النفط يرتفع.. و"برنت" عند 82.71 دولاراً للبرميل    بايدن سيستخدم "الفيتو" ضد مشروع قانون يلزمه بإرسال الأسلحة لإسرائيل    نتائج النقل الداخلي للمعلمين الخميس.. و3 أيام للاعتراض    سعود بن بندر يثمّن جهود هيئة النقل    1139 مستثمراً بريطانياً في المملكة    أمير القصيم: تطوير القدرات البشرية يحظى بعناية كبيرة من القيادة    أمير تبوك ينوه بجهود القيادة في خدمة ضيوف الرحمن    الاتحاد الأوروبي يوسع العقوبات على إيران    وزير الخارجية: استمرار العدوان الإسرائيلي أضعف مصداقية النظام الدولي    سعود بن نايف: رؤية المملكة أسهمت في تحسين جودة الحياة    خادم الحرمين يرحب بضيوف الرحمن ويوجه بتقديم أجود الخدمات    سفيرة المملكة في واشنطن تلتقي الطلبة المشاركين في آيسف    «الداخلية» و«سدايا» تطلقان جهازاً متنقلاً لإنهاء إجراءات المستفيدين من مبادرة «طريق مكة»    شرف الخدمة    خلق فرص العمل وتدميرها    الأمن والاستقرار    ترأس اجتماع لجنة الحج بالمنطقة.. أمير تبوك يؤكد اهتمام القيادة براحة ضيوف الرحمن    حسام بن سعود يرعى حفل تخريج الدفعة ال 18 من طلاب وطالبات جامعة الباحة    وزارة لتشجيع زيادة المواليد بكوريا الجنوبية    واتساب تطلق تصميماً جديداً    الوجه الآخر لحرب غزة    المجون في دعم كيان صهيون    الاحتراف تحدد مواعيد تسجيل اللاعبين في دوري روشن و"يلو"    المان سيتي يكسر عقدة ملعب توتنهام الجديد وينفرد بصدارة الدوري الإنجليزي    الهلال والنصر.. والممر الشرفي    ريال مدريد يحتفل بلقب الدوري الإسباني بخماسية في شباك ديبورتيفو ألافيس.. وفينيسيوس يُسجل هاتريك    كأس إيطاليا بين خبرة اليوفي وطموح أتالانتا    لجلب صفقات من العيار الثقيل.. النصر يعتزم الاستغناء عن 3 أجانب    في ختام الجولة 32 من دوري" يلو".. الصفا يستقبل الجبلين.. والعدالة في مواجهة العين    رموز رياضة المدينة    نائب أمير مكة يستقبل عدد من اصحاب السمو والمعالي والفضيله    طموحنا عنان السماء    أهمية الاختبارات الوطنية «نافس» !    شرطة الرياض تقبض على مروجي حملات حج وهمية    الهواء داخل السيارة يحتوي مواد كيماوية ضارة    حالة مطرية في معظم المناطق حتى السبت    وزير العدل يبحث مع رئيس المحكمة العليا في أستراليا سُبل تعزيز التعاون    الملك سلمان: خدمة الحرمين ورعاية قاصديهما من أولويات المملكة    بلادنا وتحسين إنتاجية الحبوب والفواكه    أمير تبوك يثمّن إهداء البروفيسور العطوي جامعة تبوك مكتبته الخاصة    انطلاق برنامج الرعاية الأكاديمية ودورة البحث العلمي في تعليم الطائف    ..أنيس منصور الذي عاش في حياتنا 2-1    مكانة بارزة للمملكة في عدد مقاعد «آيسف»    تمكين المواهب وتنشيط القطاع الثقافي في المملكة.. استقبال 2200 مشاركة في مبادرة «إثراء المحتوى»    محتوى الغرابة والفضائح !    