أوضح الفنان التشكيلي عبدالناصر غارم أن أعماله مستوحاة من حياته اليومية، مشيراً إلى أن ما يحاول القيام به من خلالها هو إيجاد خط مستقيم بين النتيجة والسبب. وقال غارم في حوار مع «الحياة» إنه يمكن البقاء بواسطة الفن، فكل القضايا التي تعرض إليها في أعماله الفنية، في رأيه، تعد محاولات لمساعدة الإنسان في البقاء. ولفت غارم، الذي تباع أعماله بمبالغ تعد غير مسبوقة، فواحد من أعماله بيع تقريباً ب800 ألف دولار وعنوانه «الرسالة»، وآخر عمل له بيع في دبي بمبلغ 126 ألف دولار، إلى أنه واجه منافسة مع فنانين إيرانيين، وصفهم بالنرجسية وأن لديهم استراتيجيات الاستقواء. للمرة الثانية تحقق رقماً قياسياً في بيع لوحاتك، ماذا يعنيه ذلك، هل يمكن الحديث عن نجاح، عن حظ، أم عن عمل ومثابرة من أجل تحقيق الذات؟ - أنت ذكرت في سؤالك مكونات الخلطة السحرية لتحقيق رقم قياسي في أي مجال من المجالات؛ حظ وعمل ومثابرة هي من يخلق النجاح، وما من شيء في نظري أغلى وأثمن من الوصول إلى الاستقلال الفكري، على أن ما يبدو لي من الاستقامة تقتضي من الفنان حين يعرض رؤيته للأشياء أن يقول بلا مواربة ما يؤمن به وما يود الوصول إليه. ويستلزم تبني سلم للقيم يؤسس على الخلاص أو البقاء بواسطة الثقافة، فإذا اعتبرنا الفن حقلاً بين حقول أخرى أو وسيلة لتزيين الحياة عند فئة من الناس نكون قد أخطأنا القرن وأخطأنا الألفية، فإن دور الفن اليوم هو تزويد الإنسان المعاصر بالأدوات والخطاب الفكري الذي يسمح له بالبقاء ويجب أن يكون هذا الخطاب خطاباً كونياً، يُفهم من أكبر شريحة من الناس موجودة على هذا الكوكب، لذلك كان عنوان كتابي الذي يشمل أعمالي الفنية منذ بداياتي حتى الوقت الراهن الفن للبقاءArt of Survival. وكنت أقصد أننا نستطيع البقاء بواسطة الفن، وكل القضايا التي تعرضت إليها في أعمالي الفنية كانت محاولات لمساعدة الإنسان في البقاء، ومن أمثلتها عمل الصراط الذي يحث الإنسان على اختيار طريقه. أو عمل خطة طريق لأي شيء يسهم في إنقاذ أي قضية إنسانية، وعمل فلورا وفونا الذي يتحدث عن علاقة البيئي بالحيوي ومن أمثلتها أضرار شجرة أسترالية اسمها Cornocarpus Erectus قامت البلدية بزراعتها في مدينتي بدافع تجميل المدينة وزيادة معدل الأكسجين. ولقد نجحت هذه الشجرة في مهمتها كونها خضراء طول السنة تقريباً، ولكن هذه الشجرة قامت بتدمير أشجار مدينتي الأصلية كون جذورها تمتد بشكل أفقي وتصل إلى الماء في أصقاع المكان لذلك تغلبت على الأشجار الأصلية. وقامت بتدمير النظام البيئي Ecosystem وأصبح الموضوع أشبه بالبرَكة واللعنة في آن واحد Mixed Blessing. وعندما كنت أقوم بهذا البحث وجدت مثل هذه التجارب موجودة في أميركا مثلاً، فلقد أخذوا شجرة الأثل من منطقة الشرق الأوسط لزراعتها على ضفاف الأنهار في إحدى الولايات الأميركية لتثبيت التربة، ونجحت هذه الشجرة في القيام بالمهمة كون جذورها تنمو بشكل رأسي ولكنها قتلت الأشجار