ينهي الياس خوري القسم الأول من روايته بطلب المحقق من بطله يالو ان يكتب قصة حياته من أولها الى آخرها. والأرجح ان هذا الطلب، وامتثال يالو له، هو عصب هذه الرواية ونواتها الأساسية. ليس لأن كل شيء فيها يدور حول هذه النواة ويتشكل منها فحسب، بل لأن هذه هي رغبة المؤلف وطموحه الخفي في كتابة رواية قائمة على فكرة الحكي والتأليف، وعلى تحويل معظم الشخصيات الى حكواتيين، او الى أبطال حكايات: الكوهنو افرام جد يالو يروي القصص والحكايات عن ولادته في تركيا، وتعرض أهله لمذبحة قام بها الأتراك، وعن ترعرعه هو السرياني لدى عائلة كردية وهجرته من القامشلي الى بيروت. الجد الذي كان يعتبر نفسه كاتباً، يحاول ان يعلم يالو السريانية، ويستعير من بورخيس فكرة "أن جميع كتّاب العالم مجرد نسَّاخ، وأنه لا يوجد على وجه الأرض سوى كتاب خفي واحد لم يكتب من وحي بشري، وأن الناس حين كتبوا الأدب او الأشعار تجلت لهم مقاطع منه، فنسخوها وأعادوا تركيبها من جديد". وكذلك يفعل الياس الشامي الخياط الذي يقيم علاقة حب مع غابي والدة يالو التي كانت تعمل في مشغله يشك يالو بكونه ابناً للخياط وليس لأبيه الهارب. والخياط يقول مدائح فاخرة تسحر غابي، وتجعلها أسيرة تأثيره وعواطفه. وهناك قصص وأحداث لها علاقة بالحرب الأهلية، التي شارك يالو فيها منتمياً الى احدى الميليشيات ثم سفره الى فرنسا، ولكن الحرب لا تحتل مساحة واسعة في الرواية، انها ظل من ظلال الرواية، وعامل من العوامل التي ساهمت في تكوين يالو واكمال سيرته. رواية الشخصية الواحدة الحكايات كلها تلتقي عند يالو وتنبع منه وتعود اليه. انها رواية شخصيات ولكنها في الوقت نفسه رواية الشخصية الواحدة، وهذا واضح من اطلاق اسم البطل على الرواية برمتها. الرواية تروي سيرة يالو التي تختلط بسير او نتف من سير الشخصيات الأخرى: ولكل شخصية حكاية او مساهمة ما في صوغ وكتابة سيرة يالو وأخذها الى نهايتها. انهم أصحاب سير أيضاً ولكنها قلّما تضاء خارج التفاصيل التي تتقاطع مع سيرة يالو. كأن هؤلاء لا يمثلون سوى البيئات والأماكن والمناخات التي عاشها يالو، حتى ان معظم هؤلاء لا يراهم المؤلف الا من خلال عينيه، وهذا يعني ان يتحول يالو راوياً خفياً لحيوات الآخرين، لماذا؟ لأنه طوال الرواية يخضع لتحقيق، وجزء كبير من الرواية مكتوب بأسلوب الفلاش باك. انه معتقل بتهم عدّة، اغتصاب متكرر وحيازة متفجرة وسلاح. تبدأ الرواية بخضوع يالو للتحقيق، وتنتهي بسجنه عشر سنوات. معظم الأحداث تكون قد مرت والتحقيق ما هو الا ذريعة الياس خوري ليس فقط لكي يحكي عن تلك الأحداث، بل لكي يكتب روايته. فالرواية نفسها هي تحقيق وبحث وكتابة، تتجاور وتتوازى مع التحقيق البوليسي. الرواية هي ظل هذا التحقيق، والتحقيق هو حجة الرواية. كأن الياس خوري يصنع لروايته طبقات عدة او مستويات عدة: التحقيق الأمني على السطح والكتابة تحته وتحول يالو نفسه الى راوٍ وكاتب تحت ذلك كله وذلك حين يطلب منه المحقق ان يكتب قصة حياته كاعتراف تفصيلي بما ارتكبه يالو من أعمال خارجة على القانون. من الصعب على القارئ ان يستعيد كل التفاصيل التي يرويها الياس خوري، ذلك لأن تلخيص الرواية نفسها صعب. فهي مكتوبة بإيقاع سريع قائم على التنامي، والتشعّب في أكثر من اتجاه. ايقاع يستمر بدفقٍ ذاتي ويفرض تواتره وضرباته على القارئ، ليس بسبب النكهة البوليسية، او لكون الرواية تحقيقاً أمنياً طويلاً بل لأن الأسلوب يقوم على استيلاد حكاية من حكاية أخرى وخياطة تفصيل بتفصيل آخر. المؤلف يمنح فرصة كاملة لبطله كي يروي. حكاية تلو حكاية، الحكي هو الذي يصنع الرواية ويصنع السرد كله. لا يوجد سوى قليل خارج الحكايات. الحكايات التي تتوالد ولا تنتهي تحيل القارئ الى سرد شرقي ومحلي يستظل بألف ليلة وليلة من بعيد. سرد قليل العمق ذو طابع شفوي ويومي ولكنه، مع ذلك، سيَّال ومتدفق ويوحِّد ايقاع القراءة والكتابة معاً. الفارق هنا ان يالو شهريار وحيد يقص حياته حكاياته على نفسه. قصص يبدو فيها قاتلاً، وقد يبدو عاشقاً وملاكاً ومتفلسفاً وكاتباً في المقام الأول. ظلال الحالة اللبنانية كل شيء في السرد هو في خدمة يالو. والقارئ بعد ان ينتهي من قراءة الرواية سيلاحظ ان الآخرين ما هم الا مرايا له. بل ان معظمهم يبدو مثل الشخصيات "التقنية" التي ليس لحضورها وظيفة تخدمها في السرد، كشخصية المحقق الذي يظل بلا اسم، وميشال سلوم وشيرين رعد... مقابل شخصيات مكتوبة بإحساس روائي مرهف ومضاعف، كالأم غابي والخياط والجد وألكسي... نلاحظ إذاً تنوع الشخصيات، وكثرتها أيضاً، وأماكن تواجدها داخل السرد وداخل الحياة، التي تؤرخها الكتابة او تخترعها، معيدةً الاعتبار لما خفي وظل مهمشاً منها، فإن السرد الذي قاده الياس خوري ببراعة وحرفية يتوزع على مفاتيح متشابهة، وكل واحد منها يفضي الى الآخر ويكمله. هذه المفاتيح هي: الحكي - القول - الكتابة، الى درجة يتساءل فيها القارئ عن مقاطع كاملة من الرواية، قائمة على ترجمة هذا الثالوث، وباستطاعته ايضاً ان يتساءل عما اذا كانت الفكرة الأساسية للرواية هي في جعل يالو ينتهي الى ان يصبح كاتباً مثل المؤلف نفسه الذي يخترع ظلاً لبطله كي يروي ما حدث نيابة عنه، فيما هو يكتب قصة حياته بناء على طلب المحقق. الياس خوري يعود في هذه الرواية، بعد ملحمته "باب الشمس" الى ظلال الحالة اللبنانية، والى مناخات السرد السيري الممزوج بالتحقيق، التي سبق أن بنى عليها "الوجوه البيضاء" و"مجمع الأسرار". ولكنه هذه المرة يبتعد عن الحدث ليغوص في الكتابة نفسها. السرد في يالو يذهب بالرواية الى هناك، الى تعلّم الكتابة وارتجالها