«هيئة النقل» تدشّن النظارة الافتراضية بنسختها المتطورة خلال حج 1445ه    «الأحوال المدنية»: تعديل مواد تتعلق بالاسم الأول والشهرة    الأردن يدين الاعتداء الإسرائيلي الوحشي الذي استهدف مخيم النصيرات وسط غزة    رئيس وزراء باكستان يعود إلى بلاده بعد زيارة رسمية للصين    "نزلة معوية" تُبعد "مختار علي" عن تدريبات الأخضر    فوز سعودي مميز بقيادة العالمي يزيد الراجحي في رالي الأرجنتين    الأخضر يعاود تحضيراته.. وتمبكتي يواصل البرنامج العلاجي    القلعة الأثرية    مجزرة النصيرات تقاوم تنديد العالم    28 قتيلا في مناطق أوكرانية تحتلها روسيا    الجبير يلتقي وزير الدولة البرتغالي للشؤون الخارجية    الدفاع المدني ينفذ فرضية حريق بالعاصمة المقدسة    الجهات الحكومية والفرق التطوعية تواصل تقديم خدماتها لضيوف الرحمن    الرئاسة العامة تفعل حزمة وسائل توعوية لخدمة حجاج بيت الله الحرام هذا العام    هيئة النقل: أكثر من 9 آلاف عملية فحص رقابية بمنطقتي مكة والمدينة    فيصل بن مشعل يقف على مدينة حجاج البر.. ويشيد بجهود بلدية المذنب    أمن الوطن والحجاج خط أحمر    الكشافة تدفع ب 220 من "فتياتها" للمشاركة مع أمن الحرم المكي    نائب أمير الشرقية يستقبل أعضاء «تنمية الموارد المالية»    هجوم شرس على عمرو دياب بسبب «صفعة» لمعجب    أمير المدينة يدشّن المسار الذكي بالجوازات    ضيوف خادم الحرمين: استضافتنا في الحج امتداد لإنسانية المملكة    «الأونروا» تحذر من خطر تفشي الكوليرا في قطاع غزة    ضبط 14 متورطا في إيواء ومساعدة مخالفي الأنظمة    انعقاد المجلس الوزاري ال 160 لمجلس التعاون بالدوحة غدا    سعودي الأول عالميا في العلوم الطبية الحيوية    استدعاء شاعر شهير استخدم ألفاظاً غير لائقة في لقاء «بودكاست»    السديس ل«المكي» والمهنا ل«المدني».. إعلان إمامي صلاة عيد الأضحى بالحرمين    فواكه لا تخزن في الثلاجة    موقف حارس يوفنتوس من الانتقال ل"روشن"    القبض على باكستانيين في جدة لترويجهما (4.1) كيلوجرام من مادة (الشبو) المخدر    من أعلام جازان… الشاعر والأديب والمؤرخ الشيخ/أحمد بن علي حمود حبيبي مطهري الحازمي    90٪؜ نسبة استيفاء "الاشتراطات الصحية" للحج    إطلاق خدمة أجير الحج والتأشيرات الموسمية لموسم 1445    الالتزام البيئي يفتش 91% من المنشآت المحيطة بمواقع الحجاج    البسامي: ضبط أكثر من 140 حملة حج وهمية    فاطمة الشمسان ل"الرياض" الحاج يحتاج نحو 100 جرام من البروتين يومياً    "البحر الأحمر": جولة ثالثة لدعم مشاريع الأفلام    الفنانة المصرية شيرين رضا تعلن اعتزال الفن    طقس شديد الحرارة على 5 مناطق    "السياحة": 227 ألف غرفة مرخصة بمكة    سُوء التنفس ليلاً يسبب صداع الصباح    النائب العام يتفقّد ويدشّن مقرات للنيابة العامة في المشاعر المقدسة    جنة ينافس العيسى على رئاسة الأهلي    الهلال يعلن برنامج تحضيراته للموسم الجديد    "آبل" تخرج بعض إصلاحات "آيفون" من الضمان    مقتل صاحب أول صورة ملونة لكوكب الأرض من الفضاء    سوء التغذية يسبب