رحل الناقد والأديب الأردني شاكر النابلسي (1940 - 2014) في مدينة دنفر في ولاية كولورادو الأميركية حيث اختار الإقامة في العقدين الأخيرين. وكان أقام في مدينة جدة السعودية نحو ثلاثين عاماً، وشارك في الحياة الثقافية السعودية ناقداً وكاتب مقالات في الصحافة. أصدر النابلسي أكثر من خمسين كتاباً في النقد الأدبي والسوسيولوجيا والسياسة والتراث وتولت نشر معظمها المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت - عمان). وأحدث مؤلفاته كتاب في جزءين صدر عن المؤسسة وعنوانه «الجنسانية العربية». أول ما شد انتباهي إلى شاكر النابلسي اختياره المذهل لعناوين كتبه، بل وعناوين فصول كتبه، وكان من عادتي أن أرى كتبه ذات الطبعات الأنيقة في مكتبات جدة، بألوانها الزاهية، يخط العنوان على نحو من الغرابة بديع: «رغيف النار والحنطة»، و»الضوء واللعبة»، و»مجنون التراب»، و»المسافة بين السيف والعنق»، و»النار تمشي على الأرض»، ويتفنن الفنان في رسم لوحة الغلاف، وأذكر أن ألوان كتبه تميل نحو الأبيض، أما الموضوعات التي من شأنه أن يكتب فيها، فيختلط فيها الأدب والفن والنقد بالتنمية والسياسة. وقد كتب عن عبد الرحمن منيف، وفدوى طوقان، ونزار قباني، ومحمود درويش، ومحمد الثبيتي، وغالب هلسا، وشعر الحداثة في السعودية، وكتب في التنمية وقضاياها في السعودية. وأذكر هيئته في الحقبة السعودية من حياته، صورته الشخصية التي تظهر في الفصول التي أذاعها في صحافتنا، وهو يرتدي ثوبًا أبيض، وشعره المسرح بعناية بالغة، وتظهره الصورة في زاوية من زواياها، وكأنه فنان أو دنجوان! كتب شاكر النابلسي في كل ما تشوقت نفسه للكتابة فيه، وأذكر أن كتبه، على كثرتها وتنوعها، لم تكن، إبان اختلافي إلى الجامعة، لتحملنا على النظر فيها، وتعمق مسائلها، ولم تكن مجافاتنا كتبه بالأمر العجيب. وإني إذ أستعيد طرفًا من ذلك الماضي، أرد تلك الجفوة إلى ما صبه أساتذتنا في الجامعة في أدمغتنا من دعاوى «المنهج» و»النظرية»، وأن النقد الأدبي «علم». وكم جنت تلك الأوهام على تفكيرنا، حين توهمنا مع أساتذتنا، فحسبنا النقد هو كل ما يحاولونه من كلم باهت في بنيوية هجينة، وتشريحية لم يتعمقوها. ولا لوم علينا، آنئذ، فقد كنا طلابًا لا نرى العلم ولا النقد إلا تلك المصطلحات المكرورة مما قرأناه في كتب بعض الأساتذة ومقالاتهم. وعلى هذا أعرضنا عن كتب شاكر النابلسي، وأنى لكتبه أن تكون نقدًا أدبيًا، والرجل لا يرتطن لكنة تشبه ما عليه كتب النقد الأدبي «الحداثي»، فلا بنيوية ولا تقويضية ولا موت مؤلف. وكنا نقول، وقد بلغ منا الوهم مبلغه: إن شاكر النابلسي مخدوع عن نفسه بتلك العناوين الخلابة التي تفنن في صوغها وسكها. إن كتبه ليست غايتنا، فأسلوبه عذبٌ سلسٌ، والنقد الأدبي متجهمٌ عسرٌ، وهو واضحٌ مبينٌ، وما هكذا نقاد الأدب، فهم ملغزون لا يكادون يبينون، ثم إنه لا يصطنع مصطلحات، فما علينا بما يكتب، وقد رميناه بتهمة «النقد الانطباعي»! وأحمد الله أن تلك الأوهام سرعان ما تبددت، وعرفت من أمر شاكر النابلسي غير الذي عرفت. كان ذلك إثر تخرجي في الجامعة، واتفق أن عثر أخي محمد المنقري، في أثناء تطوافه بحراج الصواريخ في جدة، بمقدار وافر من كتابه «نبت الصمت»، فخصني بنسخة منه، ولقد زين هذا الكتاب في عيني ورغبني فيه أن هذا الكتاب يمكن حسبانه أول عمل يتوافر على صعود حركة الحداثة في المملكة ثم دحرها، وأن شاكر النابلسي كان فيه جريئًا، وقال فيه ما لم يستطع آخرون قوله. وأذهلني، وقد أحببت هذا الكتاب، أن عنوانه «نبت الصمت»، بما استجمعه من قوة مجازية، يلخص مضمونه، وفي الكتاب تقرأ تتبعًا عز مثيله لما كتبه الحداثيون السعوديون وخصومهم، وتعجب للصحف التي أثبت نصوصًا منها، وقبل أن يمضي بنا إلى غايته من الكتاب، يتبسط في درس حركة الاقتصاد السعودي، وأثر «الطفرة الاقتصادية» في التحول الذي أصاب البلاد. والحق أن الكتاب مرجعٌ أصيلٌ في دراسة التيارات الحديثة والمحافظة في المملكة، ومرجع مهمٌ في فهم شعر محمد العلي وجمهرة من شعراء الحداثة، وفي الكتاب تقويمٌ عميق لمقدار ما أصابه النقد الحداثي في المملكة من نجح أو إخفاق، وفي الكتاب شيع شاكر النابلسي حركة الحداثة في المملكة بفصل ذي عنوان عجيب يغني عن أي بيان وهو «نكبة البراعمة»! أخرجني «نبت الصمت» من أوهام «المنهج» و»النظرية» و»العلم» ومضيت ألتمس كتب شاكر النابلسي التي جفوتها من قبل، وإذا بي إزاء ناقد أدبي لم يجعل بينه وبين الآثار التي قرأها حجازًا، ولكنه جعل يقرأها ويتذوقها. وعرفت، حين أخذت في تعمقه، أن ذلك الضرب من النقد إنما هو النقد الذي ارتضاه الرواد، وأنه ما غاب وما شحب إلا حين خلف من بعدهم خلفٌ من أساتذة الجامعات، كل بضاعتهم مصطلحات تستر عجزهم عن تبصر الجمال والفن. حين عرفت كتب شاكر النابلسي في النقد الأدبي، كان الرجل قد غادر مدينة جدة، وحط رحاله في أميركا، وشرع في «الحقبة الأميركية» من حياته، أصبح فيها مشهورًا كما لم يكن من قبل، وواظب على التأليف وإذاعة ما ينشئه من فصول ومقالات في الصحف، وخلع ثوب الناقد وارتدى بذلة المفكر، وأعلن أنني جفوت كثيرًا مما كتبه، ولكن بعد أن أوسعته فهمًا وتعمقًا، رحمه الله.