تعاين البريطانيّة إريس مردوخ في روايتها «الفتاة الإيطاليّة» (ترجمة ميسون جحا، دار كنعان، دمشق) التغيّرَ الذي يمكن أن يتعرّض له المرء في غضون أيّام قليلة، وكيف أنّ الوقت القليل يمكن أن يُكثّف الخبرات والتجارب، ويصقل الشخصيّة وينوّرها عبر إنارة الأماكن المعتمة القصيّة في النفس. تصوّر مردوخ الحائزة جائزة بوكر عام 1978 عن روايتها «البحر... البحر»، كيفيّة انعكاس الاكتشافات المفترضة للآخرين لتعرّف المرء بشخصيّته وحقيقته، لتكون له الدواء في حين يظنّ أنّه سيكون الدواء للآخرين، كحالة بطلها إدموند الذي تعرّف إلى الكثير في الحقائق إثر عودته إلى البيت للمشاركة في جنازة أمّه، ليجد نفسه منخرطاً في مشاكل أسرته، وكشف ذلك النقاب له عن داخله، وغربته وتعاسته التي كان يتحايل على نفسه بها، ويسمّيها سعادة في حين أنّها كانت قيداً من العزلة والوحدة في قوقعة النقش وغربة المدينة، ويكتشف زيف حياته وتعاظم خوفه إثر ذلك. تقسّم مردوخ روايتها إلى ثلاثة أجزاء غير متساوية، يحوي الجزء الأوّل تسعة فصول، في حين يحوي الثاني ثمانية فصول، وتكتفي في الثالث بأربعة فصول. ولا تبدو الأجزاء منفصلة أو متغيّرة، بل تتسلسل بطريقة تصاعدية من دون أن يحدث أي توقّف مفاجئ أو انتقال زمنيّ أو مكانيّ طويل. وتختار لكلّ فصل عنواناً خاصّاً، كنوع من العنونة القصصيّة، التي تكمّل دائرة الحكاية وتمنح المفاتيح للقارئ لدخول أجواء الرواية والتجوّل في عوالمها. من تلك العناوين مثلاً: «ضوء القمر، إيزابيل تغذّي النار، بيت الفتنة، اعترافات أوتو، رقصة باليه معاصرة، دعابات ليديا، خواتم إيلسا، خشب البقس...». تحضر في الرواية نماذج نسائية عدة، هناك الفتاة الاسكتلندية إيزابيل زوجة أوتو، وهناك الفتاة الروسية اليهوديّة إيلسا، كما أنّ هناك البريطانية فلورا، وكلّ واحدة منهنّ تمتاز بسمات خاصّة بها، تنقل تصوّراً محدوداً عن المجتمع الذي تحدّرت منه وعاشت بين جنباته. كما تجهد كلّ واحدة منهنّ للتفرّد بصورة تميّزها عن غيرها. والنماذج الرجالية تقتصر على ثلاثة، تختصر بدورها شرائح وعيّنات مجتمعية. يعود إدموند إلى بيت العائلة الواقع في الريف البريطاني، وهو الذي يعمل نقّاشاً على الخشب في المدينة، يفترض أنّه سيقوم بدور المنقذ لتداعي الأسرة الصغيرة وانهيارها، لا سيّما بعد موت الأمّ المتسلّطة البخيلة ليديا. يتفاجأ إدموند للاكتشافات المتلاحقة التي ترهقه، إذ يُصدَم بابنة أخيه فلورا التي تخبره أنّها حامل من أحدهم، وتطلب مساعدته في التخلّص من حملها الذي يشكّل لها مشكلة كبرى، وهي المراهقة التي لم تبلغ الثامنة عشرة من عمرها بعد. كما يتفاجأ بأخيه أوتو المنغمس في عالم الكحول، الغائب دوماً عن الوعي، والمهمل ورشتَه وأعماله، حيث يهجر زوجته موقّتاً ليقيم مع عشيقته التي يظنّ أن لا أحد في البيت يعرف بوجودها، وهي تكون أخت أجيره ديفيد، الذي يكون بدوره على علاقة مع ابنة أوتو وزوجته، فيما أوتو غافل عنه وغارق في لياليه الحمراء برفقة إيلسا وجنونها. المفاجآت تتعاقب لتعاقب إدموند على غيابه المديد، تكشف له الهوّة التي تغرق فيها أسرة أخيه، والتفسّخ الذي يطاول بنيتها ويفتّتها، ويكاد يقع في فخّ الإغواء من قبل إيزابيل تارة، وتارة من قبل إيلسا، لولا أنّه يلوذ بسلوكه الرهبانيّ ويفضّل الهروب على الانخراط في اللعبة المدمّرة. لذلك، يحاول انتشال الجميع من المستنقع