ليس لأحد الوصول    الرؤية والتحول التاريخي ( 2 – 4)    «كاوست» تطلق مبادرة المدارس الخضراء    حمام الحرم.. تذكار المعتمرين والحجاج    "طريق مكة"    ( قلبي ) تشارك الهلال الأحمر الاحتفاء باليوم العالمي    الكلام أثناء النوم ليس ضاراً    تأثير العنف المنزلي على الأطفال    مواد كيميائية تسبب السرطان داخل السيارات    5 محاور لأدوات الإعلام السياحي بهيئة الصحفيين بمكة    إسرائيليون متطرفون يطالبون بإعادة احتلال غزة بعد انتهاء الحرب    5.8 مليار لصيانة المساجد خلال 5 سنوات    مستشفى الملك سعود بعنيزة ينهي معاناة"خمسينية" من تشنجات متكررة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجم النجوم يروي ذكرياته لپ"الوسط" . عادل إمام : الارهاب الذي نعيشه كارثة والحل أمام الوطن العربي الديموقراطية 1 من 4
نشر في الحياة يوم 24 - 07 - 1995

عادل امام، فنان المسرح والسينما الذي بات يعرف في مصر بپ"نجم النجوم" فتح قلبه لپ"الوسط" التي التقه في القاهرة، وأسّر لها بالعديد من ذكرياته، وتوقف عند عدد كبير من أفلامه ومسرحياته. تحدث عادل امام عن الطفل الذي كان في أحياء القاهرة الفقيرة، وعن الفتى الذي لم يكن يجرؤ ولو على التفكير بأن يصبح ممثلاً في يوم من الأيام. تحدث عن عصر الستينات الذهبي، وحبه لعبدالناصر، وتصويره السينمائي لمقتل السادات. تحدث عن غرامه الأول الذي انتهى بسقوطه في "البالوعة" وسط ضحكات الحبيبة، واشفاق ابناء الحي الطيبين. وفي خلال حديثه عرج عادل امام على موقفه من السلطة ومن الفساد، ومعركته مع الارهاب الذي يصفه بالكارثة. وقال ان الحل الوحيد الباقي أمام الوطن العربي هو دخول عصر الديموقراطة "بعد ان جربنا كل شيء وفشلنا في كل ما جربناه" حسب تعبيره.
منذ الخمسينات حين تعلق بالتنظيمات اليسارية الى أواسط التسعينات عندما فاز بجائزة أفضل ممثل، راجع عادل إمام تجربته الفنية وعلاقته بجمهوره وتحدث عن التماهي المطلق بينه وبين هذا الجمهور الذي "اشترى لي سيارتي المرسيدس وبيتي ويدفع أقساط أولادي في المدرسة". ولم ينس عادل إمام خلال حديثه ان يقول ويعيد بأن أول ما يجب ان يطمئن اليه، كل يوم، انما هو شباك التذاكر، ويضيف بأن الملايين شاهدت "بخيت وعديله" - فيلمه الأخير - لا يمكن ان تكون على خطأ والنقاد على حق. حوار "الوسط" مع عادل إمام، بكل ما فيه وما له وما عليه، هذا الحوار الصريح والطويل والاستثنائي الذي اختلط فيه حديث الذكريات بالتنظير للفن واستعادة المواقف الطريفة بالتوقف عند أخطر الأمور، ننشر على أربع حلقات، في ما يأتي الأولى منها:
كانت شوارع القاهرة هادئة بعد ظهر ذلك اليوم على غير عادتها، وسيارة التاكسي تعبر الشوارع بهدوء متوجهة بي الى آخر شارع الهرم. فجأة من دون مقدمات، وبعدما نظر السائق الي بطرف عينه، مرات عدة، عبر المرآة، قال لي بكل هدوء: "… ولكن موعد عرض المسرحية لم يحن بعد".
"أي مسرحية"؟ سألته، فأجاب "مسرحية عادل إمام".
"ومن قال لك انني ذاهب لحضور المسرحية"؟
"واضح، أجابني، كل الأخوة العرب الذين آخذهم الى آخر شارع الهرم يريدون ان أوصلهم الى المسرح".
