وزير الدفاع يبحث مع نظيره البريطاني التعاون الدفاعي    انخفاض أسعار الذهب إلى 2304.99 دولارات للأوقية    ريادة "كاوست" تحمي التنوع بالبيئة البحرية    "تاسي" أحمر بتداولات 8.9 مليار ريال    "سامسونج" تحل مشكلة الخطوط الخضراء    طرح تذاكر مباراة الاتحاد والشباب في "روشن"    ميتروفيتش يشارك في مران الهلال قبل مباراة العين    قيادات أمن الحج تستعرض الخطط الأمنية    أمير الرياض يُسلّم "جائزة الملك فيصل"    ارتفاع في درجات الحرارة على منطقتي مكة والمدينة وفرصة لهطول أمطار بالجنوب    منح السعوديين تأشيرة «شنغن» ل 5 سنوات    «السيادي السعودي».. ينشئ أكبر شركة أبراج اتصالات في المنطقة    «أرامكو» تبحث الاستحواذ على 10 % في «هنجلي» الصينية    السعودية تستعرض البرامج والمبادرات الوطنية في «الطاقة العالمي»    الإعلام والنمطية    «مسام»: نزع 857 لغماً في اليمن خلال أسبوع    تجربة ثرية    دور السعودية في مساندة الدول العربية ونصرة الدين الإسلامي    تعزيز التعاون الخليجي الأوروبي    الرباط الصليبي ينهي موسم "زكريا موسى" مع أبها    في إياب نصف نهائي دوري أبطال آسيا.. الهلال في مهمة صعبة لكسر تفوق العين    أخضر المصارعة يختتم البطولات القارية المؤهلة لباريس 2024    3 آلاف مفقود تحت الأنقاض في قطاع غزة    تطوير العلاقات البرلمانية مع اليونان    الشورى يوافق على مشروعي السجل والأسماء التجارية    الأزهار البنفسجية تكّون لوحة جمالية.. «شارع الفن».. مناظر خلابة ووجهة مفضلة للزوار    تقدير أممي لجهود مركز الملك سلمان في اليمن    غربال الإعلام يصطفي الإعلاميين الحقيقيين    الأمانة العلمية    «أضغاث أحلام» في جامعة الطائف    علماء الأمة    بمجموع جوائز تصل إلى مليون ريال.. الأوقاف تطلق هاكاثون "تحدي وقف"    النسيان النفسي    اختلاف زمرة الدم بين الزوجين    عيسي سند    أكثر من ثمانية آلاف ساعة تطوعية في هلال مكة    جمعية عطاء تدشن برنامجي قناديل وعناية    أمير الحدود الشمالية يطلع على برامج التجمع الصحي    العين بين أهله.. فماذا دهاكم؟    ماذا يحدث في أندية المدينة؟    أمانة المدينة تطلق الحركة المرورية في طريق سلطانة مع تقاطعي الأمير عبدالمجيد وخالد بن الوليد    قصور الرياض واستثمارها اقتصادياً    أمير حائل يفتتح أكبر قصور العالم التاريخية والأثرية    أمير حائل لمدير قطاع الحرف: أين تراث ومنتوجات حائل؟    شعوب الخليج.. مشتركات وتعايش    تدريب 25 من قادة وزارة الإعلام على تقنيات الذكاء الاصطناعي    سلسلة من الزلازل تهز تايوان    مساجد المملكة تذكر بنعمة الأمن واجتماع الكلمة    نائب أمير جازان يدشن حملة «الدين يسر»    حاجز الردع النفسي    الرياض تستضيف معرضاً دولياً لمستلزمات الإعاقة والتأهيل.. مايو المقبل    محافظ طبرجل يطلع على الخدمات البلدية    «البيئة» تُطلق مسابقة أجمل الصور والفيديوهات لبيئة المملكة    الزائر السري    أمير الرياض يرعى حفل تخريج دفعة من طلبة الدراسات العليا في جامعة الفيصل    وزير «الإسلامية» للوكلاء والمديرين: كثفوا جولات الرقابة وتابعوا الاحتياجات    انطلاق منتدى «حِمى» بمشاركة محلية ودولية.. ريادة سعودية في حماية البيئة لمستقبل العالم والأجيال    سعود بن بندر يستقبل أمين الشرقية ورئيس «جزائية الخبر»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شهادة على.. علي الدميني
نشر في الحياة يوم 23 - 12 - 2014


علي..
