السفير السعودي لدى سورية: أشكر خادم الحرمين وولي العهد على الثقة الملكية بتعييني    مبابي سعيد بإحراز كأس فرنسا    تين هاج يثني على لاعبي وجماهير مانشستر يونايتد    تايكوندو الشباب تألق وعقد المتأهلين للسوبر اكتمل    استشهاد ثمانية فلسطينيين في قصف إسرائيلي على مدينة رفح    معرض تعاوني للتدريب الثاني.. يخلق فرص وظيفية لآلاف الطلاب    شركة مطوفي حجاج جنوب آسيا توزع بطاقات نُسك على الحجاج    دراسة: مزودي خدمات الاتصالات يثقون بقدرة الذكاء الاصطناعي على رفع كفاءة تشغيل الشبكات بنسبة تتجاوز 40٪    مبادرة طريق مكة بماليزيا.. ابتسامة المكان    مشرفو الحملات الإندونيسية: مبادرة "طريق مكة" طاقات بشرية وفنية سعودية من أجل راحة حجاج بيت الله    القيادة تهنئ رئيس جمهورية غويانا التعاونية بذكرى استقلال بلاده    رحيمي يرد على انتقاله إلى دوري روشن السعودي    القبض على 3 وافدين بتأشيرة زيارة لترويجهم حملات حج وهمية    المشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة يلتقي المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في أوروبا    إصدار التقرير الشهري عن أداء المطارات الداخلية والدولية لشهر أبريل 2024    4 ذو الحجة.. إغلاق التسجيل في خدمة النقل المدرسي للعام الدراسي القادم 1446    جمعية البر بالشرقية تتأهب للتميز الأوربي    "الداخلية" تقيم المعرض المتنقل "لا حج بلا تصريح" بالرياض    أمانة القصيم تركب لوحات قاعة الأمير بدر بن عبدالمحسن    لقاء أمير منطقة حائل مع أكبر خريجة في جامعة حائل يجد تفاعلاً واسعاً    أمير تبوك يرعى حفل تخريج الدفعة الثامنة عشرة لطلاب وطالبات جامعة تبوك.. الأربعاء    الصندوق العقاري يودع 978 مليونًا لمُستفيدي سكني في مايو    رياح نشطة على أجزاء من الشرقية والرياض    إصدار كتاب حول الأحداث البارزة لمنتدى التعاون الصيني- العربي على مدى ال20 عاما    إسرائيل.. استعمارية حاقدة    رئيس وزراء السنغال يلتقي وفد مجلس الشورى في العاصمة دكار    «عيادات دله» تسعى لتقديم خدمات طبية بجودة عالية لأفراد الأسرة وطب الأسرة: رعاية وقائية وعلاجية بالقرب منك    ماكرون واللجنة الوزارية يبحثان التحرك لإيقاف الحرب على غزة    السعودية تفوز باستضافة منتدى الأونكتاد العالمي لسلاسل التوريد لعام 2026    السعودية تختتم مشاركتها في المنتدى العالمي للمياه بحصد جائزة أفضل جناح    أمير تبوك يرعى حفل تكريم خريجي مدارس الملك عبد العزيز    زلزال بقوة 6,3 درجات يضرب قبالة أرخبيل فانواتو    الأهلي المصري يتوج بدوري أبطال إفريقيا    عفوا.. «ميكروفون الحارس يزعجنا» !    «مجرم» يتقمص شخصية عامل نظافة ل20 عاماً    الماء (3)    فلسطين والعالم.. لحظة اختبار تأريخية    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج دورة الضباط الجامعيين    عزى هاتفياً رئيس السلطة بالإنابة في إيران.. ولي العهد وماكرون يبحثان تطوير التعاون ومستجدات غزة    صراع الهبوط يشعل الجولة الأخيرة    رمز الضيافة العربية    عرض فيلم " نورة " في مهرجان كان    أكد حرص القيادة على راحة الحجاج.. أمير الشمالية يتفقّد الخدمات في« جديدة عرعر»    توثيق النجاح    حلقة نقاش عن استعدادات "رئاسة الهيئة" لموسم الحج    يطلق عروسه بسبب لون عينيها    "جامعة الحدود الشمالية" في خدمة الحجيج    واتساب يختبر ميزة لإنشاء صور «بAI»    مبدأ لا حياد