الأرصاد: لاتزال الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على لجنوب ومكة وأجزاء من مرتفعات المدينة    تعاوُن سعودي – برازيلي في الدفاع    الخريف يبحث دعم ترويج الصادرات السعودية بالمغرب    «الصندوق الزراعي»: 479 ألف مشروع بقيمة 65 مليار ريال في 60 عاماً    «العقار»: تراخيص جديدة للبيع على الخارطة ب 6 مليارات ريال    «تاسي» يتجاوز 11800 نقطة    ChatGPT يصل للنظارات    «التنسيق السعودي الكويتي»: رؤية مشتركة في الثقافة والإعلام والسياحة والتنمية الاجتماعية    في عامه ال93.. «حوت الإعلام» مردوخ.. يتزوج الخامسة    «قرار طبي» يبعد أيمن من معسكر «الأخضر»    أمير الكويت وولي عهده يستعرضان العلاقات التاريخية الوثيقة مع السعودية    الأمير خالد بن سلمان يدشن جامعة الدفاع    "اليحيى" يقف على سير العمل بمنفذ حالة عمّار    الصمعاني يدعو خريجي المركز العدلي إلى الممارسة المهنية الشغوفة    تستمر 5 أيام.. اختبارات الفصل الثالث تبدأ اليوم    محفظة Nusuk Wallet لخدمة الحجاج والمعتمرين    كلما زاد زملاء الدراسة المضطربين عقلياً.. زادت فرص إصابتك !    محافظ الزلفي يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية السابع    الأخضر تحت 23 يتغلب على كوريا الجنوبية بثنائية    هل وصلت رسالة الفراج ؟    محاصرة سيارة إسعاف !    المثقف والمفكر والفيلسوف    الاغتيال المعنوي للمثقف    الاقتصاد لا الثقافة ما يُمكّن اللغة العربية خليجياً    فريق أكاديمية مهد يشارك في بطولة كارلوفي فاري بالتشيك    سفير خادم الحرمين لدى كوت ديفوار: خدمة ضيوف الرحمن مبدأ ثابت في سياسة المملكة    «مسام» ينزع 5,726 لغماً وقذيفة غير منفجرة وعبوة ناسفة في شهر    كأس أمم أوروبا 2024.. صراع كبار القارة يتجدد على ملاعب ألمانيا    رونالدو يتطلع لتعزيز أرقامه القياسية في يورو 2024    في بطولة العالم(9 كرات) التي تستضيفها جدّة.. نجوم البلياردو السعوديون يستعدون لكتابة التاريخ    ولي العهد يهاتف الشيخ صباح الخالد مهنئاً    محافظ بيش يرأس لجنة السلامة المرورية الفرعية بالشخوص ميدانياً    محمد بن سلمان.. الجانب الآخر    منفذ حالة عمار يواصل خدماته لضيوف الرحمن    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية    «سناب شات» تضيف عدسات الواقع المعزز    وزير العدل: دعم القيادة الرشيدة غير المحدود يضع على أفراد العدالة مسؤولية كبيرة لتحقيق التطلعات العدلية    خبراء أمميون يحثّون كافة الدول على الاعتراف بدولة فلسطين    أمير عسير يفتتح مقر" رعاية أسر الشهداء"    أمير القصيم شهد توقيع الاتفاقية    محافظ جدة يكرّم المشاركين في" الاعتماد الصحي"    الحركة و التقدم    نهاية حزينة لحب بين جنية وإنسان    تكريم المُبدعين    بدء رحلات «إيتا الإيطالية» إلى الرياض    نمو قياسي لتقنية المعلومات.. 182 مليار ريال صادرات قطاع الخدمات    القرار    « بيئة مكة » تدعم التطوع في موسم الحج    السكر الحملى: العلاج    أكدت ضرورة أخذ التطعيمات.. إخصائية تغذية: هذه أبرز الأطعمة المفيدة للحوامل في الحج    اكتشاف أدمغة مقاومة ل" الزهايمر"    أمير حائل لمنظومة «الصحة»: قلّلوا نسبة الإحالات الطبية إلى خارج المنطقة    أمير تبوك يشيد بجهود الجوازات في منفذ حالة عمار    متعب بن مشعل يكرم الفائزين بجائزة "المواطنة المسؤولة" بالجوف    هل نتائج طلابنا تعكس وتمثل واقعهم المعرفي والمهاري فعلاً؟    زعماء مجموعة السبع يؤيدون "خطة بايدن" بشأن غزة    محافظ حفرالباطن يتفقد مدينة الحجاج بمنفذ الرقعي    تطهير المسجد النبوي وجنباته خمس مرات يومياً خلال موسم الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسكندرية إبراهيم عبد المجيد : قلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع
نشر في الحياة يوم 23 - 11 - 1998

الرواية هي المكان بامتياز، فيه تنبت الشخصيات وتتشابك العلاقات وتتوالد الأحداث. والأدب بشكل عام مرتبط بالمكان، حتّى في انسلاخه عنه أحياناً. ففي وجدان كل أديب يعرّش مكان محدّد، مدينة بأحيائها وروائحها وضجيجها، بأحداثها وأحاسيسها وناسها. حاولنا أن نغوص في تلك الذاكرة الثقافية والحميمة، داعين عدداً من أبرز الكتاب العرب إلى كشف الخيوط الخفيّة التي تشدّهم إلى مدينة ما، هي مكانهم الأصيل أو أحد أمكنتهم الأثيرة. طلبنا إليهم أن يرفعوا الحجاب عن زاوية في لاوعيهم، يتقاطع عندها الذاتي بالثقافي، والخاص بالعام. وأعطيناهم الحرية في اختيار الأسلوب واللغة والشكل، في اختيار المكان. إستجاب بعضهم وتردد آخرون. بعد غادة السمّان، ننشر مساهمة الروائي والقاص المصري إبراهيم عبد المجيد.
"ترعة المحمودية... هي سبب ازدهار الاسكندرية في العصور الحديثة. صدرت أوامر محمد علي باشا الكبير ببدء حفرها عام 1233 ه - 1819م، وأمر حكام الجهات بجمع الفلاحين سخرة، فكانوا يربطونهم بالحبال وينزلون بهم من المراكب، ومات منهم خلق كثير من البرد والتعب، وكل من سقط أهالوا عليه التراب ولو فيه روح". هكذا قال الجبرتي.
تسلم محمد علي حكم مصر، وتعداد أهل الاسكندرية ستة آلاف. وكانوا في العصر الهلليني ثلاثمئة ألف حر ومثلهم من العبيد. لماذا تناقص أهل الاسكندرية هكذا؟ المجاعات. الزلازل. لكن الأهم تندرهم الدائم على الحكام! بعد الترعة بلغ سكان الاسكندرية ستين ألفاً، ثم مئة وخمسين ألفاً مع بداية القرن العشرين.
وقد ولدت أنا في حي كرموز قريباً من هذه الترعة، شاهدتها وهي نظيفة جميلة تبحر فيها السفن تنقل البضائع من الميناء الى البلاد والعكس. في المساء، تصبح متنزهاً للعشاق والاحباء، وفي الليل تشهد مطاردات بوليسية للصوص السفن. وسط هذا الجو نشأت ورأيت تناقضات الحياة، اكتشفت الموت والحب. وكما كانت الترعة تحمل السفن، كانت تحمل الجثث المجهولة الموضوعة في أكياس من الخيش، وقد ألقي بها من شمال البلاد أو جنوبها فانتفخت وحملها الماء الى الاسكندرية. كانت غالباً جثث فتيات، تفوح منها جرائم الشرف.
ترعة المحمودية هذه هي مسرح أحداث روايتي القصيرة "ليلة العشق والدم"، وهي قصة عن الحب والموت، وعن القبح والجمال، وعن إمكان الجمال الدائم المتجدد في العالم القبيح.
كانت الترعة متنزه الفقراء، سكان أحياء كرموز وراغب وغيط العنب وكفر عشري وكوم الشقافة ومنيا البصل... على ضفّتيها أيضاً يدور جزء أساسي من أحداث روايتي "لا أحد ينام في الاسكندرية". وعلى صفحة مياهها جرى اللقاء الأخير بين رشدي المسلم وكاميليا القبطية. لا أستطيع أن أمسك نفسي عن شم رائحة تلك الترعة، كلما تذكرتها. ولا عن استعادة الوقائع الغريبة التي كانت تجري حولها. أستعيد دائماً هنا سكان جنوب الاسكندرية، المنسيين في هذه الدنيا.