"عندك حق، أنا رايح المسرح ولكن ليس لمشاهدة المسرحية، بل لموعد مع بطلها عادل إمام".
هنا نظر الي السائق بدهشة وسألني متردداً: "لماذا؟ حضرتك صحافي؟"… أومأت برأسي، فيما راح هو يكمل حديثه من دون ان ينتظر جوابي: "والنبي تسلم لنا على الأستاذ عادل. وقل له اننا نحبه كثيراً".
"ولماذا تحبه"؟
- "لماذا؟ هيّ دي عاوزه لماذا؟؟ ده واحد مننا، ده بيقول اللي احنا مش قادرين نقوله". ثم صمت كمن يستجمع أفكاره قبل ان يلقي قنبلته: "أتعرف أيها السيد؟ هل تعرف ان في حياة عادل إمام سراً لا يبوح به لأحد؟".
"وما هو هذا السر؟" سألته مبتسماً. فأجاب من دون ان يبدو عليه أي انزعاج من ابتسامتي "سأقوله لك، لأنك رجل طيب وابن حلال، وحتى تكون على بينة من أمرك في حديثك مع الاستاذ عادل. انا من النوبة ومعروف عندنا في النوبة ان هناك أولياء وسحرة كثيرين يتنبأون بالمستقبل ويفكون البخت. والأستاذ عادل حين كان لا يزال في أول عمله الفني، اكتشف هذا الأمر وذهب الى النوبة حيث عمل له أحد السحرة حجاباً للنجاح لا يزال يحمله الى اليوم وهو المسؤول عن كل النجاح الذي حققه". وصمت السائق لحظات قبل ان يتابع: "قبل سنوات، على أي حال، نشب صراع قوي عندنا حين اكتشف منافس لعادل إمام سر الحجاب، وتوجه الى الساحر نفسه محاولاً اغراءه بفك السحر عن الاستاذ عادل مقابل مبلغ من المال".
بالنسبة الى شعب القاهرة البسيط، خرج عادل إمام منذ زمن بعيد، من دائرة الفن والمجتمع ليدخل دائرة الأسطورة. فالنجاح الهائل الذي يحققه في أي مسرحية يقدمها وفي أي فيلم يقوم ببطولته، لا يمكن ان يعتبر الا من قبيل الخوارق الطبيعية. ولئن كان تحول الفنان من مبدع الى ظاهرة فيه ما فيه من اساءة الى عمل الفنان نفسه والى مسار ابداعه، فإن عادل إمام لا يلتفت كثيراً الى هذا الأمر. فالبنسبة اليه يأتي النجاح "من عند ربنا ومن عند الناس. وكل فنان يمكنه ان ينجح وان يحقق نجاحاً خارقاً اذا أخلص لفنه وجمهوره وكان متواضعاً وصادقاً في عمله". غير ان هذا الكلام الهادئ والمنطقي بالكاد يمكنه ان يخفي حديث الأرقام. ولعل الرقم الأول الذي ينبغي التوقف عنده هنا هو ذاك المكتوب بقلم فحم على مرآة الماكياج في غرفة عادل إمام في المسرح حيث تقدم مسرحية "الزعيم". الرقم هو 3.410.000. وما هو هذا الرقم يا عادل؟ يبتسم: "انه عدد الناس الذين شاهدوا فيلم "بخيت وعديلة" حتى اليوم، في مصر". والحقيقة ان هذا الرقم يأتي ليعزز رقماً آخر كان وصل لتوه من بيروت، حيث خلال أسابيع قليلة من عرض الفيلم نفسه في شتى المناطق اللبنانية، بلغ المدخول الصافي للفيلم أكثر من 300 ألف دولار، وهو رقم يماثل ثلاثة أضعاف أي رقم حققه أي فيلم في لبنان منذ عشرين عاماً.
