخرى إلى التفاوت، أصلاً، في المزاج والذهنيات بين النخبة الفرنسية المثقفة والمزاج الروسي العام الذي كان يتجلى في أدب قائم على مفاهيم واخلاقيات كان الفرنسيون طلقوها حين نزعوا نحو العلمانية والعقلانية بفضل الثورة الفرنسية. والى هذا كله أضاف اندريه جيد، تأثير الكاتب والمترجم الفرنسي ملكيور دي نوغي، الذي عرف بكونه من أوائل وافضل الذين ادخلوا الرواية الروسية الى فرنسا. فدي نوغي هذا، إذ زرع لدى النخبة الفرنسية اعجاباً كبيراً بالانسان دوستويفسكي جعلها في الوقت نفسه تفرق بين عبقرية الرجل، وبين كتاباته التي ظلت مترددة بعض الشيء في قبولها. وكان هذا، على أي حال، ملخص ما قاله اندريه جيد في نص كتبه العام 1908، وكان يهدف منه الى أن يكون جزءاً من كتاب سيرة لدوستويفسكي يزمع وضعه، ثم تخلى عن الفكرة ونشر النص بمفرده. هذا النص عاد وشكّل جزءاً من كتاب آخر عن صاحب «الجريمة والعقاب» أصدره اندريه جيد العام 1923، في عنوان «دوستويفسكي» أتى كتاباً دراسياً نقدياً، لا كتاب سيرة، وضم الى النص آنف الذكر، مجموعة محاضرات عن دوستويفسكي وأعماله كان جيد ألقاها خلال السنوات السابقة في مسرح «فيو كولومبييه» اضافة الى سلسلة مقالات عن الكاتب نفسه كان نشرها في «المجلة الاسبوعية» التي كان يساهم فيها. ولقد أتى مجموع الدراسات، إذ ضمته دفتا كتاب، عملاً حاذقاً وعميقاً عن دوستويفسكي، بل انه كان ذا أثر كبير في «مصالحة» دوستويفسكي مع جمهور النخبة الفرنسي، خصوصاً أن جيد قدم في فصول الكتاب، قراءة جديدة لكاتب كان يرى أن نزعته القومية الروسية، انما هي بعد يتكامل تماماً مع نزعة أممية بلا حدود ولا ضفاف. ومن هنا أخرج جيد سلفه الكبير، من ضيق الحيز القومي، الى رحابة العالم. ما مهد لاستقبال فرنسي آخر وأكثر انصافاً له. ومن الواضح ان اندريه جيد انطلق في صوغ الفصول الجديدة، وفي تحديث النصوص القديمة، من مجموعة مراسلات دوستويفسكي التي كانت صدرت مترجمة في ذلك الحين. ولقد أتاحت تلك المجموعة لجيد الذي كان، هو الآخر، من هواة كتابة الرسائل وقراءتها، مناسبة لرسم «بورتريه» للكاتب الروسي، حلّت لديه بديلاً من السيرة السردية. ويقيناً أن قراء دوستويفسكي كانوا دائماً في حاجة الى من يرسم لهم صورته السيكولوجية ما يساعدهم على فهم أعماله وما أغلق عليهم منها، بأفضل مما يمكن لسيرة حياة أن تفعل. هكذا، اذاً، انكب اندريه جيد، في كتابه الرائد هذا، على تحليل شخصية دوستويفسكي، رابطاً تطور تلك الشخصية، كما تلوح من خلال الرسائل بتطور علاقة الكاتب بالشخصيات المحورية في أدبه. واضافة الى هذا، تمكن اندريه جيد، عبر تلك البورتريه، من رسم صورة متكاملة للرجل نفسه في خضم تناقضاته، مفسراً بتناقضات الكاتب تناقضات الشخصيات التي يبدعها. وهو نفس ما كان اشتغل عليه ولكن في توسع أكثر في اتجاه الروايات الكبرى لدوستويفسكي، في المحاضرات المعروفة باسم «محاضرات فيوكولومبييه». غير أن الأهم من هذا كله - وكان هذا الجانب في تحليلات اندريه جيد هو الذي اجتذب الفرنسيين اكثر من أي جانب آخر - كان تفسير اندريه جيد لمسيحية صاحب «الابله» و «الممسوسون». بالنسبة الى اندريه جيد صحيح أن في الامكان اعتبار نظرة دوستويفسكي الى