منذ عرض فيلمه الروائي الطويل الأول «العودة» في مهرجان البندقية السينمائي الدولي في العام 2003 ونيله جائزة الأسد الذهبي أمام دهشة حياة سينمائية لم تكن سمعت باسمه من قبل، بات اندري زفياغنتسيف، واحداً من الوجوه الأساسية في السينما الروسية الحديثة. وكانت العلامة الأساسية في ذلك مقارنته على الفور بسلفه الروسي الكبير تاركوفسكي. بعد ذلك كان وفق هذا الخمسيني المفعم شباباً وحباً للسينما ان يحقق ثلاثة أفلام روائية طويلة أخرى، ليصبح بهذه الفيلموغرافيا، واحداً من النجوم الكبار في عالم الإخراج السينمائي، ومخرجاً تتهافت المهرجانات على حجز جديده منذ وقت مبكر. علماً أن جديده «لفياتان» الذي لم يعرض تجارياً في صالات العالم حتى الآن مع ان نسخه بيعت الى عدد كبير من البلدان والمناطق، حجز له مكانة مدهشة ولا سيما إذ قورن من قبل معظم النقاد والمتفرجين في «كان» بتحفتين كبيرتين أخريين كان الفوز الكانيّ من نصيبهما الى جانبه: فيلم «سبات شتوي» للتركي نوري بلجي جيلان (السعفة الذهبية) و»مستر ترنر» للإنكليزي مايك لي (جائزة أفضل ممثل لتيموثي سبال).. ويمكن القول إن الأفلام الثلاثة كان في امكانها ان تتبادل الجوائز بكل بساطة. لكن هذه حكاية أحرى. ولد زفياغنتسيف العام 1964 في نوفوسيبيرسك النائية وبدأ مساره المهني بدراسة التمثيل في معهد مسرحي في مدينته قبل ان يتوجه الى موسكو ليتابع دراسته في معهد جيتيس الشهير. لكنه بعد ان انخرط في مشروعين مسرحيين اقتبس كل منهما من عمل أدبي - الأول من الأرجنتيني خوليو كورتاثار، والثاني من إيفان تورجينيف - قرر ان ينصرف الى الإخراج وقد امضى بضع سنوات مختصرة يؤدي ادواراً مسرحية ثانوية وقد فقد اهتمامه بالتمثيل المسرحي تماماً. أما فرصته الإخراجية الأولى فكانت تلك التي اتاحتها له التلفزة حيث حقق تباعاً في العام 2000 ثلاثة أفلام للشاشة الصغيرة مقتبسة من قصص قصيرة ضمن سلسلة مشهورة بعنوان «الغرفة السوداء». ولسوف يقول لاحقاً إن تلك الأفلام كانت مدرسته الحقيقية و... الوحيدة! وبعد تلك «المدرسة» بات من الواضح بالنسبة إليه أن الوقت قد حان للانطلاق في مشروع السينما الروائية الطويلة. وهكذا حقق «العودة» الذي بعرضه وفوزه في «البندقية» كما في لوكارنو وتورنتو ومونتريال، اعتبر حدثاً سينمائياً عالمياً كبيراً. والأدهى من هذا أن «العودة» لم يكن اول فيلم طويل لزفياغنتسيف وحده بل كذلك لمعظم العاملين فيه الذين لم يكونوا يتوقعون لحكاية صورت في مناطق طبيعية رائعة -ومحورها ولدان عاد ابوهما بعد سنوات من الغياب فأربك حياتهما وحياة امهما من دون أن يكونا اصلاً واثقين من أنه أبوهما حقاً-، ان تنال كل ذلك الصدى. وبعد ثلاثة أعوام من «العودة» حقق المخرج وقد بات الآن أكثر ثقة بنفسه فيلماً طويلاً ثانياً هو «العقاب» الذي دار كذلك في مناطق طبيعية مدهشة وتحدث عن عائلة يربك حياتها، كما في «العودة»، انتقال من حياة الى أخرى، وكأن هذه التيمة لا تنفك تلح عليه هو الذي كان من الواضح ان العائلة تشكل المحور الأساس لسينماه، ولا سيما من خلال العلاقة بين الأبناء والآباء. وتلك هي على اية حال موضوعة «ايلينا» روائيّه الطويل الثالث الذي حققه وعرضه في العام 2012 وللمرة الأولى قي مهرجان «كان» حيث نال جائزة تظاهرة «نظرة ما» ويدور موضوعه هو الآخر في بيئة عائلية وانتقالية من حول المتقدمين في السن ايلينا وفلاديمير اللذين يلتقيان على رغم فروق في الثروة والمكانة والمزاج بينهما، ويتزوجان «مجبرين» على اللقاء معهما ابن ايلينا من زواج سابق وابنة فلاديمير من زواج سابق ايضاً مع كل ما يجره هذا من تعقيدات عائلية وإشكاليات. والعائلة هي مرة أخرى الموضوع الأساس في «لفياتان» كما نرى في مكان آخر من هذه الصفحة. ولكن منظوراً اليها هذه المرة من زاوية اكثر اتساعاً وأكثر تسييساً، ما يبرر الكتابات النقدية التي أبدت دهشة بعمل آتٍ من روسيا يحاول أن يقول انطلاقاً من ذلك المكان البعيد الذي تدور فيه الأحداث، ما لم يكن أحد تصوّر أن في الإمكان قوله اليوم بعد عقدين ونيّف من التغيّرات المذهلة التي طاولت هذا البلد.