في السينما ليس ثمة أفلام غير أفلام عادل إمام تضرب الأرقام القياسية، وفي المسرح لا يمكن لأي مسرحية له ان تعرض أقل من ثلاثة مواسم أو أربعة. أما شرائط الكاسيت التي تحقق عنها فتباع بمئات الوف النسخ من طنجة الى البحرين ومن الخرطوم الى حلب ومن تونس الى عمان.
نجم النجوم
اليوم، بعد غياب أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ، يمكن اعتبار عادل إمام الفنان العربي الوحيد الذي يستحق ان يطلق عليه لقب "نجم النجوم" ولكن هذا النجاح لم يكن وليد المصادفة بالطبع. صحيح ان الظاهرة قد تتعدى اطار البحث الفني والتاريخي لتحتاج الى تحليل سوسيولوجي وتحليل ينتمي الى علم النفس الجماعي، غير ان هذا يجب الا ينسينا ان عادل إمام فنان… وفنان حقيقي. وهو يعرف ان الدور الأساسي للفنان هو المشاكسة. ومن هنا فهو مشاكس من طراز رفيع. ومما لا شك فيه ان مشاكسته هذه تعتبر العامل الأول في نجاحه. والغريب ان مشاكسة عادل إمام رغم خطورتها وعنادها تتبدى دائماً أشبه بمشاكسة طفل شقي وعنيد. ومن يرى عادل إمام يقفز على خشبة المسرح سواء أكان ذلك في دور "الزعيم" أو في دور "الواد سيد" أو "بهجت الأباصيري" سيكتشف أمامه ذلك الطفل يلعب كما يحلو له، يزعق كما يحلو له، يشاكس كما يحلو له، وهو يعرف انه في نهاية الأمر سينال ما يريد.
عادل إمام، كيف يمكنك ان تتخيل مشاعر الطفل الذي كنته، لو كان جالساً في الصالة بين متفرجي "الزعيم" يتفرج عليك؟
- لست أدري، ولكني سأروي لك حادثة صغيرة: مرة كنت ماشياً مع عبدالرحيم الزرقاني، الذي كان واحداً من ممثلينا ومخرجينا الكبار. كنت في ذلك الحين لا أزال طالباً في كلية الزراعة وأريد ان أتفق معه على مساعدتنا في مسرحية نريد ان نقدمها في الجامعة. فجأة صادفنا حجر في طريقنا فإذا بالزرقاني يخبطه برجله وكأنه كرة، في حركة طفولية عنيدة. دهشت ونظرت اليه كالمأخوذ فقال لي: "طبعاً تتعجب من حركتي. ربنا ما يحرمني من هذه الطفولة ومن عبث الطفولة من اليوم وحتى أموت". أنا من يومها لم أنس عبارته، ولا أنسى أبداً ان الطفل هو الكائن الوحيد الذي تظل مشاعره صادقة. الأطفال، بشكل عام، عندهم درجة عالية من الحساسية يكرهون ويحبون بشدة وتطرف، ولا يعرفون المجاملة، لأن حساسيتهم بكر وفطرية ونظيفة. ويفرحني انني لا أزال حتى الآن محافظاً على مشاعر الطفولة لدي. أمثل طبيعتي كما يمثل أي طفل. ولا أترك أي مجال لأفكار الآخرين لكي تقودني".