أراك تكلفني من أمري عسراً.. حين تطلب ما لا أطيق عليه صبراً.
.. وكأنك تحاول مقاومة وطأة السنين! نعم.. فالمشهد المتقاطر من غيوم الذاكرة، يبدأ الآن في الانكشاف.. وها هي صور العمر المنفلت تتهاوى على بعضها.. يلمع ضوء من بين ركام هزيمة 67.. وقد بدأ الوعي يتشكل.. كان يحدونا أمل، هذا الذي تماوج بالحلم الكبير مع اندفاع حركية الإبداع وأطروحات الفكر ومعترك السياسة في العالم العربي..
الشعر كان الفرس المجنح بالهموم والآمال.. بالقضايا والتجارب. كم من الحبر سال على مآقي النكبة في فلسطين.. والعرب يطلعون طلوع المنون على بني صهيون.. فما كانوا هباء.. ولا كانوا سدى.. كما عبّر علي محمود طه برومانسيَّته الفاتنة، التي لم نرَ صداها المتمرد، إلا في بروق شعراء الأربعينات، ورعود فورة الخمسينات، ورؤى شعراء الستينات، وإحباطات شعراء السبعينات، وتجريبية شعراء الثمانينات الميلادية، بحثاً عن لغة شعرية جديدة، بعدما استنفذوا طاقات أسلافهم الفنية، بتراكيب أسلوبية جديدة، زاوجت بين خطوط التشكيل وتراكيب الصور ورموز الأساطير، وتقنيات التصوير بمختلف أبعاده السينمائية والضوئية.
***
لا تقل لي على سبيل المثال إن محمود درويش كان نسيج وحده، وهو على قلق كأن رياح الاغتراب تقلّبه ذات الأساطير التوراتية تارةً.. وفرادة المتنبي تارةً أخرى.. وبينهما كان يسكب موهبته في خلطةٍ شعريةٍ مفضوحة، من رومانسية علي محمود طه، وخطابية إبراهيم طوقان، وجمالية نزار قباني، ولغة أدونيس الشعرية، التي اصطنعها لنفسه، بعد قراءة متعمقة للشعر العربي قديمه وحديثه، مروراً بالشعر الفرنسي واقفاً عند سان جون بيرس، متخذاً من مواقف النفري منطلقاً في التفلت من ربقة التنميط الشعري. غير أنه لم يوفق في التعبير بها إلا حينما يكون أمام مأزق وجودي ماثل! فكان اجتياح إسرائيل شوارع بيروت عام 1982، بحثاً نيرونياً عن كل ما هو فلسطيني، مقاوماً كان أم شاعراً أم حتى كتاباً! فجاءت رائعته «سنبلة الوقت».. تماهياً بين ذاته ولغته، قضيته وشعره.. ولأنه حداثي بامتياز اشتغل على أناه الشعري، مختوماً برحيقه، ومغلقاً على فهمه، ولم يفض بكارة النص الأدونيسي سوى محمود درويش في رائعته «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا» وبهذا جهز درويش مطية أدونيس الشعرية ذات الصور المبهرة، فطاف بها شوارع المدن وأزقة القرى في العالم العربي، حاملاً قضية العرب الكبرى، التي لم تجد أصداءها إلا في أَخيلة الشعراء وصورهم، حتى كادت تتلاشي مع تلاشي الاهتمام بالقضية الفلسطينية، بعد زيارة السادات المشؤومة للقدس عام 1977.
***
على أية حال لم يكن محمود درويش الشاعر العربي الوحيد الذي افتتن به جيلنا، وخصوصاً بعد حصار بيروت.. فسعدي يوسف فتننا بمحنة اغترابه «الجزائري» في «أخضره» منشغلاً عنا بمحاولة «عبور الوادي الكبير» باحثاً «عن خان أيوب» في دمشق.. فلم يدله أحد! وهل يحتاج الإبداع إلى دليل؟! هذا سؤال فلسفي طويل، ممتد من شعراء أثينا الملحميين، مروراً بشعراء العرب الجاهليين والأمويين والعباسيين، وصولاً إلى شعراء أوروبا وفنونها منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا.. إذ تقف الإنسانية اليوم على مفترق حروب الأصوليات، وحوار الحضارات.. صراع القوى الكبرى، وتداخل الثقافات، وعولمة القيم، وعلمانية المعرفة، وتدفق المعلومات، وثورة وسائل التواصل.. لقد قطع عليّ الاسترسال استكمال المشهد.. فها هو صوت الأثير يحمل إلينا من على منبر المربد صوت مصطفى جمال الدين العراقي متوسماً بوريق عمر بغداد الأخضر، اشتبكت عليها أعصر هولاكية وأميركية وإرهابية بأعاصيرها الدموية.. في حين انطلق صوت عبدالله البردوني من على المنبر ذاته، يغني مليحته التي تعاور عليها عاشقاها السل والحرب، ميتةً في صندوق وضاح اليمن.
