كان عليّ أن أصحو في غبشة الفجر، أجهِّز صرة الغداء وسترة الشغل وأنتظرهم. قلت: سآخذ النهر والشمس التي ستشرق في يميني وأسير خلفهم. بدا أنهم لا يشعرون بي فيما كان الطريق طويلاً وهم يسيرون بخطى مسرعة ولا ينظرون إلى الخلف. دخلوا من البوابة الكبيرة، ركنوا الصرر ولبسوا هدوم الشغل بسرعة، فارتديت سترة فهمي الواسعة بلا أزرار. سبّ الرجل القصير أمهاتنا للتأخير وأشار إلى تل الكتان المكوم: - نزلوا ده في الحوض. أول يوم لي، هو الريس بالتأكيد كما وصفه فهمي ويجب أن أستأذنه، باغتنا مرة أخرى. - اشتغلوا... مستنين إيه في نهاركم الأزرق؟ كان غاضباً وأحسست أن الوقت غير مناسب، وفهمت من لهجته ما يشبه الموافقة وإن ساورني الشك والخوف. انطلقت خلفهم إلى جبل الكتان المكوم، أفرد الحبل وأرصُّ الحِزَم وأرفع فيستقر الحِمْل على ظهري. كنت أسير خلفهم محنياً على مدقات ضيقة وملتوية حتى الحوض الكبير، نقذف فيه ليتولى آخرون الرص بعناية. اختار لنفسه موقعاً يرى منه الجميع. يمرون أمامه، يزغد البطيء فيسرع، يضيف حزمتين الى الحمل الخفيف، أو يستحث الفارغين بعصاه الطويلة، وكنت أراه أحول العينين قبيحاً. أمرّ أمامه فيحدق في وجهي بإحدى عينيه فأظنه لا يقصدني. في المرة التالية وجَّهَ عصاه ناحيتي وبدا كأنه يكلم شخصاً آخر: - إيه ده... الولد ده جديد؟ ارتبكتُ وشعرتُ بمرارة وجفاف في حلقي، فيما سطعت شمس أخرى حادة وحامية، ولم أتذكر ما قاله فهمي في مثل هذا الموقف. ظلت عصاه مشرعة في وجهي حتى أنهى كلامه في بساطة وحسم: - مش عايزين أنفار... مين اللي قال لك اشتغل؟ انشغل بالحديث مع ريس آخر وتركني متحيراً. كان المدق ضيقاً وملتوياً وبدا أن وقوفي يعطل حركة الأنفار فعدوت بالحبل في يدي، أتفادى الاصطدام بالأنفار المحملين، فيما بقي أسبوع واحد بعده تبدأ الدراسة ويخفُّ فهمي. انحرفتُ إلى جبل الكتان أفرد الحبل وأرصّ الحزم وكنت أشعر أن فهمي يبتسم ويغمز بعينيه مشجعاً. اشتغلتْ الماكينة، فتدفق الماء إلى الحوض، لم يرني أحد حين انكفأت على القناة وشربت، وإن نظر الجميع إليَّ بارتياب حين كنت متعرقاً ودائخاً والماء يرتج في بطني كالقربة. لسعني بعصاه الطويلة وزعق: - مش قلت لك مش عايزين أنفار؟ قفزتُ من المفاجأة والألم وإن لم يسقط الحِمْل. استشعرتُ غلَّه وقسوته فدعكتُ فخذي، وعاود فهمي الابتسام فاستبعدتُ الطرد وبدوتُ مرتاحاً لهذه النتيجة. هدأ صوته وعاد لمتابعة الرص والتحميل واستعجال الأنفار. - اتحرك يا صبحي... بسرعة يا أبو زيد. أمرّ أمامه فيلسعني لسعات خفيفة ومتوالية لكنها مؤلمة: - إتلحلح يا جديد. كنت أتقافز من الألم والسعادة، سأستمر في العمل، تحت الاختبار وبأجر أقل لا يهمني، سأصبح قديماً، أتولى الرص والتعطين والتنشيف أو أقف أمام الكسارات والمراوح، أستخلص شعر الكتان الناعم وألفّه في ضفائر وفي آخر النهار سآخذ الشمس الغاربة في يميني والنهر في شمالي ولن أقوى على المسير، سيسبقني الأنفار وأستريح في المصليات، أغمس قدمي في النهر كما قال فهمي فتنطفئ الجروح، فيما يبدو وجهي على سطح النهر أسمر والخدوش أقل حمرة وألماً. يوم الخميس، ساعة القبض تزاحموا أمامه، يقبضون فلوسهم ويعلِّم على أسمائهم في الدفتر. جاء دوري فأغلق الدفتر وهمَّ بالوقوف، قلت له: - أنا لسَّه. - إنت مين؟ كنت أظنه يعرفني، بكيت: - أنا الواد الجديد. قبَّضني ستين قرشاً وقال وهو يبتسم: - الأسبوع ده على عشرة والجاي على اتناشر. مسحتُ دموعي وأحسست أنه غير قاس ونسيت شتائمه كما قال فهمي - الله يرحمه - ولم تعد لسوعة العصا تؤلمني جداً. أشار بإصبعه مؤكداً ومذكِّراً. - أوعى تنسى... الأسبوع الجاي على كم؟ مسحت دموعي مرة أخرى وهززت رأسي. غمست قدمي في النهر فانطفأت الجروح بالفعل، الأسبوع المقبل مدرسة، وقدمي لم تعد تؤلمني كثيراً، قلت وأنا أبتسم: - على اتناشر.