اكتئاب ما بعد الولادة    بيئة نجران تدشن اليوم العالمي للبيئة تحت شعار "أرضنا مستقبلنا"    بعثة المنتخب السعودي تزور صالة مبادرة "طريق مكة" بباكستان    100 ألف زائر في كرنفال القادسية الأسطوري    المملكة عضواً في المجلس الاقتصادي والاجتماعي (ECOSOC) للفترة 2025-2027م    فرع هيئة الصحفيين بمكة ينظم ورشة الإعلام في الحج    «الأحوال»: منح الجنسية السعودية لشخصين.. وقرار وزاري بفقدانها لامرأة    فيصل بن مشعل يقدر لامين وأمانة القصيم جهودها في مدينة حجاج البر    فقدت والدها يوم التخرج.. وجامعة حائل تكفكف دموعها !    وقوف امير تبوك على الخدمات المقدمة في مدينة الحجاج بمنفذ حالة عمار    وزير الداخلية يخرّج "1410" طلاب من "فهد الأمنية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استنساخ يدوي ومطبوعات مهربة وأفلام "الاسكرين"... وذاكرة مثخنة بالجراح . مثقفو بغداد يبيعون كتبهم من أجل لقمة العيش شكسبير وتشيكوف بالمزاد في شارع المتنبي
نشر في الحياة يوم 02 - 08 - 1999

في شارع المتنبي وسط العاصمة العراقية بغداد، الذي يعد واحداً من أعرق الشوارع والأمكنة العربية لبيع الكتاب، لم تعد هذه المهنة حكراً على تجار حاذقين، بل تسلل إليها في الآونة الأخيرة كتّاب وأدباء ومثقفون، واحتلوا ركناً من زوايا الشارع أو مساحة من أرصفته، يفرشون عليها مكتباتهم بما تحويه من كتب ومجلات أفنوا أعمارهم وهم يجمعونها، وأكلت حروفها من أعينهم ومخيلاتهم وأصابعهم.
كتب كثيرة قديمة وحديثة: "الحي اللاتيني/ سهيل ادريس"، "الانتباه/ البرتو مورافيا"، "موسوعة جيمس جويس/ طه محمود طه"، "الوسادة الخالية/ إحسان عبدالقدوس"، "الرواية التاريخية/ جورج لوكاش"، "مذكرات ديغول"، "مذكرات تشرشل" "هيرمان هيسه/ دميان"، "الانثى هي الاصل/ نوال السعداوي"، وغيرها من كتب تختص بالجغرافيا والفلك وعلم الميكانيكا.
وفي صبيحة يوم الجمعة من كل أسبوع يغص الشارع بالباعة والمتسوقين الذين لا ينهرهم أحد ان هم شرعوا في تصفح كتاب أو مجلة على سبيل الفرجة واطفاء الفضول. ولعله الفضول ما قاد خطانا إلى ساحة من الأرض يتحلق حولها جمهرة من الناس تحدق بنهم في أغلفة مجلات حديثة عربية وأجنبية وتحول الفضول إلى دهشة حينما وجدنا من بين المجلات "الوسط" و"الوطن العربي" و"الحوادث" و"المجلة" و"الصياد" و"الأهرام العربي" وصحف ك "الحياة" و"الشرق الأوسط".
صراخ في علبة
ولما أعلمنا مثقفاً عراقياً بارزاً بما رأيناه لم يبادلنا الدهشة، بل أضرمها بقوله إنه يتابع "الحياة" بشكل يكاد يكون منتظماً، وأخبرنا بأن وصول هذه المطبوعات يتم بصورة التفافية يدخل فيها "التهريب"، ولكن السلطات تعلم بذلك، ولا تحول دونه!
في شارع المتنبي الذي زرناه لدى حضورنا مهرجان بابل العاشر وعدنا اليه بعد ذلك بشهرين، وجدنا الحال نفسها دونما تغيير، ما عدا تغيير واحد لا يسع المتابع أن يعده ثانوياً، وهو ان القاص العراقي المتميز أحمد خلف كان في الزيارة الثانية قد أقلع عن بيع كتبه وكان الاعلان عن ذلك في حينه مسألة هزت ضمير المثقفين العراقيين والعرب.
