يعتبر كتاب «عين الحياة في علم استنباط المياه» من المؤلفات المتأخّرة في ذلك العلم، ولا يمنع تأخّره من القول أنه يملك أهمية خاصة بين المؤلّفات التي وضعها علماء الحضارة العربيّة - الإسلاميّة عن المياه والتعامل معها. وضع الكتاب الشيخ أبو العباس أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري، نسبة إلى بلدة دمنهور المصريّة التي ولد فيها أواخر القرن السابع عشر. ونشأ يتيماً. وكان ذكيّا فَطِناً، وفي نفسه طموح وعزم. ووجد في اكتساب العلم والتحلي بحليته ما يخرجه من واقع حاله إلى ما يطمح إليه من رفعة ومجد. وفي ذلك الوقت، تمثّل العلم بالأزهر، فنزح الدمنهوري إليه صغيراً لا يكفله أحد. واجتهد في تحصيل العلم. واشتد ولعة بالفقه. واجتهد في التعرّف بالمذاهب الفقهيّة الأربعة المشهورة، كما عني بعلوم الهندسة والمساحة والحساب والهيئة (= الفلك). وشغف بعلم الميقات، فأتقن صنع المزاول وهي آلات كانت تستخدم في حساب الوقت بالاستناد إلى ظاهر حركة الشمس في السماء. وفى أواخر حياته، تولى مشيخة الأزهر. ولم يطل مكوثه فيها، إذ توفي في منتصف القرن الثامن عشر للميلاد. اليد التونسيّة عندما عزم الدمنهوري على وضع كتاب «عين الحياة...»، التمس أمر تأليفه من الشيخ يوسف بن محمد الزغواني التونسي، وهو فقيه تونسي معروف. ويأتي الاستغراب في شأن ذلك المطلب، من بعد موضوعه عن تخصّص الشيخ الدمنهوري. وحينها، كان الأقرب إلى الأمر الطبيعي أن يطلب فقيهاً تأليف كتاب في خاص علمة كي يزيل إشكالاً، أو يحلّ أمراً عويصاً، أويفصّل شيئاً كان أمره مُجمَلاً، وليس أن يسعى لتأليف كتاب في علم استنباط المياه! وينجلي الاستغراب عند معرفة صلة الزغواني التونسي بأمير بلاده الذي كان يجدّ في طلب وسائل العمران. إذ اشتهر ذلك الأمير، وهو الباي حسين بن علي التركي- مؤسّس الإمارة الحسينيّة في تونس، وإليه نسبتها، بالعمران، جاداً في نشره. وفي طليعة متطلبات العمران، الماء ولزوم توفيره وإنشاء الفوّارات والسقايات، وبناء الصهاريج والمآجل (هي الأحواض الواسعة التي تجمع المياه فيها). واستكثر الباي من نشر ما له علاقة بالمياه. ولذا، لم يكن غريباً أن يهتم الشيخ الزغواني التونسي بالماء وطُرُقِ طرق استخراجه ووسائل التعامل معه، كي يستعين الأمير بتلك المعارف في نشر العمران والخصب. يتألف كتاب «عين الحياة...» من مقدمه، وبابين، وخاتمة. كُرّسَت المقدّمة لأشياء تتصل بطبيعة موضوع الماء. إذ فسر فيها مصطلح «الاستنباط» (= استخراج المياه) لغةً واصطلاحاً، كما تكلّم عن العالم والعناصر الأربعة (الماء الهواء والنار والتراب) التي كان القدماء يظنون أن العالم مُركّب منها. وأفاض في تعليل ما تناوله، شارحاً خواص العناصر الأربعة ونسبة بعضها إلى بعض، وذكر الرياح وحدوثها وصفاتها، وبيّن علاقتها بالمياه في الجفاف والزيادة. ويتناول الباب الأول تعريف المواضع التي فيها ماء، وتلك التي ماؤها قريب، والأخرى التي ماءها بعيد، مع شرح طُرُق الاستدلال عليها عبر علامات محدّدة. وتناول الباب الثاني حفر الآبار وطرائقه، ووسائل معالجة الآبار ومشاكلها. واختتم الباب بمجموعة من الأقوال، يدور بعضها عن الاعتقاد الباطل بالنجوم والقمر مما كان يحكيه المنجّمون، فيما يلامس بعضها الآخر حكايات عن الحركات البهلوانيّة السريعة، مع تفنيد ما تسعى إليه تلك الحركات من توهيم ومخادعة لعين من يشاهدها. الأرض وأقاليمها تضمّنت خاتمة كتاب «عين الحياة...»، ثلاثة مباحث أساسيّة. يتناول المبحث الأول إيضاح مواضيع وردت في البابين السابقي الذكر. واستمد المبحث مادّته من كتاب «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» للقزويني. ويتعلق المبحث بالأرض وطباعها وطبقاتها وما يحيط بها من الماء والهواء، إضافة إلى وصف الماء وأنواعه وأبخرته وغيرها. يحمل المبحث الثاني عنوان «في بيان المعمور من الأرض». ويتناول القسم المعمور من العالم في طوله وعرضه، وقسمة الأقاليم إلى سبعة، وأثر الأقاليم في الأبدان والطبائع والأخلاق وغيرها. يتحدث المبحث الثالث عن فضائل العلم وأهله، إضافة إلى ذكر بعض ما تواتر الآيات والأحاديث وكتب القدماء، عن فضيلة العلم والحث على تحصيله. وكأن الدمنهوري أراد في المبحث أن يحفز همم الأمة على اكتساب العلم كي تستفيد منه في شؤون دنياها وآخرتها، فتعمر الأرض، وتستنبط المياه، وتزرع وتغرس ما تتقوّت به، بل ما يمد لها أسباب الحياة الهانئة، مع ملاحظة أن الناموس المقرّر في الإسلام هو «احرث كأنّك تعيش أبداً، وأعمل لأخرتك كأنك تموت غداً». في ثنايا الكتاب، وضع المؤلف صوراً لجهات هبوب الريح، وكرة الأرض وأقاليمها السبعة وغيرها. لا ريب في أن جملة ما تضمّنه كتاب «عين الحياة...» يندرج في إطار العلم النافع الذي عني به الفلكيين وعلماء الفلاحة (الزراعة) في الحضارة العربيّة- الإسلاميّة. وظل العلم موضع نظر ودرس واعتبار، مع متابعة رحلته عبر الأزمنة والأوطان شرقاً وغرباً، لأن العلم لا تحجزه حدود مغلقة، ولا تقيّده قيود. وعلى رغم أن الدمنهوري لم يأت بجديد في كتابه «عين الحياة...»، إلا أنه امتاز ببراعته في تلخيص الأصول التي أشارت إلى مسألة استنباط المياه، مع ملاحظة أن أصولها باتت في حكم المفقودة في زماننا.