المسيحية نظرة تقليدية على غير صعيد، بل أحياناً نظرة ماضوية، ومع هذا فإن الجوهر العام لمسيحية هذا الكاتب، وكما تتجلى في العدد الأكبر من رواياته، جوهر جديد من نوعه يربط المسيحية بنزعة رسولية نبوية، هي نزعتها الاصيلة التي كانت لها عند بدايات ظهورها وقبل ان تعتبر المسيحية نفسها مؤسسة وسلطة، أو رديفاً للسلطات. ان دوستويفسكي يسعى، بحسب جيد، الى مسيحية للانسان، للبشر، تضيء الدرب للبائسين. وما شخصية الأمير في «الابله» ومفاهيم الخطيئة والغفران في «الجريمة والعقاب» و «الاخوة كارامازوف» سوى التجلي المنطقي لتلك النظرة الجديدة القديمة. وإذ يوضح اندريه جيد هذا كله، مستنداً الى امثال حية مستلة من أدب دوستويفسكي نفسه، يصل الى المكان الذي ينبه فيه القراء الى أن دوستويفسكي، ليس من الكتّاب الذين يقرأون على شكل مفاهيم وتحليلات فكرية، بل انطلاقاً من التركيبة المدهشة لكل فكرة وموقف وشخصية. «أبطال» دوستويفسكي، ليسوا - بحسب تحليل جيد – رموزا لشرائح أو طبقات، وصوراً لافكار ومفاهيم، بل هم أناس من لحم ودم، أشخاص منتزعون من قلب الحياة نفسها. واذا كان كل «بطل» من هؤلاء «الابطال» ينكشف في نهاية الأمر معبراً عن فكرة أو شريحة، فما هذا إلا لأن ظروف المجتمعات والأفكار وسياقات الحياة نفسها هي التي تعيد تقسيم البشر على ذلك النحو. أما الكاتب فإنه حين يلتقط شخصية من الشخصيات ليضعها في روايته، فإنه يجردها أولاًَ من الزوائد المفسرة التصنيفية ليضعها في قلب العمل، علماً بأن العمل نفسه، كما الحياة، هو الذي يعيد الى الشخصية الزوائد في ما بعد. للوهلة الاولى قد يبدوهذا التفسير معقداً بعض الشيء، لكنه، بقلم اندريه جيد، وإذ جاء في ذلك السياق، بدا بسيطاً، ويكاد يكون معبراً عن نظرة جيد، ليس فقط الى أدب دوستويفسكي وحده، بل الى أدبه هو نفسه، وربما عما يطلبه بشكل عام من الأدب. مهما يكن فإن كتاب جيد، إذ سعى الى توسيع المدارك والتحليلات من حول دوستويفسكي، لم ينس أن ينبه القراء الى عدم الوقوع، لا في التبسيطات التي كانت تتوخى السهولة بالنسبة الى النظرة الى اعمال دوستويفسكي، ولا في فخ التفسيرات الخاطئة التي اعتاد النقاد ايرادها. باختصار قال جيد للقراء: تماماً كما أن دوستويفسكي كان يكتب بكل جوارحه، من الأحرى بكم أنتم بدوركم ان تقرأوه بكل جوارحكم. واندريه جيد (1869 - 1951) هو واحد من كبار الكتّاب الفرنسيين خلال النصف الأول من القرن العشرين. ولقد عرفه القراء العرب في زمنه برواياته التي ترجم العديد منها الى العربية، ومن بينها «اقبية الفاتيكان» و «المزيفون» و «الباب الضيّق» وكذلك بكتب عديدة اصدرها في أدب الرحلات، يصف بعضها رحلاته الى شمال افريقيا وبعضها رحلاته الى الكونغو ومصر. أما كتابه الأشهر «الأغذية الأرضية» فكشف عن تعلقه المبكر بأفكار نيتشه، هذا التعلق الذي يقول لنا انه كان من خصائص دوستويفسكي ايضاً في كتابه عن هذا الأخير. ونذكر، أخيراً أن اندريه جيد كان هو الذي عرّف القراء الفرنسيين بأدب طه حسين، ولا سيما من خلال تقديمه الجميل للترجمة الفرنسية لكتاب «الأيام» لعميد الأدب العربي... تقديم هو نفسه قطعة أدبية بقلم الفائز العام 1947 بجائزة نوبل. [email protected]