الجيش الأمريكي: الحوثيون أطلقوا صواريخ وطائرات مسيرة    الأخضر يواصل استعداداته لمواجهتي باكستان والأردن    ولي العهد يتوج فريق الهلال بكأس خادم الحرمين الشريفين للموسم الرياضي 2023 – 2024    الإعلان عن إطلاق معرض جدة للتصميم الداخلي والأثاث    مدينة الحجاج "بحالة عمار" تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    الاتحاد الأوروبي يرحب بمقترح "واقعي" لوقف النار في غزة    الأمم المتحدة تحذر من خطر تعرض ملايين السودانيين للمجاعة    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    أسعار النفط تتراجع قبيل اجتماع "أوبك+"    200 دولة في العالم و66 قناة تلفزيونية نقلت نهائي كأس الملك    جمعية لياقة تستقبل وفد سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بعرعر    سفير المملكة لدى اليابان: العلاقات السعودية اليابانية خلال السبعين السنة القادمة ستكون أكثر أهمية    جامعة الطائف تقفز 300 مرتبة في تصنيف RUR العالمي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يطلق خدمة (المرشد التوعوي الرقمي)    استقبال الحجاج عبر منفذ البطحاء بالمنطقة الشرقية    انجاز جديد لميتروفيتش بعد هدفه في كأس الملك    بمتابعة وإشراف أمير تبوك.. مدينة الحجاج ب«حالة عمار» تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    ركلات الترجيح تمنح الهلال لقب كأس الملك على حساب النصر    بونو يُبكّي رونالدو بْزَّاف    موعد مباراة ريال مدريد وبورسيا دورتموند اليوم في نهائي دوري أبطال أوروبا    "أرامكو" ضمن أكثر 100 شركة تأثيراً في العالم    رصد 8.9 ألف إعلان عقاري مخالف بمايو    تدريب 45 شاباً وفتاة على الحِرَف التراثية بالقطيف    الإبراهيم يبحث بإيطاليا فرص الاستثمار بالمملكة    "كروم" يتيح التصفح بطريقة صورة داخل صورة    ضبط مقيمين من الجنسية المصرية بمكة لترويجهما حملة حج وهمية بغرض النصب والاحتيال    اختتام ناجح للمعرض السعودي الدولي لمستلزمات الإعاقة والتأهيل 2024    ثانوية «ابن حزم» تحتفل بخريجيها    ترمب: محاكمتي في نيويورك «الأكثر جنوناً»    ضبط مواطنين في حائل لترويجهما مادة الحشيش المخدر وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بزيارة تفقدية    مشرف «سلمان للإغاثة»: 129 مليار دولار حجم المساعدات السعودية ل169 دولة في 28 عاماً    وكيل إمارة حائل يرأس اجتماع متابعة مكافحة سوسة النخيل الحمراء    خلافات أمريكية - صينية حول تايوان    «الجمارك»: إحباط تهريب 6.51 مليون حبة كبتاغون في منفذ البطحاء    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والنبوي    رياح مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    5 مبتعثات يتميّزن علمياً بجامعات النخبة    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    "سامسونغ" تستعد لطرح أول خاتم ذكي    ترقية 1699 فرداً من منسوبي "الجوازات"    المملكة ضيف شرف معرض بكين للكتاب    توجيه أئمة الحرمين بتقليل التلاوة ب"الحج"    أطعمة تساعدك على تأخير شيخوخة الدماغ    الرياضة المسائية أفضل صحياً لمرضى للسمنة    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    الخريف لمبتعثي هولندا: تنمية القدرات البشرية لمواكبة وظائف المستقبل    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    «الدراسات الأدبية» من التقويم المستمر إلى الاختبار النهائي !    كيف تصبح زراعة الشوكولاتة داعمة للاستدامة ؟    5 أطعمة غنية بالكربوهيدرات    المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    كيف نحقق السعادة ؟    المعنى في «بطن» الكاتب !    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في دورته السادسة عشرة أعطى ذهبياته لفيلم صيني ومخرج أميركي ومنتج ألماني . مهرجان القاهرة السينمائي يكشف عمق الازمة في السينما المصرية
نشر في الحياة يوم 21 - 12 - 1992

بعد اسبوعين من الترقب والتوتر والصراعات والشائعات والخوف والانتقادات، والعروض التي كشفت عن الكيفية التي تنظر بها السينما الى عالم اليوم، عالم ما بعد الحرب الباردة، انهى مهرجان القاهرة السينمائي اعمال دورته السادسة عشرة، بالاعلان عن نتائج المسابقة الرسمية، التي اعطت جوائزها الاولى لفيلم صيني وثان من المانيا وثالث من الدانمارك ورابع من الولايات المتحدة، في الوقت الذي فاز فيه الفيلم المصري الشفاف "ليه يا بنفسج؟" للمخرج الشاب رضوان الكاشف بجائزة الهرم الفضي. هنا جولة في عالم المهرجان وعالم القاهرة.