رصدت الآخرين منذ طفولتي
هل تحدثني، اذن، عن الطفل الذي كنته قبل ان تصبح طفلاً كبيراً؟
- كانت طفولتي طفولة عادية وفقيرة. كنت ساكناً في حي خليفة، وهو أحد أحياء الحلمية. وهي كلها مناطق شعبية فيها أصالة الشعب وحساسيته، وفيها الجوامع والحياة الاجتماعية والعزايم والجو الرمضاني الدائم. والجو الروحي هو الجو المسيطر عليها على الدوام. ومن هنا لم يكن غريباً ان تكون تربيتي تربية دينية. والدي كان موظفاً، وكان ورعاً متديناً يحفظ القرآن ويقرأه. وهكذا بين والدي واهتماماته وبين الحياة الشعبية في الحي الذي عشت طفولتي فيه تفتح وعيي ولاوعيي وهذا ما ساعدني كثيراً حين كبرت. حيث ان "حشريتي" كانت تقودني منذ طفولتي الى رصد الحياة في الحي ورصد كل الظواهر مصراً على عدم ترك أية ظاهرة تمر أمامي من دون ان اسجلها في ذاكرتي. وهذا الرصد كله يمكنك ان تلمحه في عملي على كل الشخصيات التي ألعبها اليوم. كانت حياة أسرتنا حياة فقيرة أو بالأحرى أقل من متوسطة. ونحن أساساً "فلاحين" أصلنا من المنصورة. أما أنا فقد ولدت في القاهرة. ومنذ طفولتي أدركت ان أسرتي فقيرة مادياً، غنية بطموحاتها. في أسرتنا كان يمكنك ان تلتقي بعمال وفلاحين كما بدكاترة متخرجين من انكلترا. بشكل ما يمكنك ان تقول اننا نمثل مصر بشتى فئاتها الشعبية. وهذا الواقع عشته ورصدته في طفولتي. في المدرسة كنت شقياً، لكني لم أكن غبياً. كنت عفريتاً…".
ما هي الصورة الأولى التي لا تزال مطبوعة في رأسك حتى الآن من صور طفولتك؟
- "بصراحة؟ صورة "الترامواي". كان الترامواي يمر أمام منزلنا وكنت أنظر اليه دائماً بوصفه الامكانية التي يمكن ان تذهب بي الى البعيد. الى المكان الآخر. الى المجهول. وهكذا، في أول مرة أحسست فيها انني يمكن ان "أتشعبط به تشعبطت ومن يومها تبدلت حياتي تبدلها الأول. فالترامواي أخذني الى وسط البلد. في المرة الأولى لم ينتبه أحد الى ذلك، ثم بالتدريج عرفت الأسرة بالأمر وبدأت المتاعب. وقد يهمك هنا ان أروي لك ان ما كنت أمضي وقتي وأنا أتفرج عليه في وسط البلد كان واجهات السينمات، ذلك العالم الغريب الملون والمتبدل الذي كان يعدني بألف سحر وسحر. على أي حال، بدأت علاقتي مع السينما قبل ذلك، يوم كنت بين السادسة والسابعة من عمري. فلقد لفت نظري حينها بقال بالقرب من بيتنا يعلق أمام دكانه "ستاند" يحمل دعاية لسينما من سينمات الأحياء. وكان الاعلان على الستاند يتغير مرة كل أسبوع وكنت أشعر ان في المسألة سحراً وأسأل نفسي، ما هذا؟ ماذا يوجد خلف الاعلان؟ أي عالم مسحور ينتظرني هناك؟ لكن الفرصة لم تتح لي لدخول ذلك العالم الا بعد ذلك. اذ خلال الاجازات - التي وحدها كان يمكن ان تعطيني ما يكفي من الوقت لدخول السينما - كان والدي يأخذنا الى الريف، الى حيث منابعنا وجذورنا. فكنت أقضي الاجازة في الريف الذي أثر في حياتي تأثيراً كبيراً يضاهي تأثير الأحياء الشعبية. ولعلك تلاحظ اليوم انني حين أؤدي دور شخصية ريفية في فيلم من أفلامي، لا اضطر الى بذل مجهود كبير، خصوصاً في مجال تأدية اللهجة الريفية. لقد علمني الريف أشياء كثيرة ببكارته، بعاداته، بحزنه بفرحه، بتقاليده بتكاتف ابنائه وتلاطمهم. كنت طفلاً مشاكساً وكنت أسجل كل ذلك داخل وعيي وداخل لا وعيي. ومن هنا تشابكت علاقات المدينة بالريف في طفولتي. وهذه العلاقات اكسبتني حساسية مفرطة. فكنت أحب وأنا ما زلت صغيراً جداً".
