ليس هذا بالمفهوم المتداول أو المألوف في ثقافتنا، ولعله ليس كذلك في أية ثقافة أخرى. لكنه مفيد في الإطار الاجتماعي الثقافي العربي والإسلامي المعاصر، لكونه يحيل إلى رزمة من الخبرات والتطلعات والهواجس التي ربما ينجح المفهوم في تسميتها وتوحيدها. نقصد بالحريات الاجتماعية تمكّن الناس، أفراداً أو مجموعات أو جماعات، من تحديد أنماط حياتهم، ما يتصل بالزي والقيافة والاختلاط العلني بين الجنسين والمأكل والمشرب والأنشطة الفنية والجمالية وتصريف أوقات الفراغ... في استقلال عن تدخل أية سلطة سياسية أو دينية. لا يسع السلطات هذه أن تفرض على السكان، النساء كما الرجال، زياً معيارياً، أو تتدخل في علاقاتهم غير المنتهكة لمصلحة عامة بينة، أو في نوعية ما يأكلون وما يشربون. فرض الحجاب يتعارض لدى البعض مع الحريات الاجتماعية، لكن كذلك نزعه القسري. مفهوم الحريات الاجتماعية يسمي الوجوب المضمر في الجملتين الأخيرتين. بالطبع هناك عنصر ثقافي واجتماعي في تحديد مستوى الحريات هذه، يجعل من الصعب وضع تعريف ناجز ونهائي لها. وهناك عنصر تاريخي أيضاً يحيل إلى تذبذب مستوى الحريات المعنية وارتفاع سقفها حيناً وانخفاضه حيناً آخر. هذا يزكّي مزيداً من الشغل على المفهوم باتجاه صقله وصوغه بصورة مضبوطة. واضح أن الجهات الأكثر تهديداً للحريات الاجتماعية في بلداننا، وفي العالم الإسلامي ككل، هي الجهات الدينية التي تحمل تصوراً للحياة والتنظيم الاجتماعي يركز على التفاعلات الصُّغرية (الميكروية) بين الناس أكثر مما على التفاعلات الكبرية (الماكروية). كيف ترتدي المرأة، وماذا يشرب الناس أو يأكلون، وكيف يتواصل الجنسان... هذه مسائل تشغل بال الجهات الدينية أكثر بكثير من الأوضاع الديموغرافية والبنى الاقتصادية والتماسك الوطني العام، ومستوى الجامعات العلمي إلخ. وترث الجهات هذه من أحكام عقائدية عدم التمييز بين المجالين الخاص والعام، فتجعل من سلوك الأفراد والأسر والأصدقاء والزملاء موضوعاً لتدخلها. الأمثلة التي نعرفها في غير بلد إسلامي تسوغ التخوف من فرض ضرب من الشمولية الدينية المفرطة التدخلية في الحياة الخاصة. والأكيد أن مستوى الحريات الاجتماعية تراجع في مصر في العقود الثلاثة الأخيرة، ولم يكد يتقدم على مستوى وطني عام في أي من بلداننا خلال الفترة نفسها. ويغذي هذا الشرط مخاوف من موجة تشدد، تفرض معاييرها للسلوك الاجتماعي الصحيح، من دون ما يضمن لها كفاءة وإنجازاً على أي مستوى آخر. لكن، يتواتر في العقود الأخيرة ذاتها، الأخير منها بخاصة، أن تتقاطع الخشية من تراجع الحريات الاجتماعية مع الرغبة في فرض تصور أيديولوجي خاص لهذه الحريات. هناك معركة أيديولوجية محتدمة حول الموضوع راهناً تثير السؤال عن حدود الحريات الاجتماعية في أي وقت. هل «العرف العام» يصلح مقياساً لمستوى الحريات هذه؟ وفي غياب عرف مهيمن، هل نكون إلا حيال أعراف متنازعة؟ وهل يحتمل أن يكون مفهوم الحريات الاجتماعية مجرد عرف بديل، يحمل انحيازات قيمية وسلوكية «حديثة»، يراد فرضها على مجتمع قد لا يكون متقبلاً لها؟ في ظروفنا الراهنة، المفهوم معرض للوقوع في محذور خطير: جعل الحريات الاجتماعية هوية تمييزية، اسماً أو شعاراً لأنماط محددة من الحياة أو لجماعات بعينها. هذا ضرب من التطييف يبدو شائعاً في أوساطنا، أو يشكل وجهاً من وجوه تطييف أوسع. هذا «حديث» مثل غيره، وصنعي مثل غيره، وما «أصالته» إلا نتاج صناعة اجتماعية وسياسية وثقافية حديثة بحق. الحريات الاجتماعية مفهوم نقدي، يفقد قيمته إن لم يكن مضاداً للجمود والشيئية والتطييف، قدر ما هو مضاد للإكراه الاجتماعي باسم العقيدة الدينية أو غيرها. الحريات الاجتماعية هي أولاً حريات، تحيل إلى تطلب الاقتدار والتمكن والسيطرة على شروط الحياة، بل صنع الحياة على يد الناس الأحياء، وليست «أنماط حياة» جامدة، يحمل كل منها ضمانات تفوقه في عين منتحليه. والحريات ليست هوية لأحد. من منظور الحريات الاجتماعية تعرض النظم السياسية في البلدان العربية الأكثر حداثة سمات ليبرالية ننكرها عليها بحق حين نفكر في مستوى الحريات السياسية. النظم هذه لا تكف عن انتهاك حريات سكانها السياسية، لكنها قلما تتدخل في حرياتهم الاجتماعية. لهم أن يرتدوا ما يشاؤون في نطاق عرف عام غير محدد، سقفه دون ما هو متاح في المجتمعات الغربية، لكن مصدر تدنيه الأول هو ضغوط السلطات الدينية. ولا تتدخل أكثر السلطات السياسية في اختلاط الجنسين بدءاً من المرحلة الجامعية، ولا في نوعية ما يأكله أناس وما يشربونه في منازلهم أو في أماكن عامة، وموقفها من الفن مشجع عموماً. ولم تكن كل هذه المناشط تعتبر شيئاً مهماً إلا حين برزت جماعات ومنظمات إسلامية يشتبه عموماً في أنها ستفرض نظاماً للحياة أشد صرامة وتدخلية، من دون أن تكون أكثر تحررية على المستوى السياسي على الأرجح. هذا الواقع منح شرعية غير منتظرة لحكومات طالما كان أداؤها السياسي والاقتصادي والعسكري بائساً أو أشد بؤساً. بهذا قدم إسلاميون خدمة لا تنسى لهذه الأنظمة بأن حققوا انقساماً اجتماعياً عميقاً في مجتمعاتنا المعاصرة، يتضاءل أمامه الانقسام السياسي أو يحوز صفة نسبية في أحسن الأحوال. هذا هو الوضع الذي نجدنا فيه اليوم: ليس هناك عارضون مؤكدون لمستوى أعلى من الحريات الاجتماعية والحريات السياسية معاً. السلطات الحاكمة التي تبقي محكوميها تحت خط الفقر السياسي تضمن لهم حريات اجتماعية معقولة. الإسلاميون يغطّسون المجتمعات التي يحكمونها دون خط الفقر الاجتماعي (يتدخلون في الزي والاختلاط والفن والطعام...) من دون إغنائها سياسياً. وهذا مصدر أساسي للاستعصاء السياسي الراهن في مجتمعاتنا. ليس فيها قوى «تقدمية». المجموعات الصغيرة من مثقفين وناشطين سياسيين معارضين في موقع هش لكونها تشارك الإسلاميين معارضة الحكومات سياسياً، لكن هذه الحكومات هي من يحوز صدقية أكبر في حماية نمط الحياة الذي يعيشونه. نرجح أن يستمر الاستعصاء راهناً بفعل توازن القوى بين الدين والدولة. وقد نلاحظ أن الحكومات تقيد حاجات سياسية حيوية (التجمع المستقل، التعبير الحر عن الرأي...)، فيما يقيد الإسلاميون رغبات حيوية (الجمال، الحب، التمتع...). هذا ينجب مجتمعاً مشلولاً في حركته ومخيلته. إن كان ما نقول صحيحاً، فمفهوم الحريات الاجتماعية أداة ناجعة لوصف جملة خبرات ولتفسير جانب كبير من أوضاعنا الحالية، كما لاقتراح مخارج محتملة. المفهوم يقوي شخصية الخبرة فيجعل تجاوزها متعذراً.