ساعة كاملة التي يستغرقها اجتياز المسافة، يوميا مرتين، بين الفندق الضخم الذي يقيم فيه ضيوف مهرجان القاهرة السينمائي، وقصر المؤتمرات، حيث تقدم عروض المهرجان الرئيسية وتقام الندوات واللقاءات، تلك الساعة كانت على اي حال فرصة ذهبية مكنت الضيوف من التفرج على القاهرة من اعلى: من فوق الجسور المعلقة الكثيرة التي تجتازها باصات الضيوف وتتقدمها، في معظم الاحيان، سيارات الشرطة مطلقة زماميرها لفتح الطريق. لكن الطريق عصية على الفتح دائما.. كما ان منظر السيارات الرسمية البوليسية يدفع الكثير من الفضوليين الى الحملقة في ركاب الباصات: بعضهم باشمئزاز وخوف والبعض الآخر بشيء من الامل.
الخوف لأن المواطن العادي البسيط بدأ يربط اخيراً بين وجود السائحين من ناحية، وتصاعد ارهاب المتطرفين من ناحية اخرى. والامل، لان قطاعات عمل كثيرة في القاهرة، وغيرها بدأت تتضرر من جراء تخلف السياح عن الحضور. ومن الطبيعي ان يكون باص فيه عدد من الاجانب مؤشراً للخوف وللامل في الوقت نفسه. وتلك هي السمة الاولى التي يلاحظها زائر القاهرة الغريب في هذه الايام. ولا سيما اذا نظر اليها من اعلى الجسور المعلقة.
مثل حال الجسور، كل شيء معلق في القاهرة: السياحة، والنشاطات الاجتماعية، والآمال العريضة، ومشاريع الانتاج السينمائي.
كل شيء معلق، لكن الزحام على عهده… والحكايات الصغيرة والمشاكل والصراعات على عهدها… فالقاهرة هي في المقام الاول مدينة زحام، وحكايات وصراعات… ومهرجان القاهرة السينمائي كان، بشكل من الاشكال، انعكاساً للقاهرة كلها في هذا المجال: زحام افلام، وزحام عروض وندوات، وزحام متفرجين وحكايات عديدة يطالعك بها الاصدقاء حال وصولك: حكاية محمد خان وفيلمه الجديد "الغرقانة"، وحكاية الحملات التي تشنها بعض النجمات القديمات ضد النجمات الصاعدات، وحكاية ايام يحيى حقي الاخيرة، ناهيك عن عشرات الحكايات السياسية التي تخبئ كل منها واقعاً صغيراً، او متفجراً… حكايات حكايات وزحام لا ينتهي. ولكن هل يمكن للقاهرة ان تكون هي هي القاهرة من دون هذه التفاصيل الصغيرة؟
مما لا شك فيه ان عقد مؤتمر القاهرة السينمائي في هذا العام كان درساً في الشجاعة. ففي وسط الكآبة العامة التي خلفها الزلزال وضحاياه وانكشاف مبان عديدة من جراء ذلك على انها ليست اكثر من مبان من ورق، ووسط تفاقم الازمات المعيشية التي تحيل القاهرة الى واحدة من اغرب مدن العالم كله، وسط هذا كله كان ثمة من يعتقد بأنه سيكون من المستحيل للمهرجان ان يقوم.. وكانت جملة المشاكل الاخرى التي اعترضت سبيله مثل حكاية الافلام الايرانية، وحكاية فيلمي الافتتاح والاختتام، اضافة الى التهديدات الصريحة التي تلقاها مسؤولو المهرجان من المتطرفين بنسفه ان اقيم، كانت كافية في حد ذاتها للتغاضي عنه هذه الايام.