عنه    مختصون ينصحون بتجنّب القهوة والشاي قبله ب 3 ساعات.. «النوم الصحي» يعزز الطاقة والتوازن في الحج    تحمي من الأمراض المختلفة.. استشاري: لهذه الأسباب تكمن أهمية «تطعيمات الحج»    الدفاع المدني: تمديد التراخيص متاح عبر «أبشر أعمال»    ضبط مبتز سوري    «سكوبس» العالمية تصنف مجلة «الهندسة» بجامعة الملك خالد ضمن قواعدها العلمية    ولي العهد يعزي محمد مخبر هاتفياً في وفاة رئيسي وعبداللهيان ومرافقيهما    عملية قلب مفتوح تنقذ حياة حاج بنغلاديشي    حضور سعودي في اختتام "كان السينمائي"    أمير تبوك يرعى حفل تكريم مدارس الملك عبدالعزيز النموذجية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا بقي اليوم من طروحات "الحساسية الجديدة"؟. إدوار الخراط ل "الوسط": العالم عندي موضع سؤال دائم والحداثة قلق يتجاوز وعاء اللغة
نشر في الحياة يوم 14 - 10 - 1996

يمزج إدوار الخرّاط بين نشاطه الأدبي ونشاطه النقدي، جاعلاً منهما طرفين متكاملين في معادلة واحدة، أو قطبين متواجهين لممارسة ابداعيّة شاملة. والكاتب المصري الذي رافق بتنظيرة بروز حساسيّة جديدة في الابداع العربي، خرج منذ محاولاته الأولى على المواصفات التقليديّة للسرد، ويبدو اليوم كأنّه يعيد انتاج النصّ نفسه، سعياً إلى مزيد من النقاء والتصفّي. خلال الأسابيع المقبلة يلقي صاحب "ترابها زعفران" في باريس، بدعوة من "معهد العالم العربي"، سلسلة محاضرات بعنوان "اتجاهات الحداثة في فنّ القصّ العربي". وفي المناسبة تنشر "الوسط" حواراً مع الأديب الذي تتداخل في نصّه الثنائيّات، ومع الناقد الذي يتواضع أمام كل عمل يتناوله ماضياً في سجال مستفيض مع مشاغله الوجوديّة والجماليّة.
لا شك في أن إدوار الخراط هو اليوم بين أكثر الروائيين العرب تأثيراً في عملية التحول التي تتحكّم بمسار حركة الرواية العربية الجديدة. فمنذ عمله الأول "حيطان عالية" 1959 أعلن الروائي المصري القطيعة مع الصيغة التقليدية التي استقر عليها السرد العربي الروائي والقصصي. وباستطاعتنا أن نرصد بعضاً من السمات الأساسية لهذه االقطيعة منذ قصصه الأولى.
خلال الخمسينات والستينات كان إدوار الخراط مقلاً في الانتاج الروائي والقصصي، إذ ان ثلاث عشرة سنة تفصل "حيطان عالية" عن "ساعات الكبرياء" 1972. لكنّه بعد "رامة والتنين" التي أحدثت جدلاً كبيراً في النقد العربي، ويمكن اعتبارها الرواية المركزية التي يتفرع منها عمله كله، أصدر حوالي اثني عشر عملاً روائياً وقصصياً.
وإدوار الخراط هو مطلق مفهوم رواية "الحساسية الجديدة" الذي يشمل اتجاهات وأشكال الكتابة الجديدة. وهو رافق هذه الاتجاهات ناقداً ومشجّعاً، ووضع مؤلّفات نقدية، ورصد أشكال الكتابة التي تتقاطع فيها الأنواع الأدبية، وتنفتح بعضها على البعض الآخر. ومن بين كتب الخراط الأساسية في هذا السياق، نشير إلى "الحساسية الجديدة: مقالات في الظاهرة القصصية" 1993، و"الكتابة عبر النوعية: مقالات في ظاهرة "القصة - القصيدة" ونصوص مختارة" 1994.
هكذا نلاحظ أن أثر الخراط لا يكمن في نصوصه الروائية فقط، بل يمتد ليشمل تأثيره في الكتابة النقدية التي تتناول الشعر والقصة والرواية والفن التشكيلي. وفي هذا الحوار الذي تثير فيه "الوسط" بعض الأسئلة الأساسية حول عمل إدوار الخراط السردي، وتنظيره للكتابات الجديدة، يشرح الروائي المصري مفهومه للكتابة، ونظرته إلى موقع تجربته من حركة الرواية العربية المعاصرة.