أطبق الجوع أنيابه على روح صاحب "صراخ في علبة" فما كان عليه - كما يقول في شهادته التي خصّ بها "الوسط" - سوى ان ينخرط في أتون هذه التجربة الرهيبة: "انزلت قرابة 400 كتاب من مكتبة عملت على جمعها وتنقيبها والعناية بها طيلة ثلاثين عاماً، أنزلت الكتب إلى رصيف الشارع لبيعها، وبدت التجربة غامضة وعسيرة عليّ، فالأمر لا يتلخص في عملية البيع والشراء، بل يتحدد بتغيير كينونة الكائن من كاتب يبدع القصص والمقالات إلى تاجر ينبغي أن يتلبس كينونة أخرى جديدة وغريبة عليه".
بؤس في كل مكان
المسرحي العراقي محسن راضي خريج أكاديمية الفنون الجميلة يبيع الكتب هو الآخر بعدما بدأ بمكتبته الخاصة، واصفاً هذا الأمر بأنه "أفضل وسيلة لدرء حدة الحاجة ومقاومة الحصار". ويعتقد صاحب مسرحية "موت عازف البوق" التي نالت الجائزة الثانية في مهرجان مسرح الشباب العراقي أن مهنة بيع الكتب "لا تقلل من شأن الإنسان وقيمته"، مشيراً إلى أنه وُضع أمام خيارين: "إما أن أقدم أعمالاً مسرحية هابطة، أو أمتهن بيع الكتب، فاخترت الثانية، لأنها أكثر لياقة بمثقف يحترم وعيه، وليس في امكانه ان ينخرط في موجة تلويث ذوق الناس وتشويه وعيهم بأعمال مسرحية تجارية ملأى بالاسفاف والسطحية".
وإن تجاوز الزائر شارع المتنبي وسار في شارع الرشيد، أو في شارع السعدون أو ابي نواس سيجد البؤس - لا محالة - محفوراً على الوجوه، وفوق صفيح السيارات المهترئة التي يقودها أطباء ومهندسون ومديرون كبار في الدولة لم تكفهم رواتبهم المتدنية لسد حاجات الحياة ومتطلباتها التي لا تكفّ عن إشهار راية العصيان في وجه الكائن.
معدل راتب العراقي حوالي 3000 دينار، أي ثمن طبق بيض. وهو مبلغ لا يكفي لشراء حقيبة مدرسية متواضعة لطفل يتهيأ لتعلم أبجدية المعرفة الأولى، ويستعد لاطلاق نشيده الأول في وجه الدنيا.
العراقيون، كيلا ترتطم أحلام أطفالهم بجدران العدم يقترفون "الخطايا" فيبيعون أثاث منازلهم، وأسرّتهم وأوانيهم، وكل ما اصطلحوا على تسميته بعناصر الرفاهية، حتى ان طاولة الطعام والملابس والأغطية وأبواب البيوت ونوافذها تغدو، ضمن هذا الاصطلاح القاسي، جزءاً من عناصر الرفاهية، وربما يكون الهواء والماء رفاهية فيعبئونهما في زجاجات ويبيعونهما.
المثقفون يلتقي بعضهم بعضاً في مقهى حسن عجمي، وقد ناءت أرواحهم بثقل الحصار، لكن ذلك لا يمنعهم من مناقشة أعمالهم الابداعية أو من النميمة الثقافية المحببة، فيما أبو داود نادل المقهى الاثري يتجول موزعاً "التشاي" على الروّاد الذين يدسون في جيوبه دنانير قليلة تجعله قادراً على المضي في عمله على رغم انحناء روحه وجسده ونحول ذاكرته.
الشعر لمقاومة الحصار
في مقهى حسن عجمي، الذي لا يبعد كثيراً عن شارع المتنبي، يستعيد المثقفون العراقيون أزمنة المقهى الذهبية منذ الثلاثينات حين كان يستقبل الجواهري والرصافي والزهاوي ومن جاء بعدهم: السياب، البياتي، فؤاد التكرلي، عبدالملك نوري وغيرهم من مثقفي العراق وأدبائه.