***
على هذه الخلفية أخذ المشهد يتشكل.. والتقيتك ذات يوم ممتطياً حصان المدينة الناري، حاسر الرأس، جنوبي الإهاب، فياض المشاعر، وامقاً بالأمل. كان اسمك تناهي إليَّ على ألسنة زملاء دراسة قطيفيين، ممن انضموا إلى سلك الدراسة في كلية النفط، قبل أن تصبح جامعة.. وبما أنهم قرنائي فإن الشعر ما انفك عنا منذ تفتحت مداركنا الصغيرة عليها في مجالس آبائنا.. فجاء أولئك يبشرونني بميلاد شاعر ينطق باسم الكلية، وهي قبيلتك - البديل - في احتفالاتها ومناسباتها.. وفي رحلة عمل لجريدة اليوم، أوائل السبعينات الميلادية، قابلت في الرياض أبرز رموزها من أدباء المملكة وشعرائها.. عبدالله بن خميس، وعبدالعزيز الرفاعي، وحسن عبدالله القرشي، وعبدالله بن إدريس، وطفق الأخير يسألني عنك مستبشراً بميلاد شاعر.
***
تكررت بعدها لقاءاتنا في مقر مطابع جريدة اليوم وتحريرها عند سكة الحديد.. وقد انضممت إليها وصديقنا القاص جبير المليحان، مصححين لغويين، نقضي الليل حتى هزيعه الأخير، في متابعة إصدار الجريدة، التي تصدر يوماً، وتنام يوماً أو اثنين أو ثلاثة، قبل أن ينتظم صدورها بعد مجيء محمد العجيان رئيساً لتحريرها، من مديرية تحرير جريدة الرياض، عندما غادر خليل الفزيع الدمام لرئاسة تحرير مجلة المعهد في الدوحة بقطر. وفي أماسي جريدة اليوم وقت ذاك، كانت أسمارنا فيها تندلع بالحوار، عن قراءاتنا دواوين الشعر العربي الحديث، ومتعلقاتها من الكتابات النقدية، في مجلات الآداب والشعر والأسبوع العربي اللبنانية، هذه التي كان محمد العلي يتداولها في كتاباته اليومية، وتغايرت أسماء زاويته في الصفحة الأخيرة من الجريدة بين «أمام المرآة» و«بعد آخر» و«كلمات مائية».. كانت ضحكاته المدوية في أسماعنا عنوان وصوله مبنى الجريدة، متأبطاً مقالته القصيرة.. مشدودين إلى شخصيته الجاذبة، هذه التي لامستها في صباي، وهو يحط مع أبيه واثنين أو ثلاثة من بني عمه بيننا في بيوت الأسرة في القطيف شتاء كل عام، لتقاسم عوائد الوقف الذري السنوية من النخيل.. ومرة أخبرني أبي - رحمه الله - مؤاخذاً محمد العلي استعارته كتاب «الموازنة بين الشعراء» للدكتور زكي مبارك من دون أن يرده إليه. هذا وتنامت سمعة العلي إلى أسماعنا من بعد على ألسنة نفر من طلبة القطيف في مدرسة الدمام الثانوية، معجبين بفرادة أسلوبة في تدريس مادة الأدب والنصوص، والتماع تعليقاته النقدية، هذه التي بدت جلية برؤى جديدة في مقالاته بجريدة اليوم، اتساقاً مع تجربته العراقية في العلوم الدينية واللغوية والشعر والأدب والسياسة، إذ أرسله والده لدراسة العلوم الحوزوية في النجف الأشرف أخريات الأربعينات الميلادية.. إلا أن محمد الهجري - وهذا هو اسمه المتعارف عليه وقتها - اطّرح العمامة تأسياً بأستاذة الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، وفعل بها الأفاعيل حسبما ذكر في مذكراته، وتجلت في قصيدته الهائية الرجيمة، وهو ينتقل من «محافظة» النجف، إلى «انفلات» بغداد؛ وحقق فيها بغيته من الانضمام