غير ان شجاعة القائمين على المهرجان، وفي مقدمتهم وزير الثقافة فاروق حسني، ورئيس المهرجان سعد الدين وهبه، كانت اكبر من العقبات، فعقدت دورة المهرجان الجديدة، والتقى السينمائيون مرة اخرى من حول كم هائل من العروض التي يكفي استعراض عناوينها للتيقن من ان مهرجان القاهرة اكد مرة اخرى على انه وفي المقام الاول، يكاد يكون استعراضا بانوراميا للانتاج العالمي.. فالحال ان عشرات الافلام المعروضة والآتية من شتى انحاء العالم تعطي المتفرج المصري - في هذه المناسبة - صورة ما، للمشهد السينمائي العالمي.
تكريم يحيى حقي
تضمن برنامج هذا العام على العديد من التظاهرات: المسابقة الرسمية بالطبع، ثم العروض خارج المسابقة، وتكريم ليلى مراد ويحيى حقي وماجدة، وايليا كازان، وسينما كاتالونيا في اسبانيا، والسينما البولندية، كما اصدر كتباً عدة هامة للمناسبة.
لكن الحدث الاكبر يبقى بالطبع تكريم الكاتب الكبير يحيى حقي، الذي رحل خلال الايام الاخيرة للمهرجان، بعدما وقع في غيبوبة طويلة.. وهز رحيله الكثيرين من الذين عرفوا يحيى حقي روائياً وقصاصاً، وناقداً ومفكراً وديبلوماسياً، اضافة الى كونه ناقداً سينمائياً.. وكانت عروض المهرجان تضمنت فيلمين حققا عن قصتين ليحيى حقي: "قنديل ام هاشم" لكمال عطية و"البوسطجي" لحسين كمال.
راحل آخر خلال ايام المهرجان هو الفنان صلاح قابيل، الذي اثار رحيله المفاجئ مناخا من الاسى والحزن في اوساط الفنانين المصريين والعرب الآخرين، الذين عرفوا صلاح قابيل ممثلاً متميزاً، ذا اخلاق نادرة وحس وطني لا يضاهى.
من فيلم الافتتاح "اللاعب" للمخرج الاميركي روبرت ألتمان، الى فيلم "الغرقانة" لمحمد خان، الذي تم الاتفاق في اللحظات الاخيرة فقط على عرضه، بعد ان ثارت بسببه اشكالات كبيرة، عرضت خلال المهرجان افلام عدة ملفتة، وان يكن الجديد منها قليلاً. في هذا الاطار أفليس من الامور ذات الدلالة ان يفتتح مهرجان القاهرة - عاصمة السينما العربية - بفيلم آلتمان الذي يدين اساليب العمل في هوليوود - عاصمة السينما الاميركية؟
ولكن هذا يدفعنا الى التساؤل: ترى ما الذي بقي حقاً من سينما القاهرة؟ فالحال انه اذا كان ثمة من كلمة يمكن بها ان نصف الحالة السينمائية في القاهرة، فالكلمة الاكثر ملاءمة ستكون كلمة "أزمة". اجل، للمرة الاولى تعيش السينما المصرية ازمة حقيقية. فالانتاج يتقلص، والتنافس بين النجوم والنجوم، والمخرجين والمخرجين على أشده، واختراع الشائعات تتضاعف عدداً… كل واحد يريد ان ينهش الآخر. ويتساءل المتسائل: ترى ما هو مستقبل "سينمانا"؟ الاسواق الداخلية لم تعد قادرة على الاستيعاب… والاسواق الخارجية مضروبة. والمنتجون القلائل يعدون للمئة قبل الاقدام على اي مشروع جديد… هذا في الوقت الذي يجلس الكلاسيكيون جانباً يراقبون ويضجرون، ويأتي اصحاب السينما السائدة الذين كانوا يشكلون الطليعة الرافضة لسنوات قليلة ليحققوا اي شيء طالما يتصورون انه يلائم ذهنية السوق. ويغوص ابناء الاجيال الجديدة في احلام لا يجرؤون حتى على ولوجها.
وبعدين؟ يتساءل الناقد الصديق.
وتأتي الاجابة من داخل التظاهرة الرسمية: المسابقة. ففيها وللمرة الاولى فيلمان مصريان هما العملان الاولان لصاحبيهما: "ليه يا ينفسج" لرضوان الكاشف، و"الحب في الثلاجة" لسعيد حامد. الاول مصري اصيل رغم ان منتجه وموزعه فلسطينيان، والثاني اكثر تنوعاً، وهو الآخر من انتاج فلسطيني واخراج سوداني مقيم في القاهرة.