بين الاشكاليات الأساسية التي يحتفي بها عملك القصصي، انفتاح الأنواع الأدبية على بعضها، فأنت لا تقيّد نفسك بمسألة التصنيف النوعي في الكتابة. هل تظن أن استخدام أشكال أدبية مختلفة في نص واحد مسألة شكلية أساساً، أم انها تتعلق بصيغة التعبير؟
- بطبيعة الحال ليس لدي تلك القصدية الخالصة، ولم أتعمّد عدم التقيد بالحدود الفاصلة بين الاصناف والأجناس الأدبية التقليدية. منذ البداية، خلال كتابة الحلقة الأولى من "حيطان عالية" التي كان مفترضاً أنها قصص قصيرة، وجدت أن كتابتي لم تكن فيها مواصفات القصة القصيرة التقليدية التي كان يُفترض حينذاك أنها شريحة موجزة. لكن نصوصي الأولى اشتملت أيضاً على عناصر غير منفصلة عن النمط المألوف في تلك المرحلة.
ليست المسألة ذهنيّة بالتأكيد. وأظن انها متصلة عندي بمحاولة الوصول إلى شمولية أو كلية الرؤية والحس والخبرة الفنية والحياتية... بحيث لا تعود هناك أحادية لا في النظرة ولا في تلقي صدمة الحياة وانعكاسها على العمل الفني، بل تجاور للمقومات المختلفة للخبرة، حياتية كانت أم فنية، وتمازج وتداغم بينها. والقضيّة لا تقتصر على الحدود الفاصلة بين الاجناس الأدبية من شعر ومسرح وسرد، وسائر فنون القول وغيرها من الفنون كالنحت والموسيقى، الخ. بل أتصور أن هنالك أيضاً نوعاً من التداخل بين الأرضي اليومي والفوقي المتعالي، بين المبتذل والسامي المحلق. فأنت ترى إذاً أن هناك ما يتجاوز الانفتاح بين الأجناس الأدبية، إلى التمازج بين مقومات الحياة نفسها.
سطوة السرد
ألا ترى أن هذا "التداغم" الذي تحدثت عنه بين السامي والأرضي، ينعكس على شخصياتك القصصية؟ شخصية "رامة" في "رامة والتنين" و"الزمن الآخر" مثلاً...
- هذا صحيح طبعاً. هناك أيضاً نزوع إلى دمج الأسطوري والواقعي، دمج التاريخي بما هو غير تاريخي ولا زمني لكن مع الحفاظ طوال الوقت على العينية المتحددة المتجسدة. وهذا يعيدنا إلى ما أشرت إليه قبل قليل من غلبة السردية، في التصوّر على الأقل. فمهما كان التمازج بين الانواع الأدبية، هناك سطوة للسرد أياً كان نوعه. إذ ليس السرد بالضرورة مجرد رواية أحداث أو أفعال، سواء كانت تأتي بتسلسلها الزمني أو تخرق هذا التسلسل. قد يكون السرد أيضاً لتطور انفعالي أو فكري ما، أو قد يتحقق عبر الوصف العيني البصري الحسي للأشياء ولخلجات النفس معاً. هذا الوصف وحده، في ما أتصور، يمكن أن يكون سردياً. أو على الأقل هذا ما أظنّ أنّني أسعى إليه.
لنعد إلى مسألة دمج التاريخي باللاتاريخي. في معظم أعمالك هناك عدم قدرة على تحديد مرجعية للأحداث. هناك غياب للأرضية التاريخية. كأنّنا في نص يعوم على التاريخ. ألا تعتقد أن هذه مشكلة من مشكلات العمل الفني؟ هل هي محاولة متقصدة لتغييب الأرضية التاريخية؟
- هل هناك حقاً محاولة لتغييب التاريخ بهذا التحديد الذي تقول؟ على الرغم من ضرورة تجاوز العنصر الزمني في العمل الفني، أظن أن هناك دائماً تلك المرجعية التاريخية. وهي ليست سافرة، ليست موضوعة سلفاً، ليست في المقدمة، ولا تسعى إلى التأطير. إنها تأتي بشكل أكثر حميمية، أكثر التصاقاً بجسد المادة المبتكرة. هناك تعايش مستمرّ بين التاريخي واللاتاريخي.
