بعد ثلاثين سنة على معرض سلفادور دالي الاستعادي في مركز بومبيدو (باريس)، ينظّم القائمون على هذا الصرح الفنّي معرضاً ضخماً له يسلّط الضوء على طبيعة شخصيته الفذّة وعبقريته ويسعى إلى تفسير المبالغات التي اتّسم بها سلوكه. ولهذه الغاية، تم جمع أكثر من مئتي عملٍ فنّي له تتراوح بين لوحات ومنحوتات ورسوم وُزّعت بشكلٍ موضوعي وضمن مسارٍ يحترم تسلسلها الزمني. ولأن دالي هو أحد روّاد فنّ الأداء وفنانٌ اعتبر الفن كحدثٍ اتّصالي شامل، يبرّز معرضه الحالي بشكلٍ خاص الأعمال والنشاطات التي ابتكرها في هذا السياق وثوّرت وظيفة الفن وممارسته. وفعلاً، لم يكتف دالي بابتكار لوحات أو منحوتات مجدِّدة شكلاً ومضموناً بل شعر بضرورة كشف الأفكار التي تقف خلفها وتمنح تأويلاً جديداً للعالم. لكن هذا النشاط لم يأخذ قسطه من الاهتمام لدى النقّاد الذين ركّزوا جهدهم على عمله الفني التقليدي، الرائع بلا شك، ولكن على حساب تحرّكاته الإعلامية والميدانية التي اعتبروها مجرّد سلوكٍ ترويجي لنفسه. بعبارةٍ أخرى، رفض النقّاد من دالي ما قبلوه في ما بعد، وبإعجابٍ كبير، من أندي وارهول، أي تلك الموهبة الاتّصالية التي جلبت للاثنين شهرةً واسعة، علماً أن وارهول عاشر دالي في نيويورك بشكلٍ منتظم وتعلّم منه الكثير. ومن النقاط الأخرى التي رفضها النقّاد لدى دالي، استمراره في الرسم بأسلوبٍ تصويري دقيق بعدما نبذ الفن الحديث هذا الأسلوب. وقد ذهب بعضهم إلى حدّ اعتبار رسم دالي نقلاً مبتذلاً لأسلوب رسّامي عصر النهضة، مهملين براعته الخارقة في استخدام التصوير الدقيق لإسقاط صورٍ من عالمٍ خيالي أو لابتكار تلك الأشكال الملتبسة أو الصور المزدوجة التي تستدعي تأويلات عدة. ومع أن هذه الأخيرة ظهرت بدورها خلال عصر النهضة، إلا أنها أبداً لم تبلغ هذا الحد من التعقيد والفعالية الملاحظَين في لوحات دالي ومنحوتاته. وتفسّر مواقف هذا الفنان السياسية جزئياً نظرة النقّاد السلبية إليه والتجريح الذي تعرّض له من دون أن تبرّرهما، كموقفه الملتبس تجاه صعود النازية في الثلاثينات والذي دفع بأندريه بروتون ومجموعته إلى محاكمته غيابياً، أو التحاقه بفرانكو وزياراته المتكرّرة لهذا الطاغية ودعمه العلني لنظامه. ويردّ منظّمو معرضه الحالي افتتان دالي بوجوه السلطة (غييوم تيل، لينين، هتلر، فرانكو وملك أسبانيا ألفونس الثالث عشر) إلى دور والده في حياته الذي كان متسلّطاً وذا شخصية قوية، وفي الوقت ذاته، كان متفهّماً لطموحات ابنه. معاناة الطفولة أما رغبته الملحّة في الظهور ومفاجأة جمهوره وفتنه فيردّها منظّمو معرضه إلى معاناته في طفولته من خجلٍ مرضي كان يشلّ لسانه وجسده، من جهة، وإلى شغفه بالمجتمع الأرستقراطي وبتعبّد أفراد هذا المجتمع للجمال والأناقة والطقوس الاجتماعية، من جهةٍ أخرى. ورسم دالي الذي يعتمد على التصوير الدقيق هو وسيلة