وزير الداخلية يدشن عدداً من المشروعات في منطقة جازان    عبدالعزيز بن سعود يلتقي متقاعدي القطاعات التابعة لوزارة الداخلية بمنطقة جازان    عبدالعزيز بن سعود يلتقي مدير عام مكافحة المخدرات في منطقة جازان    أمير حائل يدشّن عدداً من المشاريع التنموية لأمانة المنطقة    إعلانات المشاهير ومصالح المستهلكين !    محاولات فك الشراكة السعودية - الأمريكية !    لا تستفزوا الهلال !    أهمية الطيران في الاقتصاد السعودي    أمير القصيم يرعى حفل جائزة إبراهيم العبودي للتفوق العلمي بتعليم المذنب    أكاديمية مطوري Apple بالشراكة مع أكاديمية طويق تحتفي بتخريج 192 طالبة    ريادتنا التقنية    20 مليار دولار طلبات الاكتتاب.. إتمام تغطية الصك الدولي بقيمة 5 مليارات دولار    ملتقى عربي يناقش مكافحة الجرائم المالية    أمير الشرقية يتفقد خدمات المستفيدين بالإمارة    موقف ثابت    تكثيف الحشد الدولي للاعتراف بدولة فلسطين    تعزيز التعاون القانوني مع كوريا    « كلية القيادة والأركان».. 67 عاماً من التميز في التعليم العسكري العالي    بداية من الموسم الرياضي الجديد 2024-2025 .."حراس المرمى" في دوري "يلو" سعوديون    «الانضباط» ترفض رسمياً شكوى الاتحاد على لاعبي الهلال سعود ومالكوم    المدافع الإيطالي المخضرم ليوناردو بونوتشي يعلن اعتزاله    رونالدو يتسلم جائزة هداف دوري روشن    رونالدو يتسلم جائزة هداف دوري روشن    آل الشيخ يعلن عن نزال جديد بين أوزيك وفيوري    وزير الحرس الوطني يرأس اجتماع أمراء الأفواج    ربط رقمي بين الصندوق الصناعي و«تنفيذ»    إطلاق جائزة الفريق التطوعي بالقصيم    "الشؤون الإسلامية" تطلق 247 فرصة تطوعية لخدمة حجاج بيت الله    تمكين الكوادر السعودية في القطاعات الواعدة    تكريم الفائزين بجائزة الباحة للإبداع والتميز    الأمير سلمان بن سلطان يرعى حفل تكريم الكفاءات المتميزة بتعليم المدينة    ضمن رؤية المملكة 2030 .. الهلال الأحمر يستعد لخدمة ضيوف الرحمن    مايو زعيم التوعية الصحية عالميا    6 أنشطة ابتكارية عالمية لسعوديين    مالكوم يعود للتدريبات.. وجيسوس وبونو الأفضل    وزير الداخلية يلتقي القيادات الأمنية في منطقة جازان    ضبط مواطن بتبوك لترويجه مادتي الحشيش والامفيتامين المخدرتين    جامعة الفيصل.. نموذج في التعليم الجامعي    أمير حائل يرعى حفل خريجي التدريب التقني والمهني    «بينالي الدرعية» للفن المعاصر.. تختم النسخة الثانية    الشورى يقر إنشاء مطارات منخفضة التكلفة حول مدينة الرياض    «الأمر بالمعروف» تسخِّر الذكاء الاصطناعي لخدمة الحجاج    اللجنة الوزارية تثمن اعتراف إسبانيا بدولة فلسطين    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة ينهي معاناة سبعيني من تضيُّق الصمام الأورطي بدون جراحة    استئصال ناجح لورم بالكلية اليسرى في مستشفى المواساة بالرياض    نجاح زراعة أول سماعة عظمية إلكترونية لطفلة    60 مبادرة رئيسية ومصاحبة بالمسجد النبوي    أمير تبوك يستقبل مدير السجون بالمنطقة    الإسعاف الجوي في خدمة ضيوف الرحمن في ⁧منفذ جديدة عرعر‬⁩    وفد اللجنة الوزارية العربية الإسلامية يعقد جلسة مباحثات مع وزير الخارجية الإسباني    البديوي يشارك في الدورة ال 16 لمهرجان الخليج للإذاعة والتلفزيون    رابطة العالم الإسلامي تُدين مجازر الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني    الصحة الفلسطينية تعلن انهيار المنظومة الصحية في غزة    أمير المدينة يكرم الطلاب الحاصلين على جوائز محلية وعالمية    طائرات "درون" في ضبط مخالفات المباني    «الشورى» يطالب «حقوق الإنسان» بالإسراع في تنفيذ خطتها الإستراتيجية    أمير المدينة يستقبل السديس ويتفقد الميقات    شاشات عرض تعزز التوعية الصحية للحجاج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يتيم بغداد مريض بالأمكنة التي ألفها ويخاف الفراغ، والكتابة لديه دواء للروح . فؤاد التكرلي : نأيت عن السياسة يأساً واحتفاظاً بكرامتي
نشر في الحياة يوم 31 - 07 - 2000

ترك فؤاد التكرلي الحقائق المطلقة لأصحابها، وتشبث "بهذا المخلوق المعذَّب الذي يعيش على الأرض سعادته القصيرة". والروائي العراقي الذي يعتبر بين أبرز أبناء جيله، يذكّر أن ذلك الجيل تميّز ب "الإخلاص والاعتراف بجهود الآخر والاهتمام بالمجتمع والشعب والثقافة الرفيعة"... ويتوقّف صاحب "الرجع البعيد" بمرارة عند الاهمال الذي لحق بإنجازات القصّة العراقية التي "لم يُنظر إليها بعين الجد لدى انطلاقتها، وما زالت الأمور على حالها بعد مضي نصف قرن على بزوغها". والأديب المنشغل برصد متاهات النفس البشريّة، يعتبر أن "رؤيا الكاتب لا تتشكل عبر وعيه فقط، بل هناك دور أساسي تلعبه عواطفه في هذا السياق، وتأثره اللاواعي ببعض الأفكار، أو تجاربه، وما يحمل في نفسه من تفسير لها". وهو يحكي هنا، عشيّة صدور طبعة جديدة من مؤلفاته في دمشق، عن الأماكن المفقودة التي يستعيض عنها بالكتابة، عن الطفولة الضائعة، عن بغداد التي يتفرّج عليها من بعيد، كأب تفترس الوحوش ابنه أمام عينيه، وعن السياسة التي نأى عنها يأساً وحفاظاً على كرامته. ويشكك التكرلي في ريادة الشعر العراقي الحديث، لكنّه يلاحظ في المقابل أن "الأديب العراقي عبدالملك نوري كتب في الخمسينات بتقنية القرن العشرين، فيما كان الأديب المصري يوسف إدريس يكتب، ككل العرب آنذاك، بتقنية القرن التاسع عشر، تقنية موباسان على الأخص".
لا شاغل يستأثر بجهد فؤاد التكرلي، وبمخيّلته وابداعه، كشاغل البحث عن حقيقة النفس الإنسانية بوصفها مستودع أسرار عجيبة، وحقل متاهات محيّرة، ومصدر نوازع مبهمة تجلب شقاءً دائماً وسعادةً زائلة. لذا مكث، طيلة خمسة عقود، يتقصّى العوالم الداخلية غير المنظورة للإنسان، ويستلهم الغاز وجوده التي تعجز عن تفسيرها العوامل الموضوعية والعلل الخارجية. في قصصه القصيرة الأولى التي صار ينشرها منذ الخمسينات، ثم في رواياته الأربعة اللاحقة، التي افتتحها ب "الرجع البعيد" 1980، وتوّجها ب "المسرات والأوجاع" 1999، لم تفارق هذه الرؤية الكاتب العراقي الميال، بطبعه أو بثقافته، إلى تأمل وسبر الصراع المتأجج للمفاهيم والقيم داخل النفس الإنسانية. أما التاريخ، كأخبار وأحداث، فلا يخفي التكرلي خيبته منه، لأنه يفضح أفعال الإنسان والشر المتأصل في طبيعته. حين وصف الناقد علي جواد الطاهر شخوص التكرلي بأنهم "لا يحبون أحداً، ويسعون إلى الضياع في أعماق أنفسهم، والعالم لديهم سخيف فارغ"، فإنه لم يجانب الصواب. بالأحرى، أن صاحب "الوجه الآخر" و"موعد النار" لم يأتِ لاحقاً بدلائل نصيّة تبطل، جزئياً أو كلياُ، ذلك الحكم المبكر لشيخ نقاد الأدب العراقيين، وإنما بقي يحصّن رؤيته الأصلية ويتحصّن بها.