منذ اللحظة التي عرض فيها "ليه يا بنفسج" توقع الكثيرون له ان يكون الفيلم الفائز باحدى الجوائز الرئيسية… وبالفعل لم تخب لجنة التحكيم توقع الجميع، اذ انتهى بها الامر الى منحه جائزتها الخاصة الهرم الفضي متوجة بهذا، جهداً فنياً ابداعياً ملفتاً قام به الفنان الشاب رضوان الكاشف في فيلمه الاول هذا. وهو فيلم يغوص في ثنايا الحارة المصرية على غرار "الكيت كات" لداود عبدالسيد من خلال حكاية ثلاثة حرافيش من شبان مصر اليوم، الذين يعيشون يومهم وهم يحلمون بالخروج الى عالم الرفاه، على طريقة صديقهم علي بوبي، الذي سبقهم فحقق من الثراء ما زاد من حدة احلامهم. ولكن في النهاية يعود علي مضرجاً بدمائه، وتحبط الاحلام وتنتهي احداث هذا الفيلم الشاعري الشفاف الذي اثبت فيه رضوان الكاشف انه مخرج واعد حقاً، رغم بعض التفكك في السيناريو، ورغم انفلاش ايقاع الفيلم. لقد أتى "ليه يا بنفسج" كواحدة من اجمل مفاجآت مهرجان القاهرة، وكان النجاح النقدي والجماهيري الذي حققه في عروضه المهرجانية، خير عزاء لمنتجته مي سحال الذي خاضت المغامرة بشجاعة وسط الخوف العام في عالم السينما.
جديد من مصر
مغامرة حسين الفلافي انتاجه لپ"الحب في الثلاجة" لم تقل شجاعة. فهو بدوره فيلم لمخرج شاب يخوض هنا تجربته الاولى… ولكن لئن كان فيلم رضوان الكاشف أسفر عن عمل كبير، فان فيلم سعيد حامد تبدى في نهاية الامر فيلماً يخون رغبات مبدعه، على رغم الفكرة الرائعة التي انطلق منها: شاب في مصر اليوم، يريد ان يتزوج ويعيش حياته العادية، لكن الامور معقدة: فالشقق غير متوفرة والمرتبات جامدة… وكل شيء مؤجل ومعلق. وهو كلما سأل احداً عن الحل أتاه الجواب، ليس قبل العام ألفين. فما العمل؟ ببساطة عليه ان ينتظر. وهو حين يرى على شاشة التلفزة عالماً يتحدث عن نجاح الاميركيين في تجميد انسان بعد موته، داخل قالب ثلجي وبعثه الى الحياة، يقرر ان يلتجىء الى براد كبير، لن يخرج منه قبل العام الفين ريثما تكون كل المشاكل حلت. هذه الفكرة الجيدة والطريفة، حملت الفيلم خلال نصف الساعة الاولى منه، حيث اشتغل سعيد حامد على سيناريو ماهر عواد باتقان فكنا امام وعد بفيلم متميز، ولكن فجأة، ما ان دخل يحيى الفخراني بطل الفيلم الى الثلاجة حتى راحت مشاهد الفيلم تتعقد وأخذت مشاهد الاستعراض والتهريج تتتالى مما افقد الفيلم تسلسله ليعود ويستقر خلال الثلث الساعة الأخير منه.
اذا كان فيلم "ليه يا بنفسج" ينتمي الى عالم "الكيت كات" وأدب الستينات في مصر عوالم يحيى الطاهر عبدالله ومحمد البساطي وابراهيم اصلان واضحة فيه، فان "الحب في الثلاجة" ينتمي الى عالم الفانتازيا الذي تميز به شريف عرفه في بعض افلامه… وليس ثمة صدفة في الامر، حيث ان كاتب سيناريو سعيد حامد، هو هو كاتب سيناريو افلام شريف عرفه الرئيسية، كما ان سعيد حامد عمل مساعداً مع عرفه في عدد من افلامه.
ومن هنا الحديث عن بداية تكون تياراً جديداً في السينما المصرية، هو التيار التالي لما كان يسمى - وهي تسمية ليست دقيقة على اي حال - بپ"تيار الواقعية الجديدة"، والتيار الجديد هو تيار "ما - بعد - الحداثة" بمعنى من المعاني، تهيمن عليه مناخات شاعرية وفانتازية وهذيانية تعكس، في قليل او كثير، بعض عالم اليوم في قاهرة المعز.
