طغى الطابع السياسي على المنافسة الانتخابية بين مرشح حزب «القوات اللبنانية» فادي كرم وبين مرشح «الحزب السوري القومي الاجتماعي» وليد العازار لملء المقعد النيابي الشاغر في قضاء الكورة (شمال لبنان) بوفاة النائب القواتي فريد حبيب، على رغم انه لم يتبق من ولاية المجلس الحالي أكثر من عشرة أشهر، وبالتالي لن يكتب للمرشح الفائز الانخراط في اللعبة البرلمانية في ظل التأزم المسيطر على البرلمان بسبب الاختلاف على اقتراح القانون الرامي الى تثبيت المياومين في مؤسسة كهرباء لبنان. لكن المنافسة السياسية لم تترجم حماسة في صناديق الاقتراع التي شهدت إقبالاً متفاوتاً لم يكن في مستوى الإعداد لمعركة «كسر العظم» التي توقعها المراقبون لسير العملية الانتخابية التي لا يمكن النأي بها عن الأزمة التي يشهدها النظام في سورية في ظل توزع القوى السياسية المتنافسة على محورين: الأول يراهن على إحداث تغيير في سورية ويتزعمه فريق 14 آذار، والثاني يصر على ان الرئيس بشار الأسد سيتمكن في نهاية المطاف من الصمود في وجه العواصف السياسية التي تهب على نظامه من الداخل والخارج في آن معاً، ويقوده فريق 8 آذار. والجديد في المنافسة لملء المقعد الشاغر يكمن في أن قوى 14 آذار قررت خوض هذه المعركة بمرشح من أميون عاصمة القضاء، التي تشكل مركز النفوذ الرئيسي للحزب القومي باعتبارها مسقط رأس الراحل الدكتور عبدالله سعادة أحد أبرز قدامى القياديين في الحزب، بينما تجنبت قوى 14 آذار في دورتي الانتخابات النيابية عامي 2005 و2009، خوضَ معركتها بمرشح من أميون مع أنها حصدت فيهما المقاعد النيابية الثلاثة بفوز نائب رئيس المجلس فريد مكاري والنائبين نقولا غصن والراحل حبيب، والأخيران من بلدة كوسبا ثاني كبرى المدن الأرثوذكسية. ومع ان قوى 14 آذار اختارت بملء ارادتها ان تفرض حُرْماً على نفسها بعدم اختيار مرشح من أميون، فإنها ارتأت اليوم أن تكسر القاعدة وترشح الأميوني فادي كرم ضد ابن بلدته وليد العازار، وهذا ما لقي معارضة من الحزب القومي الذي يتعامل مع اميون على انها حصنه الحصين، وكان رشح في الدورتين السابقتين سليم عبدالله سعادة الذي لم يحالفه الحظ بسبب تبدل خريطة التحالفات التي أدت الى فرط التحالف بين الأخير ومكاري، لكنها حافظت على الود بينهما من موقع الخصومة السياسية. لذلك، فإن المعركة في الكورة «أميونية» بامتياز وتنظر اليها القوى المتنافسة لملء المقعد الشاغر على انها محطة سياسية من غير الجائز الاستهانة بنتائجها تحت عنوان انها تشكل الممر الإجباري لاختبار القوة لتبيان ما إذا كانت قوى 14 آذار ستنجح في السيطرة على المقاعد النيابية الثلاثة في انتخابات 2013 أم أنها ستتراجع لمصلحة خصومها في 8 آذار الذين يراهنون على قدرتهم على الثأر من نتائج الدورتين الانتخابيتين السابقتين، لتكون نتائج الانتخاب الفرعي محطة لإحداث انقلاب في ميزان القوى في الانتخابات المقبلة. وتنطلق القوتان المتنافستان في الانتخاب الفرعي من مراجعة حساباتهما على الأرض، فالحزب القومي يريد أن يؤكد من خلال تبنيه مرشحه العازار ان عدم خوضه المعركة بالمرشح سليم سعادة لن يبدل من واقع الحال، وأن الأخير سيجيِّر نفوذه الانتخابي في صناديق الاقتراع لمصلحة مرشحه، اضافة الى انه يراهن على إحداث تغيير في ميزان القوى في الساحتين المارونية والسنية يدفع في اتجاه كسب أصوات جديدة، خلافاًَ للدورتين السابقتين اللتين سُجل فيهما اقتراع بنسبة عالية للائحة المدعومة من 14 آذار وكان وراء توسيع الفارق بين الفائزين وخصومهم الراسبين في الانتخابات. وفي المقابل، فإن قوى 14 آذار تسعى من خلال مرشحها كرم الى كسب أصوات أرثوذكسية