في هذه المقابلة التي أجريت معه في لاهاي، ينوّه التكرلي بالقيمة الفنية للأقصوصة العراقية في الخمسينات مقارنة بنظيراتها في الأدب العربي آنذاك، ويقلل من أهمية منجز الشعر العراقي الذي نُسبت إلى بعض رموزه، كنازك الملائكة والسياب، ريادة ظاهرة الشعر الحر. ويعزو ابتعاده، ككاتب، عن السياسة إلى كونها مصدر تهويش وإدعاء يشغل الجميع من دون فائدة، كما يصف ما يحدث في العراق بأنه أشبه بكابوس لا واقعي، يخذل طاقة الفهم، ويشل قدرة اللغة على التعبير. فؤاد التكرلي الذي جمعته أيام الدراسة في بغداد بالشاعر عبد الوهاب البياتي، وبالروائي غائب طعمة فرمان، يقيم حالياً في العاصمة التونسية، ويعد العدة لإصدار كتاب خواطر وذكريات، ضمن طبعة جديدة لأعماله الكاملة عن "دار المدى" في دمشق.
كيف بدأت الكتابة؟ لماذا اخترت القصة القصيرة تحديداً؟ وما هي المؤثرات الأولى التي شكلت رؤيتك للعالم؟
- إذا استطعنا أن نرجع ، زمنياً، إلى الوراء، فلنعد إلى العام 1943، حين كنت في السادسة عشرة من عمري، وكنت أزاول الكتابة خفية… كتابة اليوميات وكتابة المسرحية والرواية القصيرة والأقاصيص ! كنت غارقا في كتابة لا أول لها ولا آخر، وهي أشبه بالعادة المستعصية أو بالمرض. أمّا كيف بدأ هذا المرض، فلعلها تلك القراءات المستمرة للروايات والقصص التي باشرت بها منذ صيف العام 1939. إنه الانغمار اللامتناهي في هذا المحيط الرائع من الشخصيات الغريبة، والأحداث المتتالية الأغرب منها" حتى صار العالم الذي نسميه واقعياً، متراجعاً عندي إلى المستوى الثاني بعد عالم الخيال المتألق هذا. وفي ظني، أن هذه الحال كانت تؤسس لتغيير تكويني العقلاني إلى تكوين تخييلي.لم أختر القصة القصيرة. كتبت مسرحية أو اثنتين ،ورواية قصيرة وأقاصيص، ثم ركزت همّي على الإقصوصة بعد ذلك وعلى كتابة الحوار. وكان وجود الكتب الروائية لدى أخي نهاد هو المحفِّز الأول في تشكيل ذائقتي الأدبية، إن أمكن أن نفترض وجودها لديّ في تلك السن المبكرة. ثم جاء التغيير في هذه الذائقة ليفرض نفسه، بعد أن تجاوزت المراهقة وأخذت ألقي النظر على ما كان يسمى أدباً. صرت أقرأ كتباً مختلفة، تقترب من الأدب ولا تفارق المستوى الروائي.
وانتبهت، بحسرة، إلى أن "روايات الجيب" التي كنت أميل إليها، لم تكن ترجمات أمينة كاملة، ولا كانت ذات مستوى أدبي محترم. كانت روائع عالمية منقولة بلغة صحفية وباختصار. لذلك اتجهت، إشباعاً للفضول ليس إلا، إلى قراءة ما يكتبه الأدباء المعاصرون آنذاك. جذبني توفيق الحكيم إليه. كانت رواياته إذا أمكن أن تسمى كذلك سلسة اللغة، مشوقة، ذات عمق فكري إلى حد ما. كذلك كان الأمر مع مسرحياته. وأحسست، على الرغم من صغر سني، أنه يبالغ في التظاهر بالفن، وفي عرض أفكاره. ومع أني لا أستطيع، بشكل مضبوط، وضع إصبعي على أي من الكتب والتيارات التي أثرت فيّ، غير أني أستطيع تماماً أن أصف لك تأثري الكبير بكتابات أو أعمال ستندال وموباسان وتشيخوف ودوستويفسكي، طبعاً، وتولستوي وكاترين مانسفيلد وسالنجر. أقصد بهذا أني كنت أتجاوز العمل لأبحث وراءه عن الرؤيا، عن التشكيل الفني وعن المعادلات الأدبية الأخرى الموجودة فيه. لم أكن أفهم كل شيء طبعاً، وكانت بعض الأعمال لغزاً بالنسبة إلي. وفي ظني، أن رؤيا الكاتب لا تتشكل عبر وعيه فقط، بل هناك دور أساسي تلعبه عواطفه في هذا السياق، وتأثره اللاواعي ببعض الأفكار، أو تجاربه وما يحمل في نفسه من تفسير لها. إن الرؤيا صيغة أو موقف، يحتاج إلى عناصر كثيرة لتكوينه. وليس من المستغرب أن تبقى أكثر هذه العناصر مجهولة. قرأت كتباً في الفلسفة، لأنّها كانت تجذبني، وقرأت في علم الأخلاق، وتصوَّرتُ أن بإمكاني أن أفهم سرّ تصرفات بعض البشر. لم يجذبني التاريخ ولا علم الاجتماع. الآن، أجد أن التاريخ يمنح المطّلع عليه فكرة عن الإنسان وطبيعته، فكرة لا تسرّ كثيراً.