فيلم الختام
فانتازيا، ولكن من نوع آخر هي التي تهيمن على فيلم محمد خان الجديد "الغرقانة" الذي يغوص في عالم متأرجح بين الواقع والخيال، بين الاسطورة والحياة المعاشة، من خلال قصة تدور عند النقطة التي تلتقي عندها الصحراء بالبحر الاحمر، في معسكر للبدو.
فيلم الختام هذا، كان أثار الكثير من المشاكل بين مخرجه الذي رفض عرضه لأنه يريد المشاركة به في احد المهرجانات الأوروبية التي سترفضه لو كان معروضاً من قبل، وبطلته نبيلة عبيد، التي راحت تملأ الصحف بالاخبار التي تتضمن الهجوم على محمد خان… واصفة اياه بأنه اجنبي لا يحب السينما المصرية. نذكر هنا ان حملة نبيلة عبيد ضد الفنان محمد خان قد اثارت اشمئزاز السينمائيين بشكل عام. كما أثارتهم حملة أخرى تعرضت لها الفنانة لوسي، هي الأخرى، وسببها ان الفيلمين المصريين المشاركين في المسابقة هما من بطولتها، هي الممثلة الصاعدة، التي صارت الوجه المفضل لدى اهم مخرجي الموجة الجديدة في مصر، من محمد خان الذي اعطاها دوراً رئيسياً في "فارس المدينة" الى سعيد حامد في "الحب في الثلاجة" ورضوان الكاشف في "ليه يا بنفسج" مروراً بداود عبدالسيد الذي اعطاها دورها الجميل في "البحث عن سيد مرزوق" "لوسي هي الوجه الصاعد الآن. ومن يعرف هذه الفنانة التي تفخر بطلوعها من بين صفوف الشعب البائس، يدرك على الفور السبب الذي يجعل مخرجي سينما الحياة والارض، يفضلونها على غيرها.
للوهلة الاولى، واذا نظرنا نظرة سطحية الى تفاصيل عروض المهرجان قد يخيل الينا ان الافلام العربية من خارج مصر المعروضة قليلة العدد. غير ان الواقع سيكشف لنا عن ان الامر ليس على هذا النحو. فالحال ان تظاهرات المهرجان العديدة ضمت، بشكل او بآخر، عدداً كبيراً من الافلام العربية التي حققت في الاونة الاخيرة: من "رسائل شفهية" للسوري عبداللطيف عبدالحميد، و"ليلة القتل" للمغربي نبيل حلو، الى "الليل" لمحمد ملص وكان عرضه بقي معلقاً حتى اللحظات الاخيرة بسبب تأخر نسخته في الوصول، وصولاً الى "بيزنس" نوري بوزيد، الذي جوبه بسجالات كثيرة، و"فتاة الهواء" للبناني المقيم في فرنسا مارون بغدادي وكانت استبقت عرض فيلمه، من دون حضوره، اجواء الحوار الذي ادلى به الى الزميلة "الحياة" وانتقد فيه الناقد سمير فريد والسينمائيين صلاح ابو سيف وتوفيق صالح، والسينما المصرية بشكل عام، وهو حوار رد عليه الناقد سمير فريد بعنف على صفحات جريدة "الجمهورية"… وكذلك عرض فيلم "في بلاد الجولييت" لمهدي شريف، ورأى فيه الكثيرون تراجعاً عما كان المخرج نفسه حققه في افلامه الثلاثة الاولى. بشكل او بآخر، حضرت المهرجان بلدان عربية عديدة… ولكن في المقابل لوحظ غياب فلسطيني غياباً تاماً، بل وتبين ان الفلسطينيين القلائل الذين حضروا المهرجان وشاركوا في فعالياته ومنهم المخرج غالب شعث والسينمائي نصري حجاج انما حضروا من دون دعوة رسمية، مما اثار الكثير من الانتقاد!!
لكن هذا لم يكن الانتقاد الوحيد الذي وجه الى المهرجان، فكانت هناك ايضاً حكاية الافلام الايرانية التي لم تعرض بعدما كان سعدالدين وهبه اختارها لتمثل خير ما وصلت اليه السينما الايرانية، وحكاية فيلم الافتتاح حيث لم يستسغ الكثيرون ان يفتتح المهرجان اعماله بفيلم سبق ان عرض في اكثر من مهرجان وفي الصالات… وحتى من دون حضور صاحبه.