المثقفون هناك يحدقون في مشهد الحصار بألم وغصة، ويتفقدون أرواحهم وما تركته أنياب الحصار عليها من أثلام وجروح. الشاعر كريم شغيدل يقول: "بعضهم باع نوافذ بيته ليطعم الصغار، بعضهم الآخر باع سقف بيته، ومنهم من باع حدقة عينه. فماذا يبيع الشاعر؟ لقد صنعنا تماثيل من الصبر نأكلها حين نجوع، وادخرنا بعض برد الشتاء لمواجهة صيف قادم... بالأمس نفد الطحين، وقبله السكر، لا شاي، لا ماء... ولا هواء. هذا هو الواقع الفانتازي الذي خلقه الحصار والذي طال أرواحنا وشهواتنا ونصوصنا، ولم تسلم منه حتى ذكرياتنا".
وثمة من يتحدى الحصار بالانهماك في القراءة والكتابة والتأليف كما هو شأن الشاعر عيسى العبادي: "اكتب باستمرار وصدرت لي مجموعة شعرية اثناء الحصار، والأخرى في طريقها إلى الصدور... وليس من سبيل لمقاومة الحصار سوى الشعر"، وعن طريق هذا التحدي "تبلور المنجز الابداعي الجديد" كما يرى الناقد سليم السامرائي.
ويتوقع الشاعر خالد جابر يوسف من طعنات الحصار أن تهذب الروح العراقية، فهي "ستخلق نزقاً جميلاً نطرز بألوانه الثقافة... وستصبح أصواتنا أكثر نعومة، وغناؤنا أشد ابهاراً".
انحسار الهم العربي
ويشير الناقد رزاق إبراهيم حسن إلى انحسار الاهتمام بالموضوعات الأدبية العربية والعالمية كأحدى نتائج الحصار على العراق نظراً إلى "قلة المصادر المتوافرة ولانخفاض قيمة الدينار العراقي"، كما زاحمت متطلبات العيش "الاهتمامات الأدبية للمثقفين ودفعتهم إلى تنظيم حيواتهم وفق سُلم الاحتياجات الأشد الحاحاً".
وعن صورة القصيدة المكتوبة في هذا الفضاء المسكون "بكل فصول الخوف وانتظار" يتساءل الشاعر علي الفواز: "هل بمقدور الشاعر أن يؤثث التاريخ والذاكرة ويوميات البيت ولحظات العشق بالاطمئنان لينام ويغلق عينيه على حلم أبيض؟"، ان "القصائد في يوميات الحصار خرجت عن تقليدية المقاومة والابداع المغسول بطقوس القراءة، واتجهت إلى لحظات تصويرية دافقة بردود فعل هي بالإنسان الوحيد المنفي أشبه، الإنسان الذي تلبّسه الشك من أخمص قدميه حتى قمة رأسه".
ويسمي الناقد والصحافي ناظم السعود الواقع الراهن ب "فصول المكابدات اليومية المتناسلة دوماً: ضيق ذات اليد، التقوقع في حيز جغرافي محدد، الانقطاع عما يجري هناك وعدم القدرة على ايصال جدل ما يحدث هنا، إضافة إلى محاولة إدامة الفعل الثقافي بما هو متيسر: شح الورق، ندرة المراجع، ضآلة المردود المالي... الخ".
ويعتبر الشاعر فاضل عباس الكعبي أن مهمته تتعدى الركون والاصغاء المحايد لوقائع القسوة التي يشبهها ب "المغامرة الكبرى" و"من هنا نذرت قلمي وكتابتي لمواجهة الحصار حتى مصرعه إن شاء الله، وعندذاك أكون قد أديت الأمانة بصدق تجاه الكتابة".
وإن كان من الكتّاب من توافرت له فرصة طباعة ما يكتب على حسابه الشخصي أو من خلال اصدارات وزارة الثقافة والاعلام أو المؤسسات التابعة لها، فإن فريقاً من الأدباء وأكثره من الشباب لا يُقيض له مثل هذا "النعيم" فتدفع افراده الرغبة الحارقة للاعلان عن أصواتهم وهواجسهم إلى سلوك طريق الاستنساخ وطباعة كتبهم من خلاله، حيث غدا هذا الأمر ملمحاً يتنامى بإطراد في كواليس الثقافة العراقية.