لإسقاط المتأمل في لوحاته داخل عالمٍ آخر وُصف غالباً بالحُلُمي. لكن الفنان رفض هذا الوصف وأشار مراراً إلى أن هدفه من خلق ذلك العالم الآخر هو إظهار الجانب الخدّاع للعالم المادّي الذي نعيش فيه. ومن هذا المنطلق يجب فهم مثابرته على تلك الأفعال «الحدثية» التي تجسّد وتُثبت وجود عالمٍ نفسي ما وراء الواقع المادّي؛ أفعالٌ تتّسم بطابعٍ استعراضي وتقوم على إخراجٍ مسرحي منظّم. وضمن هذا السياق يندرج نشاطه السينمائي والفوتوغرافي، علماً أن إنجازاته في الميدان السينمائي لم تكن دائماً موفّقة. فبعد بدايات مثيرة مع لويس بونيويل، لم يتمكّن دالي من التركيز على سيناريو محدّد. فذهنه الوقّاد كان يقوده إلى أفكارٍ كثيرة متناقضة لم يكن قادراً على الاختيار منها أو تشحيلها. ومع ذلك، استخدم التصوير السينمائي وتقنياته الخدّاعة ببراعةٍ نادرة، كلجوئه غالباً في أفلامه إلى قلب اللقطات المصوَّرة للعودة بالزمن إلى الوراء. الفنان الفوتوغرافي أما نشاطه الفوتوغرافي فرافقه منذ بداية مساره، كما تشهد لذلك سلسة الصور التي تحمل عنوان «شبح» ويظهر دالي فيها مختبئاً تحت كفنٍ أبيض، أو سلسلة صور «الملاك» التي صدرت في مجلة «مينوتور» ويتّخذ الفنان فيها وضعياتٍ مختلفة، جدّية بقدر ما هي مضحكة. ومن التقنيات الأدائية التي اعتمدها دالي قبل غيره من الفنانين ويسلّط معرضه الحالي الضوء عليها: الرسم الحركي المنفّذ أمام عدسة الكاميرا والذي رأى الفنان فيه ممارسةً وتأكيداً لمهاراته «الرسومية» واختصره في النهاية بتوقيعٍ خاطف لاسمه، وقد فتح السبيل فيه لظهور حركة التجريد الغنائي؛ الرسم الذرّي الذي يقوم على تفجير رشّاشات تلوين داخل مكعّبات معدنية، وقد تبعه في ذلك الفنانَين تانغولي ونيكي دو سان فال؛ الرسم بأجسادٍ نسائية بعد طليها بألوانٍ مختلفة وتطبيقها على سطح اللوحة، وقد استبق في ذلك الفنان إيف كلاين؛ هرس آلات خياطة بمحدلة بخارية للحصول على صفائح محفورة، وذلك قبل لجوء الفنان سيزار إلى هذه التقنية؛ هرس أصابع تلوين مفتوحة بين لوحَين من البلاستيك الشفّاف، وذلك قبل قيام الفنان أرمان بأعمال مشابهة؛ الرسم بتقنية اللايزر فور ابتكارها... باختصار، أعمالٌ أدائية رائدة تشكّل فكرة حضور دالي وتأديته الدور الرئيس فيها جزءاً أساسياً من سيرورة إبداعه منذ الثلاثينات، قبل أن يطوّر هذا العملاق في ما بعد مفهوم اللوحة الحيّة التي تسمّر الزمن وتعكس، أكثر من اللوحة التقليدية، ذلك الواقع الخرافي الذي سعى بكل الطُرُق إلى تجسيده. بالتالي، أخطأ النقّاد لدى اعتبارهم هذه الأعمال كنوعٍ من التحريض المجّاني أو محاولاتٍ للفت الأنظار إليه. فالحقيقة هي أن هذه الأعمال، وإن تميّزت ببُعدٍ تحريضي واستعراضي، فإنها تبقى مبنية على أفكارٍ مثيرة ومبتكَرة. وفيها، يظهر تأثُّر دالي بالمنهج الدادائي أكثر منه بالمنهج السرّيالي.