ما أطمح للوصول إليه، هو احداث هذا النوع من التضافر بين العنصرين، بحيث يكون هذا التضافر قائماً ربما على التنافر. لكنه في النهاية يؤدي إلى التركيب، من دون أن يؤدي التناقض إلى خلخلة البناء، بل هو يدعم قصد النصّ لا قصد الكاتب. الزمني واللازمني، السامي والمدنس: لا بدّ أن تتجاوز هذه الثنائيّات طبيعتها الأولى لتشكل نوعاً من التداغم البوليفوني، نوعاً من التناشط السيمفوني الذي لا يقوم على نغميّة واحدة، متسقة.
هل تعتقد أن هناك "بوليفونية" أو تعدد أصوات في أعمالك؟ ألا تشعر أن الراوي هو المهيمن على السياق دائماً، بخيالاته وأصواته الداخلية وذكرياته المستعادة وعلاقته بالواقع... بحيث يبدو للقارئ وكأن صوتاً أساسياً واحداً يفترش مساحة النصّ؟
- أرجو أن يكون ذلك عند الحدود الظاهرية. هناك بالفعل تعقداً وتعدداً في الأصوات، وهذا واضح على مستوى اللغة. على سبيل المثال الانتقال من استعمال المنطوق الشعبي بمستوياته المختلفة، إذ أحييت ما هو مهجوراً في اللغة، إلى الأسلوب التقريري والتسجيلي، بأخطائه الاملائية والنحوية أحياناً، وما إلى ذلك من أخبار الصحف... وصولاً إلى ما هو شعري، وغير ذلك من المستويات.
أتفق معك أن الصورة الأحاديّة تبدو مهيمنة في الظاهر. لكن، داخل هذا الصوت الواحد، هناك طبقات عدّة، بين تأمل الذات والتفجع والسخرية. وهناك سعي إلى تقمص للآخر والبحث عنه ومحاورته، من خلال الصوت الطاغي الذي لا يكتفي بذاتيّته حسب النسق الرومنطيقي المعروف. نصّي أردته ساحة للتعدد، أرضيّة للمفارقة والمحاورة.
خارج دائرة الزمن
قلت في البداية إن لديك ميلاً إلى شعرية مخالفة لنظرية الأجناس الأدبية. لكنك كتبت قصصاً عادت فأصبحت جزءاً من نص روائي يوحد بينها صوت الراوي أو الحالة المتتابعة... ما الذي ترمي إليه من خلال دمج قصص كتبت سابقاً في نص روائي؟
- قلت إني أعاود كتابة الخبرة الواحدة مرة وثانية وثالثة إلى النهاية. طبعاً ليس هذا مجرد تكرار، بل فيه ترداد ايقاع، بمعنى انك تجد في رواياتي الأخيرة تناصاً مع نصوص أخرى لي. قد تعثر مثلاً أن بعض ما كتبت في "حيطان عالية" وجد طريقه إلى كتاباتي الأخيرة. أنا نفسي أتساءل أحياناً عن سبب حدوث ذلك! أظنّها ضرورة لم أجد عنها غنى. قد لا تكون حاجة للعودة إلى خبرتي السابقة، بل ربما كان في ذلك ما يشغل عملي الفني كله. مسألة السقوط في الزمنية، الخلود المتوهم المستحيل. مسألة وقوع الماضي والحاضر، وما نظنّه المستقبل، خارج دائرة الزمن.
كأنك تريد اعادة كتابة الأساطير الفرعونية حول فكرة الخلود، من خلال الدمج والتناص بين الاسطورة وبين كتاباتك؟
- ربّما كان ذلك أحد جوانب المسعى الابداعي. لكن سؤالك يثير قضيّة أخرى. لماذا عودة النصوص القديمة؟ لأنها ليست قديمة، لأن فكرة القدم والجدة نفسها سقطت. هذه مقولة لا أقررها نظرياً وعقلياًونقدياً بل أحياها، أجعل النص نفسه يحياها، كأن لحظة واحدة لم تمرّ على ما كتب منذ أربعين عاماً. طبعاً وقوع النص القديم في نسج أو بناء نص جديد، يعطيه بالضرورة دلالة وأبعاداً أخرى مغايرة. فهو لم يعد النص نفسه.
