هل حقاً يشكّل الأمر فارقاً؟ سنةٌ تذهب وأخرى تجيء. مَن يقرر البداية والنهاية؟ الانسان اخترع التواريخ والمواعيد وحفلات الوداع والاستقبال. البعض شاءها ميلادية والآخر هجرية، في أماكن أخرى لا هذه ولا تلك. اذاً، ما هي سوى ليلة أخرى كمئات الليالي التي تؤلف عمر الكائن الأرضي. الفارق أن ثقافة استهلاكية تجيد التسويق أكثر من سواها عمّمت نموذجاً معيناً على العالم أجمع، وجردته في عصر العولمة من معظم أبعاده الروحية والانسانية لتجعله «عيداً» تجارياً صرفاً يتنافس فيه كثيرون على البذخ والاسراف والتبذير، فيما الجوع والحروب والكوراث تعمُّ الكوكب. لا بأس بالفرح ولا ضير، بل لا بد من الفرح والمسرّات، لولاها لأمسى الكوكب مظلماً موحشاً على رغم كل ما يتلألأ من أنوار. المجتمعات التي تمجد الفرح و تفسح له الصدر، مجتمعات أكثر سلاماً وراحة بال. نقول الفرح ونعني تجلياته كلها، من فرح العطاء والصلاة والابتهال الى فرح الشعر والموسيقى والرقص والغناء. الفنون أكثر مقدرة من سواها على تجسيد الفرح وتمجيده. حيث تزدهر الفنون وتنتشر يقلُّ العنف ويتراجع ويخف سفك الدماء. حيث تُحجب الفنون وتُمنع يكثر الكبت والقمع وينتشر العنف. حين يُحرَم الانسانُ من سماع الموسيقى والاصغاء اليها والانتشاء بها والارتقاء معها الى أعلى، حين يُمنع عن الغناء والرقص وإتاحة الفرصة لجسده كي يحلّق ويطير ويتخفف من أثقال همومه اليومية، حين يغدو - حتى - الضحك جُرماً وعيباً لدى بعض الشرائح المفرطة في انغلاقها... لا بد ساعتها من أن تتفاعل في النفس البشرية كل نوازع الرفض والتمرد وعدم الطاعة، لتنفجر لاحقاً في شكل عنفي قاتل ومدمر. ألا نلاحظ في المجتمعات التي يكثر فيها التحريم وتتعاظم الممنوعات، كيف يُصاب الناس أفراداً وجماعات بنوع من الفصام والازدواجية. فيذهب بعضهم الى عيش حياتين: واحدة في السر وأخرى في العلن. فيما يختار آخرون أشكالاً أكثر تطرفاً في اتجاهين متعاكسين: تطرفٌ استهلاكي مقيت ومُنفّر، وتطرف انغلاقي يشكل البيئة المثلى لنمو أجنّة العنف والارهاب التي تغدو لاحقاً قنابل موقوتة تنفجر هنا وهناك متوهمةً صعوداً الى جنة لن تتسع إلا للفرحين ومحبي الحياة، لا للقتلة والمفسدين في الأرض. لنودّع بفرح ولنستقبل به. رغم كل القتل المتمادي من حولنا، رغم سفك الدماء والخراب العظيم. رغم قول الملائكة لخالقهم حين أخبرهم أنه جاعلٌ في الأرض خليفة: «أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء» (البقرة). فإن الافساد والقتل وسفك الدماء ليست قدراً محتوماً. نستطيع كلما أعلينا شأن الفرح، إعلاء شأن الانسان، وتحقيق قيمة النفْس التي حرّم الله قتلها بغير الحق (تبيان الحق يلزمه جهابذة فكر وفقه لا موتورون جهلة). لننتصر للمظلومين والمضطهدين بالفرح. فرح العطاء لهم والوقوف الى جانبهم والانحياز الى كرامتهم الانسانية وحقهم بالحياة كما يريدونها هم، لا كما تُراد لهم قسراً وغصباً باسم أحادية متعددة الاسماء والعناوين لكنها لم ولن تجلب سوى الخراب والدمار! تمضي سنة أخرى من أعمارنا المثقلة بالمآسي والأحزان، ليتها تحمل معها كل القتل والظلم والتعصب والفقر والجوع، وتُبقي لنا فرح الأخوّة الانسانية الأسمى من كل فكر مغلق وعقل متحجر، ولعل أكثر مَن أُفكر بهم لحظة وداع عام واستقبال آخر هم الضحايا الى أي فئة انتموا وأياً كانت عقائدهم وأفكارهم وتوجهاتهم، هؤلاء أجدر بالحب والفرح والحياة. سنةٌ تمضي نودعها بالرقص والغناء فيما هي ترقصُ على أعمارنا وأحلامنا.