غراميات مدهشة وعجيبة
تحب ماذا؟
- "أحب أي شيء. كنت عاطفياً جداً، وحساساً أكثر من اللازم".
هنا يصمت عادل يستجمع أفكاره ثم يبتسم ويروي كيف انه في طفولته لم يعرف سوى أشد الفواجع الغرامية إيلاماً. ومن هذه الفواجع حكاية "لقائه" الغرامي الأول حين كان مبهوراً بفتاة في الحي خيّل اليه يوماً انها تشير اليه لتواعده، فارتدى أجمل ما عنده وصفف شعره ورش نفسه بكل ما في البيت من عطور "ثم انطلقت الى الشارع مصفراً وأنا أشعر انني أكاد أطير فرحاً وسعادة، وصوت تغريد العصافير يداعب اذني، ثم أبصرتها في نافذة بيتها، وبدأت فوراً الحركات والابتسامات والاشارات. وخيل لي انها تبادلني الاشارات نفسها، ثم فجأة شعرت ان الأرض تهوي وتهوي تحت قدمي وأظلمت الدنيا تماماً أو كادت واختفى عبير الكولونيا لتحل محله رائحة بشعة اذ عندها تبينت الأمر، وأفقت على بعض رجال الحي الطيبين يتحلقون من حولي: اكتشفت اني سقطت في بالوعة، ورأيت فتاة الأحلام مسخسخة من الضحك في شرفتها وكانت نهاية عجيبة لحكاية غرام…".
لدى عادل إمام عشرات من أنواع حكايات الغرام هذه، وهو يبتسم ويقول: "لقد كانت كل حكايات الغرام عندي مدهشة وعجيبة، من هنا لم يكن غريباً ان تكون معظم حكايات الغرام في أفلامي من النوع نفسه".
اذن، نعود الى السينما، بعد انبهارك بواجهات السينما وباعلاناتها. متى كانت المرة الأولى التي احسست فيها ان بإمكانك ان تدخل ما وراء الواجهة والاعلان أي الى داخل الصالة؟
- اذكر هذا كما لو انه حدث في الأمس. ذات يوم، وكنت في الثامنة كما أعتقد، مررت مع أمي وصديقة لها بالقرب من دار السينما في لحظة دخول الناس. فأذهلني الجو، والاحتفال والزحمة وخيل الي ان هناك عيداً استثنائياً، فأردت الدخول وأصريت عليه، لكن أمي كانت مشغولة فمنعتني واشتد الجدال بيننا، وكانت النتيجة علقة ساخنة من ناحية. وادراكي من ناحية ثانية ان هناك وراء عالم الواجهات والصور عالماً يمكن دخوله، ويدخله أناس من لحم ودم.
بكل هدوء يشبه عادل إمام بيت اسرته في ذلك الحين ببيت أسرة السيد أحمد عبدالجواد كما صوره نجيب محفوظ في "الثلاثية": القيم نفسها التراتبية نفسها والصرامة الأخلاقية ذاتها. وهو يرى في شخصية "كمال" في الثلاثية شبهاً ما بشخصيته التي كانت في ذلك الحين. فهو منذ وعي على الحياة وجد نفسه تواقاً الى الثقافة والقراءة ومجادلة والده في العديد من الشؤون. لكن عادل إمام لا يتذكر اليوم تماماً متى بدأ يقرأ للمرة الأولى.
