يرصد التركيّ جيم مومجو في روايته «اسوار الكراهيّة» (ترجمة محرّم شيخ إبراهيم، الحوار، سورية») كيفيّة تكبيل مشاعر الكراهيّة لطاقات المرء ودفعه إلى التخبّط في مستنقعات الخطيئة، عبر الارتحال بين الآثام، ومحاولة الهرب الدائم إلى الأمام، في سعي لتبديد تلك الكراهيّة التي تتحوّل بالتقادم إلى قيد مدمّر للإنسان. تتحدّث الرواية عن أسرة صغيرة ترزق بطفل، وفي اللحظة نفسها يموت والده. الولادة والموت حدثان متزامنان معاً، يعبّران عن دورة الحياة الأزليّة الأبديّة. يتمّ استقبال الوليد القادم، واختيار اسم محرّم له في ما بعد، بحيث يكون قد مرّ على ولادته زمن، ويعيش الطفل في كنف مجموعة من النساء، أمّه وجدّتاه وغيرهنّ في بيت غارق بمشاعر متناقضة عدائيّة بين أفراده. والدة الطفل تضطرّ لدفع ضرائب ما لم تأته وما لا علاقة لها به، منها أنّها اختيرت لزوجها كبديل عن فتاة أخرى لم يرضَ والدها أن يزوّجها إيّاه، لأنّه لم يجده مناسباً لابنته ومن طبقة غير طبقته، كما أنّها كانت تعاني القمع من أمّها وحماتها، ولكنّ الأكثر إيلاماً هو تلك العلاقة البائسة التي كانت تجمعها بزوجها، وتلك الكراهيّة التي تتعاظم في داخلها. تهرب سلطانة هانم وشادومان بالطفل محرّم، تحاولان إنقاذه من كيد النساء في البيت، تلوذان بأحد معارفهما، تستقرّان عنده، ويكون ذاك الرجل وزوجته محرومين من الإنجاب، فيجدان في الطفل الصغير ملاذهما ومبعث تغيير في حياتهما، وينشغلان به، ويحاولان أن يوفّرا له ما يحتاجه. تحضر أنسنة للأمكنة التي تصوّرها الرواية، وأبرز تلك الأمكنة الحمّام الذي يحضر في الرواية كشخصيّة فاعلة ومؤثّرة، حيث يستذكر تاريخه والمجريات التي مرّت عليه وكان شاهداً عليها، يعترف أنّ الكثير من الأمور ما كان ينبغي لها أن تسير بالوتيرة التي سارت عليها وتشكّلت بها. يرى أنّ لجوء الزمان إلى الصفع واللطم يتوقّف على مجرّد قرعة، كما كان يرى توقّعَ أذى وضربات الحياة الظالمة والغبيّة ممكناً. يحمّل نفسه مغبّة وقوع بعض الحوادث، بنوع من التقريع، يجد أنّه لولا تهشّم زجاج القبّة الصغير وإفساد فسحة الحمّام العميقة، لما كانت الحوادث تجري هذا المجرى... وبنوع من التهكّم الممزوج بالمرارة يتساءل كم يخفي الحمّام من أجساد أطفال لم يولدوا بين أحجاره! محرّم الصغير يفتقد والدته عنايت المظلومة، يبدأ حياته من حافّة الهاوية، يبلغ سنواته الخمس، كثير الصمت، يخفي وراء صمته الطويل الكثيرَ من الأخبار، لم يكن كلامه المقلّ ناتجاً من ضحالة معارفه، وإنّما عن عمقها. بدّد تواصل الحرمان من نفسه مشاعر الخوف تماماً، تشرّبت روحه الاضطراب والهروب، فاستمدّ قوّة رأى من خلالها كلّ الاضطرابات طبيعيّة، لأنّه اعتاد ألا ينتظر من الحياة شيئاً، وأن يتوقّع منها كلّ شيء. كان قد امتلك أحاسيس فريدة، كان داخل الزمن كسائح، يتنقّل عبره بأحاسيسه، وكان قد استحوذ عليه من مَلكة التكهّن بالمستقبل، على درجة كبيرة من الوضوح والشفافيّة. يصوّر