تحرر من الرقابة
هذه الطريقة في طباعة الكتب التي غالباً ما تكون الإصدار الأول لأصحابها توفر - بحسب المحرر الثقافي في صحيفة "العراق" القاص عبدالستار البيضاني - أكلافاً مالية ليس بمقدورهم الايفاء بها، فضلاً عن تحرر تلك الكتابات من مقص الرقابة، على رغم ان بعض تلك المنشورات يتضمن إشارة وهمية توحي بخضوعه لرقابة المطبوعات، كيما يسهل تداوله بين الناس. والمقصود ب "التداول" هنا، النطاق الضيق والمحدود، حيث لا تتجاوز النسخ المطبوعة بهذه الطريقة خمسين نسخة توزع على أصدقاء الكاتب المقربين، ومحرري الثقافة في الصحف والمجلات الذين يبدي بعضهم تعاطفاً مع تلك الكتابات، فينشرون عنها أخباراً، وفي بعض الأحيان متابعات نقدية.
ويمكن ان تعكس هذه الكتب المستنسخة بالطريقة اليدوية تجربة ابداعية لافتة للانتباه، كما هي الحال عند الشعراء: محمد درويش علي في مجموعة "قلق الراحة"، ونجاة عبدالله في "قيامة استفهام"، ونصير الشيخ في "مساقط الظل"، ومحمد جهيّد الحافظ في "مذبحة الغبار"، وصلاح شلوان في "تجاعيد الممحاة" وغيرهم.
بيد أن هذه الكتب تتعرض غالباً لظلم التقنية وبؤسها، حيث لا يبدو الكلام أحياناً واضحاً، وحيث تعبث الأيدي في تصويب أخطاء الحروف المنضدة، أو في ترقيم الصفحات، أو كتابة الفهرس... حيث يهون كل شيء أمام الهدف الجوهري المتمثل في صدور الكتاب، والاعلان عن خطابه.
وعن تجربته في هذا المضمار يقول الكاتب عباس اليوسفي ناطقاً بلسان زملائه: حسين علي يونس، حسن جوان، محمد غازي الأخرس، سلام دواي، فرج الحطاب وجمال الحلاق: "استطعنا ايصال أصواتنا إلى الآخر الذي يجهل عنا كل شيء كأصوات وكتجربة، كما أن ذلك منحنا زخماً جديداً في ولوج دروب كنا نجهلها، فأمسى الواحد منا مؤسسة اعلامية تنضد وتطبع وتنشر وتوزع، وبالتالي لا تنتظر غير الاشارة لهذا المطبوع" في حين حاول كثيرون "التقليل من شأن هذه التجربة، لكنها بمرور الزمن أخذت تتسع، وبالتالي أضحت أمراً لا مناص منه". ولم تقتصر هذه الظاهرة على بغداد فحسب، بل امتدت لتشمل سائر المحافظات، وتحديداً في البصرة التي برزت فيها جماعات أدبية كجماعة البصرة القصصية التي أصدرت حتى الآن تسعة مجاميع بطريقة الاستنساخ.
سياسة تجار الفن
ولم تكن تجربة الاستنساخ اليدوي للكتب، ومحنة بيع المثقف كتبه وحدهما ما أفصحت عنه قسوة الحصار والحرب، بل ترافق ذلك مع بروز ظواهر استثنائية في سائر شؤون الثقافة والفن، ففي السينما ظهر ما يسمى ب "سينما السكرين" لتكون بديلاً من الانتاج السينمائي الذي يحتاج ميزانيات لا توفرها شروط الحصار ومصاعبه.
وفي تعريفه لهذا المصطلح يقول الناقد السينمائي علاء المفرجي المحرر في صحيفة "الثورة" إن "كلمة سِكرين تعني بالعربية شاشة" وتعني في هذا السياق "الأفلام المخصصة للعرض التلفزيوني"، لكنه يستدرك فيقول إن أفلام السكرين "لا يمكن عدها بأي حال بديلاً من الانتاج السينمائي العراقي، على أن ذلك لا يعني عدم أهمية هذه الأفلام التي يتصدى لها في مصر، على سبيل المثال، قطاع انتاجي في التلفزيون، ولها جمهورها، وقد حقق بعضها حضوراً فنياً متميزاً".
وظاهرة سينما السكرين في الحالة العراقية تعد واحدة من نتائج الحصار، وهي ظاهرة حديثة نسبياً حيث لم يمض عليها أكثر من ثلاث سنوات. وأخذت تنحسر تدريجاً وتفقد مزاياها الجمالية بسبب سياسة تجار الفن الذين اختاروا لها موضوعات هزيلة ونفذوها بشكل فني متردٍ منفلت من أي ضابط قيمي أو مهني.