الذي يلوّثهم، ويؤجّل رجوعه إلى المدينة وعمله بحجّة تصحيح أخطاء أخيه وتدارك ما يمكن تداركه. تبرز الكاتبة تلاحق الأحداث وتأثيرها في نفسيّات الناس الذين يظنّون أنفسهم بمنأى عن الآخرين وتوتّراتهم والتغيّرات التي تجتاح حيواتهم بمجرّد أنّهم يختبئون في وحدتهم وينعزلون بأنفسهم، ليجدوا، حين المواجهة، أنّهم كانوا الضحايا الحقيقيّين لتلك الأحداث، وأنّهم دفعوا ضريبة عزلتهم ونأيهم بأنفسهم عمّا يجري بحجّة إيثار السلامة الشخصيّة. الصدمات، التي تغيّر المشهد الذي يبدو اعتياديّاً رتيباً في البيت، تغيّر جميع المقيمين فيه أيضاً. فلورا تتخلّص من حملها، إيزابيل تبوح بعشقها المحرّم لديفيد، كما تصرّح عن رغبتها بهجر أوتو، في حين أنّ أوتو يفيق على مأساة تفتّت أسرته، وإضاعته مكانتَه وأمواله، بخاصّة حين تكشف ماجي عن الوصيّة المخبّأة والتي تنقل إليها أملاك ليديا وأموالها كلّها. وتفاجئ إيلسا الجميع في غرفة إيزابيل، حين تقتحم الغرفة وتلعب بالجمر المتّقد الذي يحرق ثوبها الفضفاض، ويودي بها في رقصة نارية قاتلة، على مرأى من أوتو وإيزابيل، وتتسبّب بإحراق الغرفة وأجزاء من البيت، ويكون في ذلك الحين إدموند في الخارج يتعقّب أثر فلورا الهاربة إلى الغابة، وتتبعه ماجي الحريصة عليهما، وإن كانت مفجوعة بدورها بالإهانة التي تعرّضت لها على أيدي الجميع، لا سيّما فلورا، ولكنّها تتجاوز ذلك لاعتيادها على الإهمال من قبلهم. حادثة حرق إيلسا تشكّل منعطفاً للأسرة، تكون بمثابة الصدمة التي تنبّههم وتوقظهم من غفلتهم، يختار بعدها كلّ واحد منهم طريقه الخاصّ به في الحياة، بنهايتها المؤلمة تضع إيلسا الجميع على خطّ بداية جديدة. إيزابيل تطلب الطلاق من أوتو وتحصل عليه، تسعى للهرب إلى عالمها الجديد وهي حامل بطفل من ديفيد الذي يختار العودة إلى بلاده. تمضي فلورا إلى جامعتها، يبقى أوتو في البيت ليكمل حياته هناك بعد أن يصرّح بتغيّره ويقظته، ويجد إدموند نفسه برفقة مربّيته الإيطاليّة ماجي التي لم تكن تكبره إلّا ببضع سنوات، حيث يختار المضيّ معها برحلة إلى روما، من دون أن يبيّن أن تلك الرحلة ستستكمل كاقتران أو صداقة أو علاقة. لا تتلاءم الأدوار في الرواية وفق حجمها والحيّز الذي تحتلّه، بل وفق تأثير الشخصيّات في تسيير دفّة الأحداث، فعلى رغم أنّ الفتاة الإيطاليّة ماجي التي كانت مربّية للطفلين إدموند وأوتو هي الأقلّ حضوراً في الرواية، لكنّها تبدو الأكثر تأثيراً في الخفاء، وهي التي تحتلّ عنوان الرواية أيضاً، ذلك أنّها تكون شاهدة صامتة على كلّ ما يجري في البيت من صراعات وخيانات، وتنأى بنفسها عن الخوض في أيّ منها، تبقى على مسافة واحدة من الجميع، وتقوم بأعمالها على أكمل وجه. تصادق الأمّ الراحلة ليديا التي توصي لها بأملاكها وأموالها من دون أن يعلم بذلك أحد. ثمّ ترسم تالياً لوحة التغييرات التي تتدخّل بها وتسيّرها. تصوّر مردوخ (1919 - 1999) في روايتها شبكة علاقات متداخلة إلى حدّ التعقيد، وتلتقط جانباً متفسّخاً من الحياة الأسريّة، لتنقل فكرة مفادها أنّ التفكّك الاجتماعيّ لا يتعلّق بالمدينة وعاداتها ومتغيّراتها فقط كما قد يخمّن البعض، بل قد تكون المناطق الهادئة هي الأكثر عصفاً وجنوناً من أيّ مكان آخر محتمل، وأنّ هناك كثراً من البشر يحملون لوثة الخيانة، التي حين يتمّ تفعيلها، فإنّها تودي بالجميع في رحلة الانفجار المدمّر.