يمكن اعتبار"وثيقة الأزهر"التي أطلقها شيخ الأزهر أحمد الطيب بمثابة دليل فكري للعرب والعالم الإسلامي في المرحلة الراهنة. صحيح أن الوثيقة توجهت للمصريين في معرض إعادة بناء الدولة، إلا أنها تضمنت منطلقات فكرية تؤسس للسلطة السياسية في البلاد العربية والإسلامية، وأهمها: 1- رفض فكرة الدولة الكهنوتية المتسلطة على الناس بإسم الدين، واعتماد عنوان الدولة الوطنية الديمقراطية والحديثة. 2- وضع دستور لجميع المواطنين يضمن احترام حقوق الإنسان والمرأة والطفل، ويلتزم بمنظومة الحريات السياسية في الفكر والرأي. كما يضمن الحقوق والواجبات على قدم المساواة بين المواطنين. 3- اعتبار المواطنة، وعدم التمييز على أساس من الدين أو النوع أو الجنس أو غير ذلك، مناط التكليف والمسؤولية. 4- اعتماد النظام السياسي الديموقراطي القائم على الانتخاب الحر المباشر. 5- سلطة التشريع لنواب الشعب بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح. 6- ضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين لبث الفرقة بين المواطنين. واعتبار الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية بمثابة جريمة في حق الوطن. 7- إحترام آداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار. 8- تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، بالتلازم مع مكافحة الفساد. 9- التمسك بالثقافة الإسلامية والعربية. 10- مناصرة حقوق الشعب الفلسطيني. إلى ذلك، دعت الوثيقة الأزهرية إلى تجديد مناهج التعليم في جامعة الأزهر، وفي ذلك شجاعة أدبية وعلمية في إطار مواكبة علوم العصر وتحدياته. إن صوغ هذه الأفكار على هذا النحو يدلّل على عمق الاختصاص، وسعة المعرفة في شؤون الفكر والفقه والقانون الوضعي. كما يُبرز سمة الانفتاح التي امتاز بها الأزهر طوال قرون، وحسبنا في هذا المضمار متابعة دوره النهضوي منذ غزو نابليون في مطلع القرن التاسع عشر، وكيف أسّس لنهضة ثقافية وفكرية. لا خشية من لفظة الديموقراطية أو النظام الديموقراطي طالما أن شرعية السلطة السياسية منبثقة من إرادة الناس، الذين يؤلفون شعباً له شخصيته الوطنية. فلا تناقض بين مفهوم الشورى ومفهوم الديموقراطية متى التقيا على توسيع دائرة المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي، وحق الشعب في اختيار ممثليه وفقاً لإرادته الحرة. والجديد المهم في هذه الوثيقة الأزهرية، اعتبار المواطنة مناط التكليف والمسؤولية في الدولة والمجتمع. هذا تطور فكري رائد، ومنسجم مع جوهر الشريعة المتمثل في الصالح العام، أو الخير العام. بل إنه ينسجم مع ما بلغته البشرية في تطورها الاجتماعي والسياسي والقانوني في صعيد بناء الدولة وتأسيس النظام السياسي. إنها الدولة المدنية، دولة المواطنين في إطار القانون العام الذي لا يميّز بينهم في الحقوق والواجبات. دولة اللاعنف بين مواطنيها، بل تآخ في ظل القانون والانتظام العام. إن اتهام الدولة المدنية بالإلحاد أمر غير صحيح، ونوع من التضليل الفكري والسياسي. وها هي الوثيقة الأزهرية التي نتحدث عنها تشير إلى اعتبار المبادئ الكلية للشريعة مصدراً رئيسياً للتشريع، من دون الإفتئات على أتباع الديانات السماوية الأخرى عندما يحتكمون إلى شرائعهم في قضايا الأحوال الشخصية... ما يعني أن مبدأي الحرية والعدالة، سيحكمان مؤسسة الدولة وما فيها من سلطات انطلاقاً من جوهر الشريعة الإسلامية نفسها. أليست الحرية والعدالة من أهم الأفكار التي انشغل فيه الفكر الإنساني منذ الدولة الإغريقية القديمة مروراً بالحضارة الإسلامية ووصولاً إلى عصرنا الراهن؟ تستأهل هذه المنطلقات الفكرية اهتماماً عربياً وإسلامياً في زمن الثورات والانتفاضات العربية، بحثاً عن الكرامة والعيش الكريم والحرية ومكافحة الفساد المستشري. وها هو الأزهر يمسك بناصية التغيير في ظل الأصالة والمعاصرة معاً. إنها نقلة نوعية على المستوى الفكري من شأنها التأسيس لقيام الدولة المدنية أو الدولة الحديثة. * كاتب ووزير لبناني سابق