جديدة من شأنها ان تخفف من الاعتقاد السائد بأن قضاء الكورة الذي ينظر اليه على انه عاصمة الأرثوذكس في لبنان سيبقى في ولائه للحزب القومي، اضافة الى حرصها على الحفاظ على نفوذها بين الناخبين السنّة والموارنة بغية تمرير رسالة مفادها أن لا مجال للرهان على تبدل المزاج الماروني الذي يميل لدعم مرشح «القوت» أو في المزاج السنّي الذي يدين بالولاء لتيار «المستقبل»، ناهيك بأن «14 آذار» تود التأكيد من خلال الانتخاب الفرعي ان نائب رئيس المجلس فريد مكاري نجح في الحفاظ على قاعدته في الكورة، وان لا مكان للحديث عن تراجعه في القضاء الذي يتمثل بثلاثة نواب من الأرثوذكس، فيما لا تجد موقعاً لها بين المقترعين المنتمين الى الطائفة الشيعية الذين سيقترعون لمصلحة مرشح «القومي» على رغم ان عددهم لن يقفز فوق الألف مقترع... كما ان «14 آذار» تجد في عزوف سليم سعادة عن الترشح فرصة لإحداث ثغرة جديدة تمكن الإفادة منها، سواء من خلال وقوف مؤيديه على الحياد أم الاقتراع ولو بنسبة ضئيلة لمصلحة خصم العازار، على رغم أن الأخير أعلن ترشحه من منزل الدكتور عبدالله سعادة في أميون وأبدى ارتياحاً لعودة ابنه سليم من المهجر ليشارك في الحملة الانتخابية الداعمة له... وبكلام آخر، تعترف مصادر بارزة في 14 آذار، بأن «السعاديين»، نسبة الى سليم سعادة، كانوا يفضلون أن يقع الخيار على الأخير، ليس لأنه الأقوى في الساحة الكورانية فحسب، وانما لما يتمتع به من قدرة على اجتذاب أصوات المحايدين، باعتباره يحظى بتقدير فوق العادة لدى هؤلاء وهو الأوفر حظاً لكسبهم... وعليه، فإن الانتخاب الفرعي في الكورة يأتي في ظروف سياسية معقدة يمر فيها لبنان ويمكن ان تحمل النتيجة في طياتها عينة لما سيكون عليه ميزان القوى الانتخابي عام 2013، اضافة الى كونه اختباراً جدياً لمدى قدرة الناخبين الكبار على الحفاظ على جمهورهم المؤيد لهم بصرف النظر عن التقلبات السياسية، وأبرزها الناجمة عن الهجوم المنظم الذي يستهدف زعيم «المستقبل» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في عقر داره في البلدات المؤيدة له، والذي يترافق مع الضغوط لإنتاج «مكونات» سياسية جديدة في طائفته في محاولة لإضعافه. كما ان اختبار القوى في الانتخاب الفرعي يشمل أيضاً تيار «المردة» بزعامة النائب سليمان فرنجية و «تكتل التغيير والإصلاح» بقيادة العماد ميشال عون، للتأكد من قدرة الأول على تجيير مؤيديه لمصلحة العازار وقدرة الثاني على الحفاظ على جمهوره، في ضوء التباين الذي تحمله من حين الى آخر استطلاعات الرأي التي تتراوح في نتائجها بين قدرته على اقناع قاعدته بالمواقف السياسية التي يتخذها وبين إخفاقه في اقناعهم بالأسباب الموجبة التي دفعته لأن يتحول الى رأس حربة في الدفاع عن سلاح «حزب الله»، من ناحية، واستبعاده حصول أي تغيير في النظام السوري من ناحية ثانية. ويبقى السؤال ما إذا كان فرنجية وعون قررا النزول بكل قواهما دعماً لمرشح «القومي» أم انهما يوفران التأييد له من باب رفع العتب، مع ان تيار «المردة» كان انخرط في المعركة وشكل ماكينة انتخابية واحدة مع حليفه رئيس «القومي» أسعد حردان الذي يراهن على ان معارضيه في المؤتمر الأخير للحزب لن ينتقلوا الى الضفة السياسية الأخرى أو الوقوف على الحياد تعبيراً عن معارضتهم له واصرارهم على اصلاح ذات البين في الحزب الذي استبعد أي وجود لهم في المؤسسات الحزبية العليا. لذلك، فإن نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع لن تقلل من الطابع السياسي للمعركة ولا من القراءة الواقعية لنتائجها أو من حصول تبدل في المزاج الكوراني بصرف النظر عن من سيكون الرابح فيها.