الإثنين 8/4/2013: ما قبل الطاولة الوطنية السورية لم يقبلها أهلها. كان كاتب سويسري من أصل سوري اسمه سيمون جورجي، يقابل كتّاباً من بلده الأصلي أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، يسألهم عن وطنيتهم الضائعة بين العروبة وسورية الكبرى والعالمية الإسلامية... فلا يسمع جواباً. لقد انسجموا مع الأيديولوجيات، واتخذوا من الكلمات وطناً بدل الأرض والماء والمطر والشمس والعمارة والشجر والزهر والغناء والموسيقى والمراعي. سورية اليوم على طاولة الأمم والسكاكين حاضرة. ما قبل الطاولة لوقيانوس السميساطي (125 - 180 ق.م.)، كاتب سوري من منبج في عهدها اليوناني، نشرت له «اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع» كتابه التحفة «مسامرات الأموات»، وأنجز الترجمة عن اليونانية إلياس سعد غالي. كنت أظن غالي مصرياً، لإيقاع الاسم، لكنني عرفت بعدما مات أنه دمشقي متخصص بالآداب القديمة ولغاتها. وليس لغالي اليوم وريث في وطنه، ولا من يقرأ لوقيانوس أبا السخرية الحكيمة في الأدب السوري عبر العصور. كيف للسخرية أن تكون في عصر التجهم، يكفي أن تضحك ويغمرك فرح الحياة حتى تكون مطلباً لسيوف المتجهمين. وما قبل الطاولة، البيت الحجري الصغير في دمشق القديمة كان لقيا الرسام العراقي الإيطالي جبر علوان، في ساحته ينجز لوحاته الصارخة بالمجاورة الصعبة بين الأخضر والأحمر والأسود. لوحات تُعرض في روما وتحظى باحتفال نقاد وإقبال مقتنين. وما قبل الطاولة، المخرجون الثلاثة الشهود الفنيون على حال سورية، أسامة محمد وعمر أميرالاي ومحمد ملص، يضاف اليهم هيثم حقي في المجال التلفزيوني. في أفلام هؤلاء صورةُ سورية وصراخُ قلقِها المكتوم إلى حدّ أنها نافست في المجال العربي شعر نزار قباني وأدونيس وروايات غادة السمان وغناء القدود في مدرسة حلب الموسيقية الأكثر عراقة في الشرق الأوسط. مات أميرالاي وتفرق الآخرون، وبقيت أفلام ومسلسلات حافلة بوجوه وأجساد الممثلين والممثلات، الذين واللواتي دخلوا ودخلن خيال المشاهد والمشاهدة في العالم العربي. هذا الجمال السوري لطالما تألق قبل الطاولة، ولا يزال حاضراً على الشاشات. الثلثاء 9/4/2013: على الطاولة سورية على طاولة الأمم. لقد تم إلى حدّ بعيد حصر الحرب لئلا تمتد إلى دول الجوار الهشة، وها هم السوريون ينصرفون إلى التقاتل وتهديم بلدهم وتعزيز ارتهانهم حتى تتفق القوى الكبرى، الإقليمية والدولية، على إنهاء المأساة. وعلى الطاولة في المقهى، أكواب ثلج بماء الليمون وشاي وشوكولا سائل ونسكافيه. جلس الأصدقاء إلى الطاولة يسألون مثقفاً سورياً حطت به الرحال ليومين في بيروت. مثقف صادق، من بقايا جيل يخلي مكانه لأهل طبقة تحت الأرض في عالمنا العربي. شيء من خيال كاتب مريض يتحقق في الواقع. يصعد السفليون إلينا فيأكلوننا فرداً فرداً، كتاباً كتاباً. يصعدون في الليل ويعودون إلى طبقتهم المظلمة في النهار. إنهم شركاؤنا السريون بلا عيون وبأفواه فاغرة، شركاؤنا الذين نشكل نحن غذاءهم الوحيد، يأكلوننا من دون أن يرونا. لا تلتقي نظرات القاتل والقتيل، الآكل والمأكول. على مبعدة ساعة بالسيارة من المقهى، أو أقل