- "لست أدري، في الحقيقة، متى بدأت أول قراءاتي. لكني أذكر ان الجو في حي الحلمية الذي انتقلنا الى وسطه تماماً مع انتقالي الى الصفوف الثانوية كان جواً وطنياً ينهل من العلم والمعرفة. وكانت تلك مرحلة الخمسينات التي كانت، والستينات، من أزهى عصور الانتعاش الثقافي في مصر. في مناخ المدرسة، وبين الرفاق وبتأثير من الجو الوطني العام أحسست ان حب القراءة صار طبيعة في داخلي. وكانت الصحيفة والمجلة أول شيء طالعني، قليلاً في البيت، ولكن خصوصاً عند الحلاق. فأنا كنت لا أحب الحلاقة، كنت أنتهز أية فرصة للذهاب الى دكان الحلاقة والتهام ما عنده من مجلات وصحف. بعد ذلك اكتشفت روايات ارسين لوبين وبعض كتب الجنس البدائىة، ثم روايات جرجي زيدان. في تلك الأيام بالذات بدأ ولعي بكتب التاريخ، وهو ولع لا يزال قائماً حتى اليوم. في ذلك الحين، أذكر انني ما ان كنت أتسلم الكتب المدرسية حتى آخذ كتاب التاريخ وأقرأه كله في ليلة واحدة. وظل حب القراءة يرافقني طوال سنوات الثانوية حتى رحت أقرأ روايات الأدب العالمي. ثم في كلية الزراعة حيث بدأت أهوى المسرح ورحت أقرأ المسرحيات العالمية وخصوصاً مسرحيات هنريك ابسن وتشيكوف وآرثر ميلر، اضافة الى كتب النقد والتاريخ المسرحي التي كان يضعها دريني خشبة ومحمد مندور".
التمثيل لم يخطر في بالي أبداً
ترى، هل تواكبت قراءاتك المسرحية مع رغبة بدأت لديك بأن تصبح ممثلاً؟
- أبداً… أبداً. لا رغبة ولا خطة. في ذلك الحين لم يكن ليخيل الي أبداً ان عادل محمد إمام يمكن ان يصبح ممثلاً. كانت هوايتي نظرية وحسب. بل أقول لك انني حتى اليوم لا أشعر انني أخطط لكي أحترف التمثيل. فالتمثيل لدي بدأ هواية مثل هواية جمع الطوابع أو عزف البيانو. الغريب انني، ومن دون ان أعي ذلك، احترفت هوايتي وسارت الأمور هكذا من تلقائها.
… ولم يخطر في بالك أبداً انك سوف تصبح نجماً ذات يوم…
- ابداً. لم يخطر هذا في بالي. لم أختر الفن. بل يمكنك ان تقول ان الفن هو الذي اختارني. وربما كانت حياتي الفنية كلها تختصر بكلمة واحدة: الموهبة. فأنا انسان لا أملك سوى موهبتي وحبي للفن. لم أصبح فناناً بالكارت أو بالواسطة بل عبر حبي للفن. والحقيقة انك ان احببت الفن سيحبك الف مرة أكثر. عندما تحب مهنتك مهما كانت ستحبك مهنتك الف مرة أكثر…".
أتحاول اقناعي بأن الموهبة وحب الفن يكفيان وحدهما؟ اذن فماذا عن عشرات الناس الموهوبين والذين أحبوا الفن من دون ان ينالوا عشر النجاح الذي كان من نصيبك؟
- "أعطني أمثالاً على هؤلاء الذين تتحدث عنهم…".
لقد اشترطت علي منذ البداية الا تورد أسماء كثيرة في حديثنا… لذلك لن أعطيك أمثالاً…
- يضحك… "حسناً، سأقول لك ان هناك أساساً آخر فحواه ان تعرف كيف تدير نفسك، وكيف تمتلك بشكل خاص قوة الرفض. انا أعرف كيف أقول لا. في أحيان كثيرة أكون مفلساً، فيأتيني سيناريو لا استسيغه، فأقاوم وأقول لا. قوة الرفض أساسية وهي تختلف بين شخص وآخر…".