إلى مجتمع الأدب والشعراء والسياسيين، وهو ما فعله العلي متراوحاً بين النجف وبغداد، حتى حصل على إجازة جامعية في اللغة والأدب، وكان على أبواب التفاعل مع تيار الشعر الجديد، ولامسه بدءاً بشاعرية علي الشرقي، التي افتتن بها العلي كثيراً منم دون أن يلمّح إلينا بذلك! بل أحسب أن جذور الانتماء القومي والبعثي عند العلي قبل قفوله راجعاً إلى الدمام وتحوله نحو الماركسية، سنجدها في أطاريح علي الشرقي وكتاباته النثرية. وكان أحد مصادر التمرد في شخصية محمد العلي.. قيام والده بالتضييق الديني عليه.. ومحاولة حرمانه من تعاطي الشعر وقراءته، وخصوصاً الشعر الرومانسي، اعتقاداً منه بأنها ستصرف ابنه عن التفرغ لدرس العلوم الحوزوية، وهو التوجس الذي دفع العلي إلى الانغمار في الشعر العراقي - الحديث خاصة - بل قاده ذلك إلى خوض التجارب الآيديولوجية والسياسية المتقلبة التي لاحقته بعد عودته إلى بلاده في النصف الأول من عقد الستينات الميلادية، ليحدث من حوله ضجة أدبية تحلّق حولها نفر من الشباب المتطلع نحو الأفق، وقد تلفع بالأمل.
***
لم يكن علي الدميني وحده من تحلّق حول العلي.. فغيره آخرون من مكونات المجتمع السعودي التي تشكلت في مدينة الدمام في أعوام ما بعد اكتشاف النفط، إلا أن الدميني كان أكثرهم افتناناً بشخصية العلي الجذابة، على رغم تقلب مزاجها.. وشيئاً فشيئاً، وتجربة بعد أخرى، أصبح العلي يجد في الدميني ضالته. فهو تلميذه النجيب وصديقه المقرب، وراويته في المجالس والمسامرات، ورفيقه في السراء والضراء؛ فجاء إعجاب الدميني بشاعرية العلي، بسبب فرادتها على الساحة السعودية.. وهي شاعرية فذة لو تفرغ لها العلي، لأصبح واحداً من أبرز شعراء العرب الحديثين، لولا كسله الذي يتباهى به! وهو كسل جعله ي«كبسل» قراءاته وآراءه في زاويته الصحافية، مبدداً بكتابتها يومياً، طاقته الشعرية، واستعداده الهائل للنقد الأدبي.
وفوق ذلك فإن التزام العلي الآيديولوجي، صير التلميذ لأن ينصهر بالأستاذ في مواقف متماهية من الفكر والشعر.. من هنا يجيء افتتان الدميني بالتجربة العراقية في الشعر العربي.. وإلا فما الذي يدفعه إلى تسمية ملحق اليوم الأدبي - إذ تولى الإشراف - عليه ب«المربد» لا «دارين» أو «هجر» وكلامهما سوق قديمة للشعر قريبة من مكان صدور الجريدة التي تصدر الملحق؟! سوى الرغبة في التماثل.. ووجد العلي فيما يبدعه شعراء العراق الجدد، إحياء لذاكرته الشعرية التي تشكلت بين مدرسة النجف الخليلية، ومدرسة بغداد التفعيلية. وهكذا بشَّر علي الدميني في «مربد» اليوم بما يتدفق به العراقيون من وعي جديد، وشعر حديث في قصائد سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر.. ومن قبلهما بدر شاكر السياب.. ولو لم ينحرف عبدالرزاق عبدالواحد بشاعريته الهائلة عن مساره الآيديولوجي ليتحول إلى بوق شعري مدوٍ يمجد بطولات صدام حسين الوهمية، لأصبح - هو الآخر - من أبرز المؤثرين في شاعرية الجيل الثاني من شعراء العراق والمملكة ودول الخليج.