حذار من الشهرة الاعلاميّة!
ما الذي يميّز جيلك عن الأجيال التي أعقبته؟ وما الذي جعل كتاباتك تبدو مختلفة عن كتابات معاصريك؟
- التمييز على المستوى الأدبي، هو في نقل الأقصوصة إلى المستوى الفني المعترف به عالمياً. كان ذلك عملاً لا يعتدّ به وليس متوقعاً أبداً. أمّا ما يميز أشخاص هذا الجيل، فهو الإخلاص المطلق والاعتراف بجهود الآخر والاهتمام بالمجتمع والشعب والثقافة الرفيعة. الأجيال التي أعقبت؟! لقد فتحنا لها الأبواب، فاستفادت من ذلك وأبدعت أحياناً، وأكثرت من الضجيج الإعلامي أحياناً أخرى. أما كتاباتي فقد اعتبرت مختلفة في السنوات الأخيرة. لم يكن يُنظر إليها هكذا سابقاً. لا أدري بالضبط ما هي أوجه امتيازها، ولكني أعتقد أن رؤياي كانت منذ البدء مختلفة عن رؤيا رفاقي، ولم يكن ممكناً ملاحظة ذلك خلال الخمسينات. كنت أفكر في المقولات الفنية التي يمكن، عند تنفيذها، أن تحقق نجاحاً على مستوى التأثير في القارئ وعلى مستوى البناء الفني. ويبدو أنها كانت مقولات صحيحة.
لم تُنسَب لكتّاب القصة العراقيين في الخمسينات صفة طليعية أو ريادية ما، تستحق مقارنتها بما أنجزه بدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة في الشعر، أو جواد سليم في الفن التشكيلي؟
- لا أظن ذلك، ويجب أن نكون على حذر من "الشهرة" الإعلامية المتوطدة من دون سبب ظاهر يسندها. فحركة الشعر في العراق، على الرغم من تعبيرها القوي عن عصرها، لم تكن جديدة أو رائدة في مسيرة الشعر العربي. كانت هناك جماعة "أبولو"، وكانت هناك جماعة "الديوان"، وقد قال أفراد الجماعتين كل شيء تقريباً قبل بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة. في حين أن حركة الفن التشكيلي في العراق، استفادت، كما هو واضح، وأشير هنا إلى تجربة جواد سليم على وجه الخصوص، من أنماط التعبير التشكيلي في الغرب. وكان جواد سليم أكثر وعياً من غيره، فسخّر أو اقتبس هذه الأنماط ليعبّر عن عراقيته ومحليّته، وكان متميزاً في محاولاته هذه.
أما الأقصوصة العراقية في الخمسينات، فلم يُنظر إلى إنجازاتها بعين الجد حتى بعد مضي خمسين عاماً سنة على بزوغها. في ظني، أن الأقصوصة التي كُتبت في حقبة الخمسينات في العراق كانت جديدة فنياً على المستوى العربي، وكانت تقدم نموذجاً متماسكاً ورائداً في هذا الفن. قارن فقط بين مجموعة عبدالملك نوري "نشيد الأرض" إصدارات مجلة "الثقافة الجديدة"، 1954 وبين كل ما كتبه آنذاك الكاتب المصري يوسف إدريس. ستجد الفرق واضحاً: الأول يكتب بتقنية القرن العشرين والثاني يكتب - ككل الكتاب العرب آنذاك - بتقنية القرن التاسع عشر، تقنية موباسان على الأخص. هذه الحقائق لا يذكرها أحد، لأن النقاد لم يهتموا بدراسة الأقصوصة الخمسينية في العراق، وموقعها من الأدب القصصي العربي. شغلهم الشعر - ديوان العرب! - فأهملوا القصة والرواية.