أو أكثر، يطبق الظلام على سورية وتتجمد غيمة كثيفة الرماد بين سمائها وارضها. من هناك نكاد نسمع صدى كلام المثقف السوري الصادق، صدى قلقه من تقسيم وطنه، الذي فضّل أهله الأمة الغامضة على الدولة الواضحة. تقسيم بحدّ السكين وبأيدي قتلة يتحولون سريعاً إلى مقتولين. نسمع المثقف الصادق ونتناول المشروبات الباردة والساخنة، ونصم آذاننا عن صراخ الضحايا وشكاوى جماعات عريقة تجد نهاياتها داخل الأسوار. الأربعاء 10/4/2013: في الوقت المناسب تهبطين في الوقت المناسب لتمنعي سقوطي على طريق يؤدي إلى البحر، فلماذا لم نكن معاً وقت الرحيل؟ تركتُ نفسي للأهل، للماضي، للشجرة الكبيرة العصية على الموت، وبقيت شاهداً ولست حجراً. يوماً ما سأرحل، لا إليك، وستحزنين في مكانك البعيد. لماذا أبدو قديماً يداخلني الأنس في انتظار ما يؤنسني: الغناء القليل الكلمات، والإيقاع البدائي، كأنه ولد للتوّ من فم القصب ولم يسمعه أحد قبلي. الخميس 11/4/2013: الرقص الرقص تقول الكاتبة المصرية سحر الموجي إن موجات من المهرجانات الثقافية تعمّ مدن مصر وقراها، معلنةً تجديد الحياة عبر المسرح والغناء والعروض الشعبية والنخبوية، وفي طليعة ذلك الرقص. نحن نرقص إذاً نحن موجودون. ولن نتحول إلى كيانات جامدة ومتكررة، لا في القول ولا في الزي ولا في الكلام ولا في الغناء. مثل هذا الكلام يصدر عن سحر، ومثل هذا الفعل في مصر وبلاد عربية أخرى. الحركة الثقافية تدافع عن وجود بلاد قديمة مهددة بالمحو عبر التنميط. وفي هذا المجال مهرجانات الرقص المعاصر («ملتقى دمشق» أقفل بسبب حرب تقصف الأجساد) في رام الله، حيث التعبير عن حياة فلسطين ضد حروب الإلغاء العسكرية والثقافية، وفي بيروت حيث يصرّ اللبنانيون على انفتاحهم وتعارفهم الداخلي ومع المنطقة والعالم، إصرار يعطي البلد الصغير معنى مقاومة الموت الآتي من غفلة العقل والجسد، ومن قوى تريد تحطيم صورتنا الحية. الجمعة 12/4/2013: قلق وتناقض دعت حركة «مثقفون من أجل التغيير» في مصر إلى إعادة هيكلة وزارة الثقافة «بما يضمن وضع حدّ للفساد الذي تعاني منه، ويمنع في الوقت نفسه محاولات اختراقها من جانب جماعة الإخوان المسلمين». بيان يعبر عن قلق ويحوي تناقضاً. أما القلق، فهو ناتج من تعوّد المثقف المصري رعاية القطاع العام منذ إنشاء وزارة الثقافة والإرشاد القومي في العهد الناصري. قبل ذلك، كان النتاج الثقافي يصدر عن القطاع الخاص ويتبلور، ويتطور عبر المنافسة في سوق مصرية وعربية تطاول أيضاً قرّاء العربية في العالم. صحيح أن النتاج الثقافي، خصوصاً الضخم منه، يحتاج إلى عون مادي كان يؤديه الأعيان أو الحكام، حتى في أوروبا. لكن الثقافة حين تستسلم إلى القطاع العام، تفقد الكثير من مبادرتها وحيويتها وحريتها. وأما التناقض، فهو الدعوة إلى منع اختراق الإخوان المسلمين أجهزة وزارة الثقافة. إنها دعوة إلى طرد موقف ثقافي (هو هنا إسلامي) من نعيم القطاع العام، وفي ذلك ما فيه من قيد على حرية الفكر، ينبغي ألاّ يصدر عن مثقفين ينادون بالتغيير. فليترَكْ للمثقفين من جماعة «الإخوان» أن يحضروا وينافسوا في القطاعين العام والخاص، والحكم للقارئ والمتلقي.