العرض السينمائي الأول
ليست السينما في الاسكندرية فقط. لكنها كانت ملمحاً سكندرياً حقيقياً. ففي الاسكندرية تم العرض السينمائي الأول سنة 1896، أي بعد عام واحد على عرض شريط الأخوين لوميير في باريس. وفي الاسكندرية بنيت الاستوديوهات الأولى، قبل القاهرة، ومنها خرج رائد السينما الأول محمد بيومي الذي بنى أول ستوديو سينمائي في القطر. وفي سينمات الاسكندرية كانت دروسي الأولى في الفن والحياة. كنت في الخامسة من عمري حين رأيت باب "الروضة"، وهي تساوي الحضانة اليوم لمن هم دون السادسة من العمر، رأيت باب الروضة مفتوحاً، فمشيت تلقائياً وخرجت ووجدت الشارع واسعاً، فمشيت مسافة قصيرة حتى وجدت ملصقات فوق مدخل السينما، وناس تدخل من الباب فدخلت بين أرجلهم.
لم أعرف أن هناك تذاكر، ولم يسألني أحد عن تذاكر. وجدت الناس تجلس فجلست، أطفئت الأنوار فخفت وانكمشت، وبدأت الصور الأولى من الفيلم تكرّ أمامي وأنا منبهر. كان فيلماً هندياً، وأدهشني الشعاع الساقط من فوقي على الحائط كيف يتحول إلى صور. خرجت من السينما لأجد أمي جالسة أمام باب الروضة تبكي. كانت تعيدني كل يوم الى البيت القريب. وكنت أعرف الطريق، لكنها أمي...
- أين كنت يا إبراهيم؟
- في السينما.
- سينما؟!
ولم تلمني ولم تضربني. لم يحدث ذلك لي أبداً في البيت. ولم تقل لي: لا تعاود ذلك. بقيت تأخذني كل يوم الى الروضة. وتتركني وتعود الى البيت، وأخرج أنا من "الروضة" الى السينما. إلى أن جاء يوم أمسك بي الواقف على الباب، وسألني عن التذكرة، ولم تكن معي. كان ثمنها قرشين، في ذلك الزمن البعيد. انقطعت عن السينما المجانية، ولم انقطع عن حبي لهذا الفن. وعندما دخلت المدرسة الإعدادية في سن الثانية عشرة، صار بإمكاني أن أذكر عناوين مئة فيلم أجنبي وعربي. أسعدتني الأفلام العربية، وأدهشتني الأفلام الأجنبية، وعشقت صوفيا لورين، وأودري هيبورن ومارلين مونرو وبريجيت باردو ووكيم نوفاك وبيرت لانكستر وكيرك دوغلاس وتوني كيرتس وانطوني كوين وغريغوري بيك وجون واين. ويظهر عشق السينما تقريباً في كل أعمالي الروائية.
والأفلام عادة في رواياتي تحدد معنى الزمن الذي عرضت فيه. وهكذا كنت أدور على كل صالات الاسكندرية، فوجدت نفسي كثير الذهاب الى محطة الرمل والمنشية. الى مناطق الارستقراطية في الاسكندرية بحثاً عن الأفلام في سينما كونكورديا والهمبرا وريتس وفريال وماجيستيك، وغيرها من صالات الدرجة الثانية. وفي ما بعد صالات الدرجة الأولى أمير ومترو ورويال وريالتو. نجد ذلك واضحاً في رواية مثل "بيت الياسمين".