كأنّك إذاً تكتب نصاً واحداً، وتعيد تقليبه بأشكال مختلفة؟
- هل يفعل الكاتب - أي كاتب - غير ذلك، في نهاية الأمر؟ النص واحد، وهو شديد التعدد، شديد التجدد في الوقت نفسه.
لكن نصوصك تتناسل من ذاتها. المسألة واضحة في عملك أكثر من أي روائي عربي آخر.
- هذا صحيح بنسبة ما، لكن كما قال أسخيلوس "لا تقل عن انسان إنه كان سعيداً، حتى يموت". أنتظر ما سيأتي. ففي كتابيّ الأخيرين "اختراقات الهوى والتهلكة" و"رقرقة الأحلام الملحية"، ما قد يتفق مع هذا ويختلف.
تكتب نصاً يغني نفسه باستمرار، ولذلك أريد أن أشير إلى "لا يقينية" السرد في عملك القصصي والروائي. فالراوي يردّد دائماً: "قال لي" أو "قال إنه قال لي"... كأنّه يشكك في الحدث نفسه... هل هي نزعة أفلاطونيّة لديك إلى التفريق بين المثال وتجسّداته؟
- يعكس النصّ لديّ حالة من التساؤل المستمر. أما الاجابة القاطعة فمنتفية. اللايقينية تتأتى من كون الحياة نفسها، والمصير إلخ، من الأسئلة التي لا إجابة قاطعة عنها. طبعاً قد يكون لذلك مبررات اجتماعية، سوسيولوجية وثقافية، في الظروف التي نحياها جميعاً في العالم العربي. أنا لا أنكر هذا العامل، لكنني لا أطمئن إلى سهولته، أو إلى نهائيته. أظن أن المسألة عندي تتجاوز هذا البعد قليلاً: لا أثق برد حاسم على الأسئلة التي تؤرقني، وهذا ينعكس ويتجسد في الشك الذي يعتري العمليّة السردىّة، ويزيد الأحداث تشوشاً وضبابيّة وتعقيداً وتشعّباً... العالم عندي موضع سؤال دائم.
لكن ذلك لا يعني أنني أنطلق من وجود حقائق مثالية، ثابتة، لا يسعنا الوصول إليها. التفرقة الحاسمة بين ما هو قائم في عالم المثال المطلق، وما هو متجسّد في الحياة العادية حسب النظريّة الافلاطونية ليس قائماً في أعمالي على الاطلاق. حتى الأسطورة الفرعونية تتغير وتتحول في النص، كي تدخل فيها عناصر شخصية، ذاتية أو معاصرة. وحتى هذه الثوابت التاريخية القائمة، تبقى لديّ موضع سؤال، وموضع تشكيك.
كيف تستطيع أن تؤالف بين هذه المواد غير المتجانسة، بين الاسطورة الفرعونية، النص الصوفي العربي، التراث السردي العربي، المادة الواقعية المعاد صياغتها سردياً في عملك الروائي والقصصي؟ كيف تستطيع أن تصهر كل هذه العناصر التي يستبطنها منها عملك الروائي؟
- هل استطعت بالفعل؟ بطبيعة الحال أتصور أن هناك عملية دخول في بوتقة يوقدها هذا النص ويصهرها، فيكون التنافر عنصراً من عناصر التناسب، أو هذا ما أرجوه حقاً.
كيف تفسر أن النقاد والقراء لم يستقبلوا تجربتك بحرارة إلا خلال السنوات الأخيرة؟
- ألم يكن هذا طبيعياً ومتوقعاً؟ لا أريد أن أتكلم عن سوسيولوجية أو سيكولوجية التلقي، لكن هناك بالتأكيد ما درجت عليه الذائقة العامة من تلق ينحو إلى تفضيل السهولة واليسر والعمل الذي يقدّم المعادلات المألوفة. لكنّ نمط التلقي الذي تربّى عليه الجمهور، بدأ يشهد انعطافة في الحقبة الأخيرة. هناك تطور ملحوظ على مستوى الذائقة العامة، سمح لدائرة من الناس، آخذة في الاتساع، بتذوّق الأعمال التشكيلية الحداثية، أو الأعمال الموسيقية الكلاسيكية... التي كانت حكراً على نخبة صغيرة قبل عقدين أو ثلاثة. إن تغير البيئة الثقافية يفسّر هذا الاقبال على أعمالي.