الأصلية هناك مثل شجرة الصفصاف وغيرها من الأشجار. ما أود قوله أن أعمالي مستوحاة من حياتي اليومية، والأعمال الفنية ليست أعمالاً ذاتية لها علاقة بالفنان فقط، بل هي أعمال موضوعية لكل الناس وهم مشتركون في هذه القضية وهم جزء من العمل وجزء من القضية التي تساعدنا في البقاء والبحث عن السعادة الحقيقية لا الوهمية. ببساطة ما أحاول أن أقوم به من خلال أعمالي هو إيجاد خط مستقيم بين النتيجة والسبب. وهذه إجابة عن المقطع الأخير من سؤالك أي أن الوصول إلى هذه النتائج يحتاج إلى عمل ومثابرة واختراع لتحقيق الذات. العمل الفائز، لافت ومربك، ويعيد إلى الأذهان حادثة غيرت العالم إلى الأبد، لكنه، أي العمل، ينطلق من حادثة شخصية، من تفصيل في الذاكرة، حدثنا عن الزملاء الذين غامروا باتجاه المجهول؟ - كما ذكرت أن أفكار والأعمال التي أنتجها مستوحاة من حياتي اليومية ومن تجاربي الشخصية، والعمل الذي تم بيعه في المزاد كان يمثل قصة مسّتني أنا شخصياً ولكن من المؤكد أني لست الوحيد الذي تعرض لمثل هذه المشاعر، فلقد مررنا سوياً بعصف هذا الفكر الدموي ولكن الشيء الوحيد الذي لفت انتباهي هو أننا كنا في قاعة دراسية واحدة ونهلنا من منهج دراسي واجتماعي واحد، وكل منّا أخذ الصراط الخاص به فكنت أبحث عن السبب من خلال هذا العمل، وكان ما يقال إنهم اتخذوا هذا الطريق ليكون محطة تنقلهم إلى الجنة بعد هذا العمل الدموي، لذالك كان اسم العمل إن ترانزيت. تقول إنك دائماً ما تكون في تنافس مع فنانين إيرانيين، وأنك كسبت هذه المرة، كيف ترى التنافس مع الفنانين، سواء سعوديين أو عرباً أو أجانبَ، وكيف ترى لذة الانتصار على فنان إيراني، في هذا الظرف الذي تعيشه بلدان الخليج مع إيران؟ - غالباً النجاح يلبسك ثوب المنافسة حتى لو لم تتعمد ذلك، وما من عمل فني إلا و له مرجعيات سواء دينية أو اجتماعية أو سياسية وهذا ما يكسبه هوية معينة، علي أي حال لا أحد اليوم يكتفي بذاته أو يستغني عن غيره. حقيقة كان يوجد لدي المشهد الإيراني الفني من فنانين ومقتنين نرجسية فنية أحادية القطب واستراتيجيات الاستقواء إن صح التعبير والإلغاء ويسيرون ضد منطق العصر. أما ما حاولت أن أمارسه أو أن تحويه أعمالي فكنت أركز على أن أخلق ما به نتغير ونتطور، وأقدم صورة ذهنية عمّا يمثل حياتنا اليومية ومفاهيمنا الإنسانية، لكي نسهم في رسم خريطة المشهد الكوني الفني وأمارس وجودي على سبيل الاستحقاق ليس إلا. لماذا لا يحقق التشكيلي السعودي النجاح سوى في الخارج، لماذا لا نسمع عن أرقام بهذا الكبر، سوى خارج الحدود، ما السبب في رأيك؟ - ببساطة لأنه لا يوجد على سبيل المثال دار مزادات رسمية في المملكة العربية السعودية، حتى تستطيع أن تحصل على أرقام قياسية حقيقية، والسبب الآخر عدم وجود القليريهات المحترفة، فعلى سبيل المثال هناك قليري واحد أو اثنان في هذا البلد الكبير، بينما تجد في دول مجاورة القليريهات بالعشرات، إضافة إلى الجامعات والتخصصات الجدية والاحترافية التي تقدم مواد فنية أكاديمية ولا هم من ذلك عدم وجود المتاحف الفنية التي ترفع ذائقة المجتمع. وأنا هنا لا أريد أن أكون فناناً سلبياً بل أريد أن أحفز المسؤولين على ضرورة المبادرة بإقامة هذه المشاريع لأهميتها في تطوير ذائقة وإنسانية المجتمع بجميع شرائحه، خصوصاً أن الفنانين السعوديين من الجنسيين ومن جميع الأعمار وضعوا بصمة ممتازة جداً في وقت قصير وبإمكانات متواضعة. والأهم من ذلك هو استعداد القطاع الخاص لخوض هذا المجال، ولله الحمد مبادرات عبداللطيف جميل الاجتماعية أخذت على عاتقها الاهتمام بهذا المجال من جميع النواحي، فهي تدعم حافة العربية والتي تمثل الفن السعودي المعاصر، وتذلل الصعاب في سبيل الوجود في المنصات والمناسبات الدولية، ولقد استطاعت أن توجد بصمه لها وللفن السعودي بشكل عام في فترة وجيزة. كنت من الذين أسس هذه المجموعة، ولقد استقطبت حافة العربية أشخاصاً مهمين في عالم الفن وكان على رأسهم الفنان عبدالله التركي وهو من الناس المؤثرين في المشهد الفني العالمي، وهو من يتولى دفة المجموعة حالياً واستطاع أن يجعل المجموعة تتحرك وتفكر بعقل جمعي وشكلَ ملامح المجموعة وأوصلها بعمله وفكره، وعمل كل المنتمين لهذه المنظمة، إلى مصاف الحركات الفنية المعاصرة. لأنهم، سواء مبادرات جميل الاجتماعية أو حافة العربية، كانوا أحد الأسباب التي أسهمت في تحقيق هذا الإنجاز الذي حققته فوجب عليَّ شكرهم من هذا المنبر. ومثل هذه المجموعات هي تساعد في الوقف بوجه الاقتلاع الثقافي الذي تمارسه العولمة في وقتنا الراهن. في رأيك، هل أصبح الفن المفاهيمي في متناول الجميع؟ - الفن المعاصر - كما ذكرت سلفاً - يهتم بالقضايا الموضوعية التي تهم الإنسان من جميع النواحي سواء البيئية أو الاجتماعية... إلخ ويهتم الفن المفاهيم بمناقشة القضايا التي تجدها في العقل الباطن الجماعي للمجتمع، لذلك تجد أن جميع الشرائح تتعاطى مع مثل هذه الأعمال كونها من حياتهم اليومية، ويكون دور الفنان هو فقط خلق أرضية مشتركة من خلال طرحه بعض التساؤلات، من خلال عمله التشكيلي أو إطلاق الشرارة ليقوم مجتمعه بعصف ذهني لموضوع يتعلق بهم، وإن لم يكن الحل موجوداً فليس هذا دليلاً على عدم وجود المشكلة، ويكون موقف الفنان هو تماماً مع أو بين المتلقين فلا يستطيع تغيير شيء من دون أن يتخذ المجتمع القرار أو المبادرة. والفن المفاهيمي يستخدم الوسائط والميديا الحديثة، فهو يستخدم الصورة والفيديو ويتغلغل في جميع وسائط الاتصال الاجتماعية والمرئية والمسموعة. بمعنى أن العمل الفني المعاصر يستطيع الوصول إلى كل جهاز اتصال وكل كومبيوتر شخصي، وبما أنه وصل إلى سطح مكتب المتلقي يعني أنك وصلت إلى منطقة حميمية لدى المتلقي وهذا يعني أنك وصلت إلى مكان من خلاله تستطيع التأثير في عقله، كون الصورة منجزاً ثقافياً مكتملاً لا تحتاج إلى لغة أو مترجم وهي المفتاح السحري الوحيد لدخول أي عالم ثقافي.