وفي السينما عرفت أن الأفلام في معظمها مأخوذة عن روايات، فكانت الأفلام طريقي الى الرواية العالمية. فقرأت غوغول بعد أن شاهدت فيلم تاراس بولبا. وقرأت دستويفسكي بعد أن شاهدت فيلم الأخوة كارامازوف. وقرأت الأدب اليوناني القديم بعد أن شاهدت فيلم "عوليس" و"هيلين الطروادية"، وقرأت ديكنز بعد أن شاهدت "أوليفر تويست"، وهيمنغواي بعد أن شاهدت "وداعاً للسلاح" وهكذا. كنت أشعر أن شارع صفية زغلول الذي فيه أكثر من سينما، هو ملكي، وأن الهواء الذي فيه خلقه الله كي اتنشقه وحدي! هكذا كتبت في "بيت الياسمين" على لسان شجرة محمد علي بطلة الرواية.
هو البحر الذي يقابل المحمودية في الجنوب. في القرن التاسع عشر كان السراة يبنون قصورهم على ترعة المحمودية. في القرن العشرين نقلوها الى الشمال. والأوروبيون، بشكل عام، احتلوا الشمال، ومدوا شريط الترام في منطقة الرمل، وأخذت المحطات أسماءهم: زنانيري، جليمونوبلو، كامب شيزار، سوتر، باكوس، وغيرها. الشمال هو الوجه الكوزموبوليتي للاسكندرية. لذلك كان ألكسندر داريل حين يتركه خلفه ويدخل الى الأحياء الوطنية، العطارين مثلاً، يقول خرجت علينا روائح السمك المقلي والرطوبة، وأطلت علينا الوجوه السوداء. وعلى رغم افتتاني بالشمال، فقد كتبت رواية كبيرة عن الجنوب: غيط العنب، كرموز، محطة مصر، العطارين، بحيرة مريوط، الصحراء الغربية، وغيرها. وما احتواني في الشمال هو شوارعه المنسقة الجميلة، ملاهيه الليلية، شققه المفروشة للطلاب وشارعا تانيس وطيبة.
شارعان كانا مفروشين للهوى والغرام. شقق سكنية نظيفة ورخيصة لطلاب الريف، زمان. وفي الليل تلوذ بها بنات الهوى. وكأي شاب في الجامعة، في كلية الآداب المفعمة بالضوء والهواء والجنون، كان لاپبد لي من خوض حياة هذين الشارعين. تلك قصة قد اكتبها يوماً، وقد بدأت بذلك في قصة قصيرة "سماء زرقاء وبحر من اللازورد". لكن الرواية التي أنشدها عن ذلك المكان، لم يحن وقتها بعد. في هذين الشارعين عرفت طعم الهوى لأول مرة، وصارا مكاني الأثير طيلة أيام الجامعة.
منظومة سرية
تركت أسرتي وعشت مع أصدقائي الغرباء والغريبات. وكان كل من في الشارعين تقريباً يعمل وفق منظومة سرية: البوابون، والمكوجية، وسائقو التاكسي، ولا أحد يتبرم من عمله. وكانت شقق الطلاب مأوى للفقيرات، يلجأن إليها مع بزوغ الصباح لينمن مرهقات قبل أن يستأنفن العمل ليلاً. كانت تجربة كبيرة تلك، صادفت فيها فتيات ونساء في حالة من البؤس الشديد، يعملن تحت سطوة أسياد لا يرحمون ولا يتورعون عن تشويه وجوههن بماء النار إذا خرجن عن مجال نفوذهم. وصادفت حالات من السذاجة الانسانية، كنّ يعشن قصص حب وهمية. وكتبتُ لنساء خطابات غرام لا أعرف لمن كن يرسلنها. ولم تطلعني واحدة منهن أبداً على أي رد.
نفثة السحاب البيضاء
ذلك كله وغيره كان حتى نهاية الستينات، حين تغير وجه المدينة الجميلة، وبدأ يغشاها الكدر والاهمال من كل جانب. جاء الزحام الذي لا نهاية له، ولم يعد يعرف أحد أنها عروس البحر، غير البحر نفسه. البحر الذي ما زالت ممدّدة في حضنه، وما زال يلثمها بأمواجه في الصباح والمساء. أزورها صيفاً، فأنكمش في البيت. وأزورها شتاء، فأردد ما كتبه نجيب محفوظ في "ميرامار": "الاسكندرية قطر الندى ونفثة السحابة البيضاء، يهبط الشعاع المغسول بماء السماء وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع". وأتذكر رحلات "صياد اليمام" بطل روايتي على "الكورنيش في المساء"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.