لكن ذلك لا يمنع الناقد السينمائي العراقي من تسجيل حسنتين لهذه الظاهرة: الأولى مساهمة القطاع الخاص فيها والذي يمكن استثماره مستقبلاً في حال عودة الانتاج السينمائي، والثانية انتشال الكادر الفني من البطالة التي طالت، على رغم ذلك، عدداً كبيراً منهم.
الممثل مقداد عبدالرضا شارك في فيلمين من انتاج سينما السكرين الاول هو "الانفجار" من اخراج اركان جهاد وشارك في مهرجان في تونس وأشادت به الصحافة، ومدته ساعة ونصف الساعة. أما الثاني فأخرجه فادي أغوب بعنوان "الحنافيش".
ويرى عبدالرضا ان هذه التجربة "لو استمرت لقدمت نتائج مرضية على قاعدة الكم الذي يولد النوع، ولكن دخول عناصر غير كفؤة ومختلفة هدفها الربح جعل التجربة غير متجذرة، ودفع الناس للعزوف عنها، مما أدى لاختفائها تدريجاً".
وحينما يصف حال المسرح العراقي الآن لا يبرئ مقداد عبدالرضا دائرة السينما والمسرح التابعة لوزارة الثقافة والاعلام من مسؤوليتها، فهي "لم تستطع خلق مناخ جماعي لعملية الابداع"، ويتساءل: "ما معنى ان تنادي بأنك تريد مسرحاً، وعندما تأتي لتنفيذ هذه الارادة تخصص مبلغاً ضئيلاًً من المال وتشترط مسرحية لا يمثل فيها أكثر من ثلاث شخصيات؟". ويمضي في تساؤلاته: "لماذا لم يحاول المسرح العراقي نقل تجربة الحرب، واللعب على ما خلفته من دمار وخسائر؟".
صحيح ان هناك مسرحيات كوميدية حقيقية جربت ذلك، "ولكن النتيجة جاءت ساذجة ولا تكشف ما سببته الحرب من تهميش للإنسان وتدمير لروحه، لأن القائمين على تلك المسرحيات سطحيون وليسوا أصحاب هموم حقيقية".
وفي النتيجة يرى عبدالرضا ان هذه الأزمة الضارية جعلت كثيراً من الفنانين الحقيقيين لا علاقة لهم بالمسرح السائد.
ويؤكد الفنان يوسف العاني الذي يوصف بأنه "أب المسرح العراقي المعاصر" وجود الأزمة التي تعصف بالمسرح، لكنه لا يعزوها إلى أزمنة الحصار فحسب، فهي تعود إلى "أواسط الثمانينات، وكنت أشرت إليها في كتابي "المسرح بين الحدث والحديث" وحملت مسؤولية ذلك للمسؤولين عن المسرح إذ كان عليهم استدراك تفاقم الأزمة، والعمل على انقاذ المسرح من خلال أعمال تجذب الجمهور. وتذكّر بالمسرح الحقيقي الذي يشتغل عليه مثلاً صلاح القصب والذي يحتاج إلى إعلام يسانده".
ويضيف العاني: "ان الحصار عزز تردي المسرح العراقي ورسخه، واعطى حالة الرداءة عمقاً كبيراً".
تخريب الضمائر
وفي غمرة هذه الشكوى المتفاقمة من لا جدوى العمل المسرحي في مناخ يحمل سمات الواقع العراقي الراهن، كان المخرج صلاح القصب يخوض معترك المواجهة عبر أصعب جبهاتها، ويُجري، بدأب منقطع النظير، البروفات الحركية على مسرحيته الجديدة "ماكبث"، مؤكداً ان "المسرح العراقي وسماءه صافيان، ولا تشكل السحب في سمائه مصدر رعب فكري أو حضاري، لأنها بدت تتلاشى وتستأصل من جسد المسرح العراقي المعاصر".
لكن القصب لا ينكر وجود أعمال متدنية تعصف بالمسرح العراقي وهو يسميها ب "مستنقعات الأوبئة" وهي "لا تشكل تياراً بقدر ما هي موجة رطبة سرعان ما تزول".