ولأن علي الدميني يمتلك ذائقة شعرية منذ تشكل وعيه، قام بقراءة الشعر العراقي الحديث قراءة متواصلة، لم يعقها اطلاعه على تجارب الشعر العربي الحديث في مصر وسورية ولبنان، ليقف منبهراً متأثراً بما أبدعه سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر ومحمود درويش.. وهذا ما يلاحظه الناقد في ديوانه الأول «رياح المواقع». غير أنه في الأعوام الأخيرة، وقد تفرغ معتنياً بتجربته الشعرية، اختط له تعبيراً شعرياً فريداً، بعد اطلاع واسع على مدارس الشعر العربي القديم والحديث، واهتمام بالكتابات النقدية، وقراءة واعية للمشاريع الفكرية التي تطارحها أبرز مفكري العرب المعاصرين، وتجلت هذه القراءات في رائعته «الخبت» التي أراها في طليعة قصائد الشعر العربي الحديث في الأعوام الأخيرة.. صحيح أنه نص تناصّ بينه وبين معلقة طرفة بن العبد ذات البعد الاغترابي، إلا أنه كذلك تناصّ مع روائع قصائد الشعر الشعبي في مسقط رأسه الغامدي، حقق فيه الدميني قيمته الإبداعية المضافة، لأنها خلت من «العربات وهي تئن خلف خيولها البيضاء» ومن «قد عرفت المدينة».. «أنهارها والحصى».. «حين أطل على الساعة في الميدان».. «ليحضر موعده الأبيض قبل وصول الباص»؟!
***
علي الدميني هو عمر بن أبي ربيعة الذي ظل يهذي بالشعر زمناً طويلاً، وهو يتغزل بالقرشيات، حتى استقام لسانه الشعري.. حين وعى أنه لا بد من التخلص من أحمال ذاكرته.. ويقول الشعر على سجيته.. هكذا.. مثل قولك يا علي: «يا ملاك الصدف/ كيف لم نختلف/ أنت عريتني من صباي، وهيأتني حارساً للمسرات/ في كل هذه الغرف/ وأنا كنت رمحك في الصيد/ لكنني دائماً لا أصيب الهدف». أو هذه المتناسلة الصور بروحية صوفية متفانية:
الأصدقاء/ هؤلاء الذين يربّون قطعانهم في حشائش ذاكرتي/ هؤلاء الذين يقيمون تحت لساني موائدهم،/ كالهواء الأخيرْ./ مرةّ أستعير لهم فرح امرأةٍ في الجريدة/ تبكي عليّ،/ مرَةّ أطلق السهم نحوي،/ فأخشى عليهم جنون الصبيّ،/ ومراراً أغسلهم بالحدائق كي يتركوا جثتي في المياه،/ عارياً كقميصٍ بلا شفتينْ،/ نائماً في رفاتي كما أشتهي،/ سابحاً في صفاتي كما ينبغي،/ وأتّوجني سيداً وأميرْ».
العودة إلى النبع الحالم كما يعّبر عنوان أول دواوين الباحثة والشاعرة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي، هي التي تفّجر الشاعرية.. وأنت - يا علي - حين تختلي بنفسك، وتستعيد زمنك المضمخ بعطر المعاناة، معاناة فقد الأم، والتنقل بين القرى الغامدية، واسترواح صور الطفولة والصبا، هي التي تجعلك تبدع في «بروق الغامدية» وإذ تنزع عنك محاولات التشبه والانبهار بالمدينة.. اترك لنفسك العنان أيها القروي وستبدع كما أبدعت وأنت ترسم هذه اللوحة:
آبق في الغواية، هذا الفتى الغامدي الخجول/ تتبدى له نجمة في الحديقة بيضاء من ذهب /وحقول/ وتوسوس فوق ذراعيه مغسولة برواء الفصول/ لا تقولي عشقتك، ما زلت غضاً يخب نهار/ الطفولة/ لكنها ستقول/ ويكون الذي كان حين امتطينا صباح الخيول».
* عضو مجلس الشورى. وكانت شهادة الكاتب حول غازي القصيبي التي نشرتها «الحياة» لقيت اهتماماً واسعاً، ما دفع بعض الكتاب إلى الطلب من نصرالله مواصلة شهاداته على أبرز الأدباء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.