تكتب منذ خمسة عقود، هل هناك بوصلة وجّهت كتاباتك؟ هل هناك حقيقة، معنى، أو حتى وهم يغريك بمواصلة البحث والكتابة عن مصادفة أو قدر وراء وجودك في زمان ومكان محددين، في تاريخ ومجتمع معينين ؟
- الكتابة، مثل الإنسان، لغز. فإذا اجتمع الاثنان، أي الكتابة والانسان، صار الأمر أحجية لا تحل. الآن فقط انتبهت إلى أني اكتب بالفعل منذ أكثر من خمسين عاماً، وأني سودّت آلاف الصفحات! لم أكن أملك بوصلة. هل هناك إنسان يملك مثل هذا الشيء الثمين؟ لو كان الأمر كذلك لما حلت المصائب والمآسي بالبشر. كان لديّ هاجس غامض لعين، لا أدري متى نبت في نفسي، ولكن قراءة الأدب القصصي قوّته وصيّرته حاجة متسلطة. برفقة الهاجس كانت الحساسية، كانت تلقائية الأطفال الباحثة ببراءة عن الخير والجمال. وفي الواقع، لم أكن أبحث عن فكرة فلسفية، بل كانت الفكرة هي التي تجذبني. فوراء كل هذا، كل ما يبدو للعيان، لا أريد أن أجد الفراغ. سيكون ذلك أمراً مفزعاً. ثم أني تركت الحقائق المطلقة لأصحابها وتشبثت بهذا المخلوق المعذَّب الذي يعيش على الأرض سعادته القصيرة، ووجدت أن حقائقه الصغيرة تهمني وتلهمني، وأني أبتعد عن الأحزان حين أكتب عن أحزانه. كانت الكتابة سرّاً ثم تحولت، مع الزمن، إلى دواء للروح.
تنظر بحنين وحزن إلى اندثار الأمكنة القديمة في بغداد، لكنك تكتشف فجأة أن مدينتك المشوهة ظاهراً، جميلة ومثيرة ! كيف يحصل هذا الاكتشاف؟ هل تراك تبصر المشهد نفسه مرتين، مرة بالعين المجردة، ومرة أخرى بعين البصيرة والحدس. فتنتهي إلى حكمين متباينين عن جمالية المكان أو بشاعته، ألفة أو غرابة تلك المدينة الواطئة، الأفقية، والمكسوة بالأصفر والرمادي؟
- إنك تثير شجوني بهذا السؤال. فأنا "مريض" بالأمكنة التي آلفها، خصوصاً تلك التي عشت فيها طفولتي وصباي. ومع أني آنس جمالها باعتياد الرؤية، فإن هذا الجمال يتوهج أمامي فجأة حين تتبدل زاوية النظر، وتبتعد الألفة وأصير غريباً يكتشف، لأول مرة، جمال مدينته المخفي. حصل لي ذلك مرة حين ضيعت طريقي في شوارع بغداد، فبدا لي كل شيء، تحت المطر المتساقط، رائعاً، محاطاً بظلمة شفافة تزيد من جماله. ذُهلت تماماً. كيف تسنى لهذا الجمال أن يختفي عني هكذا؟ إنه الاعتياد، والكسل الروحي والذهني. حينما كنت في السادسة عشرة من عمري، كنت أجزع من مجرد التفكير في إن دارنا العتيقة هذه ستسقط علينا إن لم نغادرها في الوقت المناسب. وحين انهارت حيطانها بعد أن غادرناها، رحت أعود إلى الخرائب، عند غروب الشمس، أتفقد البقايا والأحجار والأشجار الذابلة. لم أكن قادراً على فراق مكان طفولتي، على الرغم من أن الزمن كان يمضي بي خارجاً من هذه الطفولة. وبسبب هذا التناقض، بعيدا عن الجمال أو البشاعة، لجأت إلى سرّي الجميل : الكتابة، فأعدتُ بناء بيت الطفولة في "الرجع البعيد"، وكنت سعيداً، منتصراً لمكاني الحبيب ولطفولتي.
