عادة ما يردني تعليق من نوع: وما الحل؟ فأتأمله وأحار كيف الإيضاح، فعند سرد المشكلة، فالحل أحياناً يكمن في تفاصيلها، فمثلاً لو أشرنا إلى قضية الإخلال بالمسؤولية، فمن المفهوم أن الحل في الالتزام، ثم العقاب على الإهمال، صحيح قد تسمح المساحة حيناً بالإسهاب في عرض المشكلة بخريطة الحل، ولكن الشرح والتوسع حيناً آخر قد يقتاتان على عدد كلمات المقالة، فيُفسح الكاتب لعرض الإشكالية، ثم يوجز ويختم معولاً على تقدير القارىء والتقاطه للحل، طالما أن المذكور والمكتوب والمأسوف عليه كان في «عدم الحل»، ومع ذلك يأتيك التعليق إياه: حسناً وما الحل؟ وكأننا مصممون على نحو يدعو للدهشة على ذات المواقف الذهنية والنهايات المتوارثة للمقالة، والظاهر أنها قصة لها جذور تعود إلى منتصف القرن الماضي وألبير كامو تحديداً، أو أديب جائزة نوبل لعام 1957 حين قال: «ليس دوري أن أغيّر العالم أو البشرية، إذ ليس لدي من الفضيلة والحكمة ما يكفي ذلك، ولكن لعل دوري هو أن أخدم، حيثما أكون، تلك القيم القليلة التي من دونها يكون العالم مكاناً لا يستحق العيش فيه مهما تغيّر، والتي من دونها يكون الإنسان، مهما تجدّد، غير جدير بالاحترام». لنقرأ المقالة ونكون على موعد مع التحفيز على التفكير، ولفت النظر إلى زاوية غابت عنّا في الزحام والفوضى، ألا يكفينا هذا..!! أم نعده قليلاً على مقالة..!! عذراً، ولكن كيف لآلام الإنسانية وإحباطات البشر أن تحيطها مساحة؟ إن معاناة الإنسان وحدها لموضوع من التعقيد والصعوبة والهيبة بحيث لا يعرف أحد مهما أوتي من الإدراك ومَلَكة التحليل كيف يعالجه، ولكننا نحاول، وإن كانت محدودياتنا البشرية تفضح قصور محاولاتنا، فلربما نسيء إلى القضية أكثر مما نحسن إليها، وخاصة إذا بالغنا في الحماسة وإن خلصت النية، إذ سرعان ما تفسر الأمور على غير مبتغى كاتبها، إنما هكذا هي طبيعة الكتابة في الصحافة، ففيها يتهيأ المجال لاتهام المرء بالتعنّت في آرائه، وبالغلو في ثقته، أو التسرع بحكمه، أو الفيقهة بلغته. قرأت يوماً أن أحدهم وكان فناناً حاصره الناس، ولاحقته الشهرة، فدفعته الحاجة إلى بناء مخبأ سري في بيته، وجد فيه لاحقاً وقد سقط ميتاً من شدة الإعياء والمتابعة وفي يده ورقة نقش عليها حرفان: (و-ح)، فتساءل المريدون: أكان يقصد وحدة؟ أم وحشة؟ وسواء أكانت هذه أم تلك فهما مفردتا حزن، فالكاتب من حيث كونه إنساناً تستمد كتاباته نورها من حياته بما فيها، من ألمه قبل فرحه، وهو في كل حرف خطه إنما نما بداخله أولاً، وكان على مراحل قد تلخصها مقالاته، فإن بدا على السطح أنه الكائن الذي تمتع برتابة مطمئنة لم تُعكر، غير أن هذا هو الشكل، أمّا سأم النفس وتعبها فلم يظهر، ولكن تكشفه الكلمات المكتوبة أكثر من تلك المنطوقة المغلفة بالمجاملات، فإذاً حين يتحدى الكاتب أمواج الحياة المتلاطمة، وظروفها المتطاحنة، ويحاول تمالك عقله والخروج بموضوع يناقشه، فينتظر من القارئ التفاعل مع طرحه بالتفكير معه، ولكن عوضاً عن هذا كله يستسهل القارئ فيرسل بتعليقه اليتيم يسأل فيه عن الحل. الكتابة فعل ذو نقيضين، بموجبه يقبل المرء الدنيا من ناحية، ويرفضها من ناحية أخرى، وترجمة ونقل سلبيات الحياة بكائناتها على الورق تتفاوت من كاتب إلى آخر وفقاً لتجارب الإنسان وتحصيله العلمي - الثقافي والفطري أيضاً، فما يقبل به امرئ ويرفضه من عالمه هو أمر فردي بحت «ولا أقصد المساس بثوابتنا فهي خارج المعادلة»، فليس من المنطق إذاً أن يحاسب الإنسان لامتناعه أن يهادن عُرفاً وطقساً لا يرى نفسه فيهما، وعليه إذا غفل الكاتب إيراد الحل في ذيل المقالة كما المعتاد، فهناك احتمال ولو ضئيل أن الاعتباط السطحي الذي نغطي به سنن الحياة استعصى على اقتناع الكاتب، ولأنه لا يريد في كل مرة أن يهز رضا القارئ عن ذاته وأدائه، فيكتفي بعرضه المسألة فقط، تاركاً الحل لنوعيه: التقليدي منه والمفروض أن يُفهم ضمناً، أو غير التقليدي ولن يجد له مرسى فلا يُفصح عنه إلاّ بتأنٍ واستثناء. [email protected]