"الحساسيّة الجديدة" هل باتت قديمة؟
هذا يدخلنا في مفهوم "الحساسية الجديدة" الذي طرحته، وشاع في النقد العربي المعاصر. كيف يمكن ان تلخص مفهومك للحساسية الجديدة بما تتضمنه من عناصر حداثية، ما بعد حداثية إلخ؟
- من الناحية التاريخية لا أتصوّر أنّني مطلق هذا التعبير، بل سبقني إليه آخرون. لكنني بلا شك تبنّيت ولعلني مضيت شوطاً ما في تحليله وتقصيه وتبين عناصره. تكلمت أكثر مما ينبغي ربما عن هذا المفهوم، لكن يمكن ايجاز هذا المفهوم في بضعة عناصر أساسية، أوّلها الخروج على النمط التقليدي في الرواية، والاستغناء عن التسلسل الزمني المضطرد إذ لم تعد هناك ضرورة للنهاية الحاسمة. الماضي لا يقع بالضرورة قبل الحاضر، فهذا المبدأ يقود حتماً إلى تقنيّات ال "فلاش باك" التي تتسم بكثير من السذاجة والبساطة. هناك أيضاً ارتفاع عناصر ما تحت الواقعية، أو تصاعد المادة الفنيّة من مغاور اللاوعي. ولا بدّ من الوقوف عند مسألة اللغة نفسها: تلك التي كان يفترض أن تكون سلسلة أو سهلة الخ، والمنفتحة اليوم على شتّى أشكال التحوّل، من خلال تفجير سياقاتها التقليدية. كاستخدام الكلمة بدل الجملة، أو اعادة التركيب، أو البحث عن العفويّة والطزاجة والمغامرة في التركيب اللغوي...
وأظن أن هذه التقنيات والرؤى والصياغات أوشكت بدورها على التحوّل إلى قوالب جامدة، وهي في طريقها إلى التحوّل إلى مادة "تاريخية". بعد عقدين أو ثلاثة، أصبحت تراثاً أو تكاد تكون تراثاً. لكن المغامرة قائمة، فمسألة الكتابة عبر النوعية هي اضافة أساسية إلى الحساسية الجديدة: قد تغير من نسيجها، قد تصبح في المستقبل نوعاً من التعديل الأساسي لمنجزات الحساسية الجديدة.
أما مسألة الحداثة فلها عندي، كما تعرف، مفهوم خاص قد لا يشاركني فيه الا القلائل. إن الحداثة عندي لا ترتبط بزمن، الحداثة عندي هي ذلك القلق الذي يستمر في العمل الفني مهما مرت السنوات والعقود والقرون. القلق الذي يتضمن اللايقينية، ويتضمن السؤال المتصل. القلق أي تجاوز وعاء اللغة نفسه، وصولاً إلى ما يكاد يكون "غير لغوي" كما نجد عند الصوفيين، كالنفري وغيره. وكما نجد عند أبي نواس، فليست المتعة عنده حسية فقط، بل انها، مع كل حسيتها، قدسية أو على الأقل غير أرضية من فرط الاستغراف في النشوة بها.
الحداثة إذاً قيمة لازمنية في تصوري، أو توهمي، الخاص. الحساسية الجديدة ظهرت تاريخياً مرتبطة بنقلة اجتماعية، وهي أيضاً مرتبطة بتطور داخلي للمشروع الفني نفسه طبعاً. إنّها تقوم على استنفاد امكانات المشروع السابق، لكنها تتصل بظروف تاريخية وثقافية واجتماعية، الخ.
ألا تظن أن تنظيرك هذا للحساسية الجديدة، مرتبط أساساً، وبشكل عضوي، بتجربتك الأدبيّة؟
- ليس هناك وجود للناقد المحايد، الموضوعي والمتجرد الذي يفترضه السؤال. مهما تزيا الناقد بوشاح الموضوعية والعلمية، لن يسعه أن يكون محايداً تماماً. هناك مسألة أكثر أهمية بالنسبة إليّ، تتعلّق بالتأمل النظري في الظاهرة الأدبية والفنية بشكل عام. وأعتقد أن المسألة غير متصلة بالنقد الانطباعي. لست ضد النقد الانطباعي طبعاً، لكنني أحاول في نقدي الاستناد إلى الأثر الابداعي ذاته. أنا شديد التواضع أمام العمل الذي أنقده، لا أريد أن أفرض عليه شيئاً. لكنني لا أتناول من الأعمال الفنية إلا ما أتجاوب معه. بطبيعة الحال لا أعتبر نفسي ناقداً بالدرجة الأولى، أو "ناقداً محترفاً"، إنما أنا كاتب منخرط في عملية ابداعية متعددة الجوانب، وأحد هذه الجوانب النقد. فالنقد عندي خبرة فنية، كما القصة القصيرة. وإذا كانت الرواية أو القصة القصيرة خبرة حياتية، فإن موضوع النقد هو الخبرة الفنية.
