ما جرى في غزة يمثل مأساة للإنسانية كافة، وليست للفلسطينيين العُزل وحدهم ولا للفرقاء والسياسيين والفصائل المختلفة، بل هي مأساة الضمير والمجتمع الإنساني برمته. إن هول المأساة يُدهش العقول في ضحايا هذه المجزرة البشعة، التي ستظل تؤرق الضمير الإنساني لآماد طويلة، إذ تجرد الإنسان الإسرائيلي من إنسانيته. إن ما جرى في غزة أدى إلى مفارقات ومعضلات فلسفية، ربما تجدد لإشكاليات قديمة تطرح نفسها برداء ملطخ بالإيغال غير المحدود في حق القيمة الإنسانية، وتلوين فضاءات الكون وأرضه وسماه بلون الدم المسفوح والأشلاء المتطايرة، كما تتطاير أشلاء الطهر في أجساد الطفولة عند تفجير براءتها بأطنان المتفجرات. ما حدث في غزة هو نسف لكل القواعد المتعارف عليها في المفهوم الأزلي للنفس الإنسانية وقداستها، التي مازالت منذ الخليقة هي مدار الحياة على هذه الأرض، وعند ما يتم النسف الكامل لها، يكون المجتمع الإنساني أمام معضلة كبيرة ومفترق طرق، يتوجب إعادة النظر في صياغة العقل البشري والمبادئ الأخلاقية التي تحكم وتنظم مجتمعاتنا البشرية، عندها نكون أمام استحقاق ملحٍ لوضع أسس ونظم لحماية المجتمع البشري، يكفل له الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية من خلال آليات وإجراءات عملية تنفيذية تجعل من كل تصرف غير إنساني أمراً ممنوعاً ومحرماً ويقتضي التعامل معه بحزم وردع كاملين. العجز الشامل أو التعاجز الذي اتسمت به معظم القوى السياسية عن الفعل والتأثير، والتخدير المقصود لعاملي التعامل الحاسم والرادع مع آلة الطغيان. حبس أنفاس كل المتابعين وذوي الضمائر الحية، كما أنه أحرج ضمائر غير المبالين والمتواطئين مع آلة الطغيان. الكل صار محاصراً داخل إشكالية غزة. عندما تم اختزال مأساة النفس البشرية ومعاناتها من خلال تفجير أبسط المبادئ الإنسانية المتعارف عليها عبر أجساد وأرواح الضحايا الفلسطينيين. إن المشهد الطغياني الهستيري العنيف للضحايا الفلسطينيين، يرفع مبدأ القوة الباطشة فوق الدساتير والمواثيق الإنسانية كافة. من دون استحياء، وسط ملايين الأنات والصيحات وصرخات الألم ورائحة الدم والأشلاء والأرواح التي أزهقت. وما مارسته آلة الطغيان الإسرائيلية على غزة"إنساناً وأرضاً وسماءً"هو إيذان ليستفيق الضمير الإنساني ويُعيد النظر في هذه المأساة، التي يقوم بإذكاء نارها فئات متقاطرة، برروا وجودهم بما حل بهم من مجازر وفظائع إبان الحرب العالمية الأولى، وإذا بهم يخترقون بوحشية المبدأ الأخلاقي الذي يبررون به احتلالهم العسكري لأرض غيرهم، إن قوة الطغيان أسقطت عن نفسها آخر ورقة توت كانت تتوارى خلفها، وتبتز بها شعوب العالم المتحضر كونها ضحية القمع الألماني، وإذا بها تمارس أفظع أنواع العذاب والحرق والدمار الذي لا يقارن بأي مأساة تدميرية حدثت من قبل. آن للعالم أن يتطلع إلى نظام عادل تحكمه المبادئ العليا، وتأصيل حق الإنسان وكرامته، وصون المقدسات ومبادئ الخير، وحفظ النفس والجسد والمال والوطن وحق العيش الكريم... إن الكيل بمكاييل عدة لهو أس ما نشهده اليوم من نزاعات وحروب وتعدٍ على الآخر. إن الإرهاب، الذي ينبذه الجميع، يكتسب زخماً ومبرراً بمثل هذه المآسي. إن العدالة وإحقاق الحق هو ما يكفل العيش بسلام ووئام بين الشعوب التي تهفو لأن تستنشق هواء الحرية وعبير العدالة والعيش بسلام. ولن يكون ذلك ممكناً من خلال ممارسات كيانات خارجة من القانون الدولي والإنساني، بل وتضرب به وجوه من قام بإصدار تلك القوانين والقرارات، واضعة تحت أقدامها ما يربو على 100 قرار دولي صادر عن مجلس الأمن والجمعية العامة ولا تلقى بالاً إلا لمنطق القوة، ويطربها صوت المدافع وأزيز الرصاص. إن عالم اليوم عالم قاسٍ لا يتحدث بلغة القيم والحق، ولا نتوقع من الآخر أن يتعامل معنا بمبادئ الإنصاف والعدالة، عندما نكون في عالم تحكمه عوامل القوة المادية ولغة المصالح. علينا جميعاً النهوض بمشروعنا الإنساني والحضاري وإيصال ما لدينا خير وحق ونظام أخلاقي لبقية شعوب العالم، إن ما لدينا من رصيد حضاري وقيمي وأخلاقي كفيل بأن يبهر العالم بأسره، وبتفاعلنا الإيجابي مع كل منارات الخير والعمل الحضاري الرشيد فإننا سنضع حداً لكل جور ونرسم بأنامل الخير حاضراً ومستقبلاً يليق ببني البشر وشعوبهم قاطبة. لعل في الأفق حراكاً مجتمعياً بناءً لصياغة مشروع إنساني حضاري، العالم بأسره بأمس الحاجة إليه... إن لدينا رصيداً من الوعي والخير القيمي والإنساني والبعد الأخلاقي والحضاري من الفضيلة بمكان بحيث يمكننا من الإشراق من جديد على فجر الإنسانية المطعونة والمحاصرة في غزة ... الآن. پ عبدالله بن حمد بن زرعة - الرياض [email protected]