خيالي ضعيف
لا تبدو مكترثاً بالسياسة في بلد مشحون بالصراعات السياسية. كيف تبرر نأيك الواعي أو غير الواعي عن هذا المعترك الساخن؟
- يأساً واحتفاظاً بالكرامة الإنسانية.
كرجل قانون، شغلت وظيفة قاض في المحاكم العراقية لأكثر من ثلاثة عقود، وواصلت، بموازاة ذلك، الكتابة الأدبية. هل توجد علاقة بين الوقائع التي شهدتها كقاض، والحكايات التي سردتها كقاص وروائي؟ هل تعالج ملكة الخيال عندك نقص المعطيات وغموض التفاصيل؟
- لا توجد أية علاقة بين المادة الخام المتشكلة فنياً القصة، والمادة الخام المسجلة لغرض التحقيق. والقضاء لا يصنع أدباء، كما أن ملكة الخيال لم تكن تتدخل عندي لصياغة أقاصيص من الدعاوي المعروضة أمامي. ملكة التخيّل لديّ ضعيفة كما أعتقد، وكنت أستعين بها لجعل المعطيات الواقعية داخلة في منطق قصصي معقول. كان الفن هو الغاية الأخيرة.
أسرفت في روايتك الأخيرة "المسرات والأوجاع" في وصف الحياة الجنسية لبطل الرواية. وتركت السياسة على هامش حياة بطلها. هل إن السياسة هي فعلاً من المحظورات في عالمك الروائي؟ هل هناك محظورات أخرى لا تريد أن تقربها؟
- من الغريب أن يتكرر هذا السؤال بشأن الجنس في "المسرات والأوجاع"، مع انّه لا يشكّل سوى حضور بسيط، ونسبة ضئيلة من مجموع صفحات الرواية المليئة بالكثير من الأوجاع والأحزان. هل كان الوصف الجنسي قويّاً ومؤثراً إلى هذا الحد؟ أم أنه - أي الجنس - ما أن يدخل الكتاب حتى يجذب إليه النفوس ؟ أم أننا، نحن العرب، لا نريد لأحد أن يتطرّق لهذا المحظور الذي يملأ أحلامنا وحياتنا وهلوساتنا ويشوّه أخلاقنا؟ ولا نريد، فوق ذلك، أن يسألنا أحد: "لماذا؟".
أما لماذا تركت السياسة، و"أسرفت" في الكتابة عن الجنس، فلأن الأولى محض تهويش، والثاني غريزة وصدق. وأنا، كما تعلم، لا أحب التهويش والإدعاء. لكن السياسة لا يمكن أن تكون من المحظورات في الرواية العربية، فالأكثرية الساحقة من الأدباء العرب، ليس لديها شغل شاغل، مع الأسف، إلا السياسة. أما أنا فأفضل الكتابة عن المحظورات التي يعرفها الجميع جيداً، وأحياناً أحسن مني بكثير.
ضمن حالة الخراب والانسحاق التي تلفّ العراق في السنوات الأخيرة، يبدو توفيق لام، الباحث عن حريته والمحدق في مأساة الوجود، كائناً شاذاً وعادياً في آن واحد. هل تلغي المأساة الجماعية فردية الفرد؟ عندما يكون البعد العبثي للحياة حقيقة جماعية معاشة، ما جدوى اعتماده كرؤية فكرية؟
- "توفيق لام" إنسان عادي أكثر منه شاذاً، وفي ظني أن الفن الروائي يسعى لتقديم الفرد ممثلاً للجماعة بشكل أو بآخر. واستناداً إلى هذه المقولة نفسها، فإن المأساة الجماعية تزيد في تعميق فردية الفرد وتظهر مكنوناته الأصيلة : فالحجر الكريم يقدح ناراً حين يضربه الحديد. تسألني عن العبث في الحياة، ولعلك تقصد اختلاط القيم الإنسانية على المستويات كافة، بحيث تفقد مدلولاتها وندخل في حالة عبثية لا طائل من ورائها... هذه، تاريخياً، أمور واقعية، وأعني بذلك أموراً وقعت ولم تكن أموراً افتراضية. وفي اعتقادي، أن الفن يمكن أن يتدخّل ليبحث عن النظام في هذه الفوضى، وليزرع بعض الطمأنينة في نفس الإنسان. لا يمكن للبشر أن يقبلوا بما يحيلهم إلى وحوش أو ما يقتلهم، وعلى الأدب واجب تذكيرهم بذلك.