على هذه الانتقادات جميعها وكذلك على بعض الاحتجاجات المتعلقة ببعد مكان العروض عن مكان اقامة الضيوف، رد سعدالدين وهبه بقوله: "ان مهرجان القاهرة يحاول دائماً ان يوفر افضل الشروط، ولكن افلا ترون معي ان حجم العقبات التي يتعرض لها المهرجان، وحجم العراقيل التي يجدها في طريقه، كان من شأنها ان تمنع مثل هذه التظاهرة عن الانعقاد اصلاً… اننا نعيش وسط ظروف بالغة الصعوبة، وفي اعتقادي ان هذه الظروف لو درسناها بعمق، ستكفي لوحدها لتبرير كل نقص او انتقاد…".
والحقيقة ان ما يقوله سعدالدين وهبه لا يبعد عن الحقيقة كثيراً… لان تأمين تظاهرة من هذا النوع تأتي افلامها من شتى انحاء العالم، ويأتي ضيوفها من كافة القطاعات، ويتدفق عليها الجمهور لانها تكاد تكون متنفسه الوحيد، امر يقرب من المعجزة، وسط المناخات التي تعيشها مصر اليوم… المناخات التي منعت - مثلاً - ايليا كازان، ضيف المهرجان الرئيسي من ان يقوم بالجولة التي كان من المفروض ان يقوم بها، هو الذي اعلن انه كان اتى الى القاهرة في المرة الاولى قبل اربعين عاماً، لكن تلك الزيارة "لم تترك في نفسي اي اثر، اما اليوم فأنا ضيف سعدالدين وهبه وهو يعتني بي انا وزوجتي عناية جيدة… ولا استطيع ان اقول انني زرت مصر فأنا لم اشاهد سوى القاهرة واعجبت بأماكن كثيرة فيها خاصة الموسكي وخان الخليلي، وان كنت اعتقد ان ما تعانيه المدينة اليوم هو مشكلة الزحام الشديد".
كازان نجم كبير
ايليا كازان، المخرج الثمانيني، كان هو النجم الحقيقي في المهرجان بما اثاره من حنين الى عوالم سينمائية ماضية، والى علاقة متميزة بين المخرج وممثليه هو الذي اطلق جيمس دين، وناتالي وود، ومارلون براندو وبول نيومان… لذلك تدفق عليه الصحافيون والنقاد وهواة السينما يحيونه، ومنهم تلك الزميلة المصرية التي قالت انها اجرت معه الحوار الوحيد، وفيه سؤال يتحرى عن الاسلوب التي اتبعه في تعامله مع ارنست همنغواي حين عمل معه على رواية هذا الاخير "شرقي عدن" علماً بأن الرواية هي لجون شتاينبك وليس لهمنغواي، وفي الحوار تورد الزميلة جواب كازان الذي يسهب حسب روايتها في حديثه عن حسن تعامل همنغواي معه على الرواية نفسها!!
والحقيقة ان هذه الفضيحة الصغيرة اثارت الكثير من الضحك… لكنها لم تكن فريدة من نوعها…
فضيحة اخرى تلك التي مثلها بعض اعضاء لجنة التحكيم، الذين كانوا يبلغون اراءهم يوماً بيوم الى من يسألهم حول الافلام التي شاهدوها !! وذلك دون ادنى اعتبار لتقاليد السرية المعمول بها في مثل هذا المجال. وكانت لجنة التحكيم مؤلفة من الناقد البريطاني دايفيد روبنسون، والفنان احمد مظهر، والمخرج الجزائري احمد راشدي، والممثل البريطاني كريستوفر لي، والمخرج الفرنسي جاك ديراي، والممثلة الالمانية ليزا كروكزر، والفنانة مديحة يسري، والمسؤول الاعلامي الكويتي محمد السنعوسي، بين اخرين. فهل نذكر الفضيحة الثالثة ونقول ان ديراي هو مخرج الفيلم الصهيوني "تيتشاييف عاد" الذي كان المخرج اللبناني مارون بغدادي رفض اخراجه قبل اعوام لانه صهيوني لا لبس فيه او غموض، وان ليزا كروزر هي بطلة الفيلم الاسرائيلي "برلين - القدس" الذي تراجع فيه المخرج عاموس غيتاني عن مواقفه التقدمية السابقة؟
الجوائز بالعدل والقسطاس
مهما يكن، يمكن القول أن لجنة التحكيم كانت صائبة الى حد ما في منح الجوائز. فالحقيقة ان الفيلم الصيني "المنسيون" الذي فاز بالهرم الذهبي، وبجائزة احسن ممثلة لبطلته خيو جنفجوانغ مخرجة هيو كوي يانغ، بدا منذ البداية مستحقاً للجائزتين. فهو فيلم متميز قوي التعبير، يصور شريحة من حياة اليوم في العين، من خلال حكاية حب هادئ يقوم بين امرأة سافر زوجها الى الولايات المتحدة للعمل، وسائق تاكسي سافرت زوجته الى اليابان. فيلم جريء وصادق، لفت انظار متفرجيه القلائل منذ عرضه الاول.