الراوي بنوع من الوجدانيّة الحياة بأنّها أمّ لا يُدرَى متى ترأف بأحد من أبنائها، أو تمسح رأس أحد منهم. كما يصفها بأنّها ماكرة إلى درجة تضيف فيها السمّ إلى حليبها من دون أن يرفّ لها جفن، وهي رؤوم إلى درجة ترضع فيها حتّى تستدرّ الدم من نهدها، تمنح الأمان لطفلها الذي تضمّه إلى نهديها الكبيرين، وفي الوقت نفسه تقوى على خنقه بذينك النهدين، ولا بدّ لأبناء الحياة الذين يتحدّون إرادتها التمرّد عليها، وكانت لديه نماذجه النسائيّة مَلك وسلطانة وشادومان، اللواتي يحاولن إنقاذ الطفل محرّم من كراهيّة الآخرين المستفحلة تجاهه في حياته. تكون هناك خشية من إخراج محرّم إلى النور، وإشراكه في أنشطة مع آخرين من جيله، أو إرساله إلى المدرسة، ويدور أثناء الحديث بين المعنيّين بأمره نوع من السجال الذي لا ينتهي ببساطة، هناك مَن يرى أنّ نوعيّة التعليم تختلف، وأنّه لا بدّ من التركيز على تهيئة الأذهان لتلقّي التعليم الأنسب. يسرد الراوي خبراته وآرائه حول التعلّم في هذا السياق، يرى أنّ المعلومة حين تدخل إلى الذهن دون أن تؤلم وتشغل وتشقّ وتُضحك وتبكي، لن يدري الذهن ماذا يفعل بها، فيرميها إلى الخزانة كمعلومة جامدة كما ترمى الفضلات في القمامة، ما يمهّد لانتشار روائح شبيهة بعفونة الفضلات. ويرى أنّ رجال العلم حين يودعون في الذاكرة ما تعلّموه عن ظهر قلب، ممّا لا يخدم الإنسانيّة، يتعصّبون لآرائهم، وتتحوّل معلوماتهم إلى معارف جامدة. ويرى سرّ نجاح بعضهم أنّه لا ينظر إلى الحقيقة على ضوء تعريف أعمى للعلم، ويرى أنّ عواطف الإنسان تنهض بدور محوريّ. يحاول الفصل بين العلم كقدرة ومعرفة. أحياناً تدخل الشخصيّات في حديث عن هموم وجوديّة، يقودها الفراغ والانعزال إلى النظر بمنظار مختلف، تبدو في سخطها حالمة بالتغيير في مختلف المجالات، كأن تعبّر إحدى الشخصيّات عن استيائها من وصول الأدب إلى نوع من الجمود، وأنّ الكثير من الكتّاب والشعراء أصبحوا ككَتبة دائرة المعارف، لا علاقة لهم بالفنّ والشعر، وأنّهم يكتبون أدباً يفتقر إلى الروح والحياة. يعود الراوي ليصف الحياة بأنّها مملوءة بالمفاجآت، وأنّها ستحمل الكثير من العجائب للشخصيّات، ولمحرّم بالذات باعتبار أنّه يمثّل الجيل الجديد الذي يكون نتاج الكراهيّة، ويكون على عاتقه تحطيم تلك الأسوار، والخروج إلى مسرح الحياة بمحبّة، من دون أن يظلّ أسير تلك الكراهيّة الحاجبة للطاقات والمدمّرة للبشر. يتمحور خطاب الرواية الفكريّ حول فكرة التسامي ووجوب تغلّب المرء على ذاته، وتجاوز نقاط ضعفه، وبخاصّة مشاعر العداء والكراهيّة على المقرّبين منه، لأنّه سيبقى مقيّداً بتلك الكراهيّة التي ستحجب عنه الآفاق وستبقيه رهين ماضٍ بائس، في حين أنّ تحرّره من تلك القيود سيفسح المجال واسعاً أمام مستقبل مختلف، لا يمنح الامتيازات إلا على أساس العلم، ويكون الإنسان المتفوّق ذاك المتسامي على صغائر الأمور، الباحث عن غدٍ أجمل بعيداً من أسوار الكراهية.