يعزى رواج الأدب الوجودي في فرنسا إلى فترة نهاية الحرب العالمية الثانية. ما هو وجه الاقتران الممكن بين نصوصك الأدبية وواقع العراق في العقود الأخيرة؟
- لا أظن، ولا يمكنني أن أدعي بأني عبّرتُ عن مأساة العراق الكبرى، ولو بعشر معشار حجمها. لقد غيرت المأساة طرق الكتابة عندي: هذا صحيح، وكان ذلك بالتناغم مع أحوال بلدي، إلا أني لم أستطع الدخول بأدبي في أتون الجحيم الذي يغلّف العراق.
أية مشاعر وأفكار تثير فيك كأديب صورة العراق المنكسر، المحطَّم والمتراجع على كل المستويات؟ وكيف تنظر إلى المستقبل وأنت تواجه هذه النهاية الفاجعة؟
- تتنازعني مشاعر مختلطة وأفكار شديدة التناقض. فأنا، مثل الكثيرين، كمن يشاهد كلاباً متوحشة تفترس ابنه أمام عينيه. وهذا المنظر، لقسوته ووحشيته، يرتقي إلى أن يكون كابوساً لا واقعياً" ولا يمكن للمرء، لفرط جزعه، أن يصدقه. العراق يقطّع تحت ماكينات الهرس، وتحت أنظار العالم أجمع؟ إنها وقفة في التاريخ لن تمحى أبداً. ويزداد رعبي حين أحاول استشراف ظلمات المستقبل. إنها عملية تبعث على اليأس تماماً: فالمعطيات المتوافرة حالياً، لا يمكن - عقلانياً - الاعتماد على دوامها وتأثيرها في المستقبل. هكذا لا يبقى لدينا الخيال... لم يبقَ للناس إلا أن يفعلوا مثلما نفعل نحن الروائيين! وتبقى لنا أيضاً تلك المواصفات الثابتة في أعماق الإنسان العراقي. والسؤال هو: إلى أي مدى سيتمكن العراقيون الذين تعرضوا لكل الكوارث التدميرية على المستوى النفسي والمادي، من الاحتفاظ بالثوابت المتجذّرة في شخصيّتهم، تلك التي ورثوها عن آبائهم، والتي تشكّل طبيعة خلقتهم وأخلاقهم منذ آلاف السنين؟ لقد شعرت أن الجواب على أسئلة من هذا النوع غير متوافر لدي في الوقت الحاضر، فانتابتني حالة خاصة من القلق الأسود والإحساس الواخز بالإحباط واليأس. وكنت أريد أن أكتب أفكاراً واضحة عميقة، فتركت القلم جانباً لحظات، ثم تناولته ورحت أكتب بشكل آلي هذا "النص الأخرس" الذي وجدت - بعد الانتهاء منه - أنه النقطة المركزية لما أريد أن افصح عنه، فيمنعني عن ذلك منطق العالم الأعوج :
"الوقوف أمام الحائط. دون حراك. ساعات، ساعات. لا تنتظر شيئاً، لا تنتظر. تضربه بجمع يدك. يدك العارية. مرات، مرات. تخفي ألمك. تتجاسر ولا تبكي. تعاود الضرب، مرات. يتناثر اللون الأحمر. على الحائط. نقاط مدعوكة. يتلوث الأحمر القاني. يزداد تلوثاً. تزداد ألماً. تتجرأ ولا تصرخ. تتقاوى بلا شيء. لاشيء في لا شيء. حولك وأمامك وخلفك. يمنحك الألم ضعفاً. ضعفاً على ضعف. لا تتهاوى. تتقاوس ولا تتهاوى. تسمع عن الشجاعة. تبقى واقفاً. تتألم بحرقة. تبقى واقفاً. تفكر، تفكر. تعاود الضرب. تتجاهل أنك لا تعلم. تتعالم. تتفاخر بازدراء. ترفع ذراعك، أمام الحائط. يتقاطر الدم. تفكر. أأعلم أم لا أعلم. تقف. تصمد. تقف صامداً. تصمد واقفاً. أمام الحائط. أمام الحائط تماماً"...
وهكذا تجد يا صديقي أن المنطق حين يتوقف، تتدخل الموسيقى، وأحياناً النصوص الخرس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.