جائزة احسن اخراج اعطيت للاميركي مايكل ابتد عن فيلمه "قلب الرعد" الذي يحكي باسلوب حديث وشيق حكاية بوليسية عن تحقيق في جريمة قتل عادية يكلف بها ضابط المباحث راي ليفوا، الذي يحمل في شرايينه دما هنديا، لكنه يحتقر اصله هذا.. الجريمة تحدث في منغلق للهنود الحمر… وكان التحقيق فيها دافعاً للتحدي لكي يستعيد احساسه باصوله. الفيلم مصنوع بشكل جيد، وهو ذو نزاهة سياسية ملفتة، وكان من الواضح انه يستحق جائزة خاصة وان رسالته تتلاءم مع مناسبة الذكرى 500 لپ"اكتشاف" اميركا، مع ما يرافق ذلك من استعادة الهنود الحمر لاحساسهم بجذورهم.
جائزة افضل عمل اول اعطيت للالماني جو باير عن فيلمه "النار المتوحشة" الذي يتحدث هو الآخر عن رغبات بطلته في الخروج الى اماكن بعيدة… لكنها رغبات سرعان ما تنسحق امام الواقع وضراوته.
اما جائزة افضل ممثل فقد اعطيت لبطل الفيلم الدانماركي "الاشجار العارية" وهو فيلم تدور احداثه خلال الحرب العالمية الثانية، حيث يقع هولغر في حب زوجة زعيم المقاومة وتتشابك تلك العلاقة حتى الانفجار الاخير.
ترى هل يمكن، بعد هذا كله ان نرسم ملمحاً سريعاً، لتلك الذهنية التي تكشف عنها معظم عروض مهرجان القاهرة انطلاقاً من كونها تعبر عن ما يرتسم من رغبات في عالم اليوم؟ ربما: فالحال، ان نظرة مدققة الى الافلام التي لفتت الانظار اكثر من غيرها ستقول لنا ان ثمة، في ما بينها، قواسم مشتركة عديدة لم تعد خافية:
فهناك من ناحية هذا التوق الى البعيد، الى الخروج من عالم الاحباط اليومي "ليه يا بنفسج"، "الحب في الثلاجة"، "النار المتوحشة" و"المنسيون".
وهناك احباط الاحلام واستحالة الخروج في الافلام نفسها.
وهناك مسألة البحث عن الجذور كما في "قلب الرعد" بين افلام اخرى.
وهناك الجرأة التي لا تفضي الى اي مخرج كما في "فتاة الهواء" و"في بلاد الجولييت" و"الاشجار العارية" والفيلم الكازاخستاني "قبلة في الهواء".
وهناك اعادة النظر وضرب الاساطير كما في "اللاعب" لروبرت آلتمان.
وهناك ذلك الاخفاق الذي يبدو حتمياً من خلال النجاح كما في "كعوب مدببة" فيلم الاسباني بيدرو المدور، الهام، او فيلم "كراباتشوك" للمخرج انريك غابريال ليبشوتز….
باختصار عالم احباط ويأس تصوره جملة الافلام التي عرضت، والتي من خلال مهرجان القاهرة الاخير، اعطت صورة حية للذهنيات السائدة في عالم سينما اليوم.
يقولون ان عالم ما بعد الحرب الباردة سيكون عالم سعادة وسلام وأمن.. اذن.. فمن اين تأتي السينما بكل هذا الحزن يا ترى؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.