هل قوة الرفض هذه هي التي قادتك، في شبابك، وفي سنوات الجامعة تحديداً الى العمل حيناً مع اليسار المتطرف، وحيناً مع جماعات اخوانية؟
- "ربما، فأنا منذ طفولتي أكره الظلم وأبحث عن سبل لتغيير المجتمع وفي ذلك الحين كان التطرف واحداً من تلك السبل. فكنت أبحث عن الثورة في صفوف اليسار أو غيره. صحيح انني قلت مرة ان علقة من أبي وضعت حداً لذلك حين بدأت أجهزة الدولة أيام عبدالناصر تعتقل الشيوعيين، واكتشف ابي بين كتبي كتباً لكارل ماركس وأخرى عن الثورة الصينية. ولكني أود ان أصارحك هنا بأن مؤرخنا المصري الشهير عبدالرحمن الجبرتي ربما يكون لعب دوراً أهم في توعيتي. فالجربتي رغم عدائه للاستعمار وللفرنسيين لم يفته ان يذكر محاسن وجودهم وان يلفت الى حجم الاضافة الحضارية التي أضافتها حملتهم الى حياتنا المصرية. كان أسلوبه في الوصف غريباً وعينه ناقدة. واذكر هنا فقط اعجابه الكبير بالفرنسيين حين كانوا يحاكمون سليمان الحلبي قاتل كليبر فأتوا له بمحامين يدافعون عنه. كان ذلك شيئاً جديداً لم يفت الجبرتي الحديث عنه رغم عدائه للمستعمر. لقد علمني موقف الجبرتي هذا ان أنظر الى الأمور بمنطق عقلاني متفحص قبل ان أحكم عليها".
ضد مواصفات الوسامة التقليدية
بين اهتماماته بالثقافة العامة وبالتاريخ، وسط بيئة شعبية كانت بدأت انفتاحها على عالم الأفكار أواخر سنوات الخمسين، سارت حياة عادل إمام وهو لم يكن ليخيل اليه أبداً انه سيتحول ليصبح ممثلاً ذات يوم. كان يريد في الأصل ان يكون مهندساً زراعياً يساهم في نهضة الريف. غير ان انضمامه في الجامعة، الى فرق التمثيل حرف وعيه في اتجاهات جديدة، وبدأ يحن الى حنينه القديم الى صالات السينما. وهو كان في ذلك الحين أضحى هاوياً دائماً لمشاهدة العروض السينمائية. غير انه كلما كان يشاهد مزيداً من الأفلام، كان يزداد اعتقاداً بأن هذا العالم لم يخلق له. لماذا؟ لأن عادل إمام كان منذ طفولته ذا شخصية محورية، لا يرضى بأن يكون له الدور الثانوي في أي شيء. ولأن سماته الخارجية لم تكن تتلاءم مع السمات المطلوبة للنجم الأول في السينما المصرية، كان من المستحيل عليه ان يعتقد انه سيواكب ذلك التغيير الذي سيطرأ على ذهنيات المتفرجين. فإذا كانت الدكتورة نهاد صليحة تقول في تحليل ذكي وواعي لشخصية عادل إمام ان "الطاقة النفسية والروحية الهائلة التي يتمتع بها بصورة خاصة، تتجلى في جاذبيته العارمة التي جعلته يغير تماماً من الملامح التقليدية لصورة فتى الأحلام، أو الفن الأول على الشاشة. وعلى خشبة المسرح، رغم افتقاره الواضح الى أي من المواصفات التقليدية للوسامة، ورغم بنيته الجسدية النحيلة وصدره النافر الذي يجعله أشبه بعصفور يتأهب للغناء" اذا كانت الدكتورة صليحة تقول هذا، فإن الثورة الذهنية التي عادت وطرأت على السينما والفنون عامة في مصر والعالم العربي جعلت نجومية عادل إمام ليست ممكنة وحسب، بل ضرورية وحتمية أيضاً.
ولكن عادل إمام الجامعي، المحتار بين العمل السياسي ورغبات والده وضرورة المساهمة في انقاذ الريف، وقراءاته التي جعلته مثقفاً حقيقياً، كان لا يزال خارج اطار تلك الثورة، بل انه حين أتيح له ان يلعب أدواره المسرحية الأولى، لم يكن ليخيل اليه، ولو للحظة، ان تلك الأدوار ستقوده الى عالم السحر، ليصبح أحد سادته الرئيسيين.
الحلقة الثانية
الأسبوع المقبل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.