وعلى رغم "ظلمة الحصار التي تهدف إلى حجب البريق الثقافي والفني العراقي، فان الحركتين الفنية والثقافية لم تستسلما لذلك، فقدمت أعمال كبيرة للمسرح مثل "الخال فانيا" لتشيكوف و"الشقيقات الثلاث" و"بستان الكرز" و"ماكبث" و"هاملت" لشكسبير، إضافة لظهور جيل من الشباب يتميز بالنزعة الحرارية العالية من خلال تلك المهرجانات التي استمرت على مستوى القطر، ومن هؤلاء: كاظم النصار، غانم حميد، سنان محسن، جبار المشهداني، وجبار محيبس وآخرون. كما ان القراءات والكتابات المستمدة من علم الجمال والدراما للمنظّر العراقي الكبير عقيل مهدي، والأعمال المسرحية المتقدمة لفاضل خليل، شكلت في جملتها رداً ايجابياً ضد تلك الظلمة التي أرادها وخطط لها الحصار.
وفي حين يرى الشاعر والمسرحي يوسف الصايغ ان "المعتدين جربوا استباحتنا حتى في مخادعنا، وازاء ما نحن ومن نحب، وأرادوا تخريب ضمائرنا ومشاعرنا وعلاقتنا بما اعتدنا تقديسه واحترامه" فإن تساؤل مقداد عبدالرضا ينهض مثقلاً بآلامه: "لماذا لم يستطع المسرح تجسيد هذه المآسي التي يصف الصايغ جانباً منها، لماذا لم يجعل الحصار وآثاره عرضة لتناول المسرحيين وموضوعاً لخيالاتهم ورؤاهم. أليس الفن العظيم يستلهم المآسي والتراجيديات العظيمة؟".
اول الخاسرين
وفي معرض احصاء خسارات الحصار وأضراره، فإن الفنان التشكيلي كان أول الخاسرين بحسب ما يؤكده الفنان جميل حمودي صاحب قاعة "إينانا" للعرض التشكيلي ببغداد ورائد الحروفية في الفن التشكيلي العربي المعاصر الذي يوضح ان الفنان التشيكيلي "خسر الجمهور، وخسر العلاقات". اما الأدوات والمواد والوسائل التقنية فغير متوافرة في الأسواق إلا بأسعار مرتفعة، فصار الفنان التشكيلي يبحث عن تقنيات جديدة ليس لغرض الاغناء والتنوع الفني الصرف، وإنما بسبب عدم وجود الوسائل الأصلية... ما أثر على واقع الفن التشكيلي العراقي أسلوبياً وتقنياً ومضمونياً".
ودفعت بيئة الحصار الفنانين الى الالتفات إلى جوانب لم تكن مطروقة من قبل "فعمد بعض التشكيليين إلى الاستفادة والانتفاع من العالم الفولكلوري في الحياة، فتأثروا بالقيم التعبيرية ما اعطى اللوحة التشكيلية بعداً فوتوغرافيا فيما عمد فنانون شباب إلى الرجوع الى الفنون القديمة، مستوحين منها الرموز والكتابات والاشكال الطلسمية".
ويصف حمودي هذه التجربة بأنها "على رغم كل شيء تجربة جديدة وذات قيمة تعبيرية بالنسبة للمستقبل"، محذراً من خشيته "ان تصل إلى التكرار فتختنق أنفاسها يوماً ما".
وإذا كان الفنان التشكيلي يتحين الفرص ليعرض لوحاته خارج بلده علّه بذلك يحسن من شروط حياته وعمله، فإن المسرحي يفكر في الأمر نفسه، فيما يتمثل المنفذ الوحيد أمام الكتاب في الكتابة في الصحف والدوريات التي تصدر في الخارج وتدفع مكافآتها بالعملة الصعبة، حيث أن أي مبلغ يأتي عن هذا الطريق، ولو كان ضئيلاً، يسد بعضاً من حاجة، نظراً للفارق الكبير ما بين العملة المحلية العراقية ونظيرتها الصعبة، حيث ان الدولار الأميركي، على سبيل المثال، يعادل حالياً ما قيمته 1700 - 1850 ديناراً عراقياً


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.