هناك إذاً ترابط وثيق بين التأملات والأفكار والمفاهيم النقدية عندي، وبين عملي الفني نفسه. ترابط وثيق وتجاوبات بلا شك. وحتى عندما أتناول كاتباً يسلك، برأيي، طريقاً آخر مثل نجيب محفوظ، ستجد أن زاوية التناول تتصل بما أحاوله في العمل الفني، من قريب أو من بعيد، كما حدث مع كاتب مثل ابراهيم عبدالقادر المازني. لكنني لا أفرض على العمل الفني شيئاً من حياتي، لا اقحم عليه شيئاً من عندياتي، وانما أتلمس فيه ما قد يتساوق مع تجربتي ونهجي ومشاغلي الفنيّة.
هل يمكن بنظرك الحديث عن ورثة لتجربة إدوار الخراط في العالم العربي؟
- لا أعرف، حقيقةً.
لنطرح السؤال بصيغة أخرى: هل هناك بين الروائيين الجدد من تعدّه قريبين منك؟ ليس بالضرورة من عملك، بل من الروحية والمسعى والمشاغل الفكريّة والجماليّة؟
- دعني أجيب عن السؤال بشكل آخر. هناك روائيون أحبهم وأهوى كتاباتهم، تستهويني أعمالهم. وهم بشكل عام الروائيون والقصاصون والشعراء الذين لا يستنسخون ما سبق، بل يغامرون بالارتماء في خضمّ المجهول. هؤلاء الذين لا يسيرون على الدروب المطروقة التي طالما وطأتها اقدام الآخرين... دعني أذكر بعض الأسماء بسرعة. أحب رواية حيدر حيدر "وليمة لاعشاب البحر". وأحب بعض أعمال الياس خوري الأخيرة، وأيضاً أعمال الياس فركوح، وغيرهم ممن يعتمدون التقنيات المألوفة لكنهم يحملونها بمادة تتناقض أو تتنافر معها.
وفي هذا النوع من القلق بين التقنية المطروقة والطاقة التي تشحن بها ما يثير التشويق. مثلاً محمد برادة في "لعبة النسيان"، وفؤاد التكرلي في "الرجع البعيد" مع أنه يبدو تقليدياً جداً في الظاهر. في مصر كتاب القصة القصيرة هم الأكثر قرباً من حساسيّتي، أفكّر بشبان من نوع منتصر القفاش ومحمود الورداني. طبعاً كتابات بدر الديب مهمة جداً في هذا السياق. هناك أسماء كثيرة طبعاً، لكنّني أعطيت أمثلة للتدليل على المنحى العام.
تعتبر فريال جبوري غزول أنك، في "رامة والتنين"، أدخلت طريقة جديدة في عملية القص، وتدرج هذه الاضافة في تقنيّات الكتابة الروائيّة في العالم. ما الذي تعتقد أنت أن العرب أضافوه إلى الرواية العالميّة؟ هل استطاعت الرواية العربية أن توجد لنفسها مكاناً خارج حدودها؟
- نعم بالتأكيد، إنّما ضمن حدود معيّنة طبعاً. عندما تنظر إلى انجازات الرواية الحديثة، تجد أن بعض الأعمال التي ذكرت تقف، بلا خجل، لتحتلّ مكانها بين تجارب عالميّة. هناك طبعاً مشكلة الترجمة والوصول إلى القارئ، وهذه تتعلق بسوسيولوجيا الأدب ولا تتعلق بالقيمة الأدبية للعمل. أعتقد أن الرواية والقصة القصيرة والشعر الحداثي بلغت، خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة مستوى لا يقل عن مستوى الأعمال المنجزة في الغرب. لكن الترويج للكتاب صناعة غربية خاصة، تتعلق بآليات السوق وليس بالقيمة الأدبية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.