أدبي الطائف يقيم الأمسية السودانية ضمن لياليه العربية    رابطة روشن تعلن عن إقامة حفل تتويج للهلال    مطار "المؤسس" الأكثر تطورًا بالشرق الأوسط    رفع كسوة الكعبة استعداداً لموسم الحج    "مايكروسوفت" تترجم مقاطع الفيديو وتدبلجها    محمية الملك سلمان.. أول موقع رئيسي للتنوع البيولوجي    "سدايا": حريصون على المعايير الأخلاقية بالذكاء الاصطناعي    فرص تمويل واستثمار ب"كان" من الصندوق الثقافي    محافظ الخرج يُكرم شركة "لمسات احترافية" لجهودها في تنظيم الفعاليات الوطنية والمحلية    نائب أمير الرياض يرعى حفل تخريج الدفعة ال 49 من طلاب مدارس الرياض    عدم السماح بدخول مدينة مكة أو البقاء فيها لمن يحمل تأشيرة زيارة    تمكين المرأة.. وهِمة طويق    الخطيب: السعودية في المركز الثاني كأسرع الوجهات السياحية نمواً بالعالم    «صراع الهبوط» يصطدم بالكبار    تخريج 700 مجند من دورة «الفرد»    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 142 مجندة من الدورة التأهيلية    مغني الراب.. راح ضحية استعراض مسدسه    أمير تبوك يكرِّم الطلاب والطالبات الحاصلين على المراكز الأولى في المسابقات    أزمة بين «سكارليت» و«شات جي بي تي» والسبب.. تشابه الأصوات    منصور بن متعب وفيصل بن فرحان ينقلان تعازي القيادة في وفاة الرئيس الإيراني    جنة الأطفال منازلهم    العمر.. والأمل    علم النفس المراحل العمرية    تنمُّر التواصل الاجتماعي.. قصة كارسون !    وصول ركاب الخطوط السنغافورية بسلام بعد رحلة جنونية    الأمير منصور بن متعب ووزير الخارجية ينقلان تعازي القيادة في وفاة الرئيس الإيراني ووزير الخارجية ومرافقيهما    مهرجان الورد ونباتات الزينة بالدلم يستمر إلى مساء السبت القادم    لقاء علمي يستعرض تجربة بدر بن عبدالمحسن    خبراء يناقشون تجربة «أوبرا زرقاء اليمامة»    هيئة المتاحف تنظم المؤتمر الدولي للتعليم والابتكار    رحلة في العلاقات السعودية الأمريكية.. من المُؤسس إلى المُجدد    القبض على أربعة مروجين للمخدرات    لا فيك ولا في الحديد    "الصحة": اشتراط ثلاثة لقاحات لأداء فريضة الحج    حاتم جمجوم يتلقى التعازي من الأمراء والمسؤولين في حرمه    الكاتب العقيلي يحتفل بتخرج إبنه محمد    آل مجرشي وآل البركاتي يزفون فيصل لعش الزوجية    الخريجي يقدم العزاء بمقر سفارة إيران    أتالانتا الإيطالي "يقسو" على باير ليفركوزن الألماني.. ويفوز بلقب الدوري الأوروبي    السبت الكبير.. يوم النهائيات الخمسة.. العين يطمح للقب الآسيوي.. والأهلي لتأكيد زعامته للقارة السمراء    ثلاثي روشن يدعمون منتخب البحارة و رونالدو: فخور بتواجدي مع البرتغال في يورو 2024    البرتغالي جوزيه مورينيو في ضيافة القادسية    واتساب يتيح قفل المحادثات على الأجهزة المتصلة    معرض «لا حج بلا تصريح» بالمدينة المنورة    د. خوقير يجمع رجال الإعلام والمال.. «جمعة الجيران» تستعرض تحديات الصحافة الورقية    229 مشروعاً تنموياً للبرنامج السعودي في اليمن    أمير منطقة المدينة المنورة يستقبل عضو هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالله التركي    الاستعداد النفسي أولى الخطوات.. روحانية رحلة الحج تبعد هموم الحياة    توريد 300 طن زمزم يومياً للمسجد النبوي    الأمير سعود بن مشعل ترأس الاجتماع.. «الحج المركزية» تستعرض الخطط التشغيلية    تسهيلات تمويلية لرواد الأعمال    الأمن الغذائي    "أبرار" تروي تحديات تجربتها ومشوار الكتابة الأدبية    استشاري: حج الحوامل يتوقف على قرار الطبيب    جناح الذبابة يعالج عيوب خلقية بشرية    محافظ القطيف يلتقي مدير أحوال الشرقية    تخريج دفعة من مجندات معهد التدريب النسوي    اعتراف جديد بدولة فلسطين يشكل ضربة ثانية لسمعة إسرائيل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع لقتل الناس جميعاً !
نشر في الحياة يوم 04 - 01 - 2009

مضى وقت كانت الإنسانية تتجسد في اليهودي أكثر من أي صاحب انتماء آخر. كان هذا زمن النازية، فترة الحرب العالمية الثانية بخاصة. كان الهولوكوست مخططا لإبادة اليهود، لكنه قبل ذلك كان مشروعا لقتل الناس جميعا. في العين النازية كان اليهود"خطأ"، والشيء الصحيح بالطبع هو أن يمحى الخطأ. وسيأخذ المحو شكل صناعة موت شملت"أخطاء"أخرى كالغجر والمشوهين والشيوعيين. ولما كان الجميع، عدا الألمان، خطأ أو ملوثين بصورة ما، كانت النازية مشروعا عالميا لمحو"الأخطاء"وإعادة"النقاء"و"النظافة". وهي من هذا الباب تهديد لا نهائي بتبديد كل حياة بشرية، لا يأمن أحد إن انتصر. وهو لم ينتصر، لكنه كان باهظ الكلفة. نحو 6 ملايين يهودي قضوا على يد النازيين حسب الرقم المعتمد. لو كان الرقم نصف أو ربع أو سدس هذا لكان مهولا، ولما ألغى صفة الهولوكوست كصناعة موت منظمة، غرضها"الحل النهائي"للمسألة اليهودية.
لم يسرع الهولوكوست النازي خطى إقامة"وطن قومي لليهود"في فلسطين على نحو ما كان نص وعد بلفور قبل النازية بأكثر من عقد ونصف فقط، وإنما شحن مشروع إقامة إسرائيل بطاقة ومعنى مستمدين من"الحل النهائي"النازي، بما يبيح لنا القول إن إقامة إسرائيل على حساب الفلسطينيين ودون اهتمام برأيهم هو الحل النهائي الحقيقي للمسألة اليهودية في أوروبا، أو هو استمرار للحل النهائي النازي بوسائل أخرى. أعتقد أنه يصعب سياسيا وتاريخيا نكران الصلة بين صيغتي الحل النهائي، إسرائيل والهولوكوست، ويصعب أخلاقيا نكران الصلة بينهما أيضا.
كيف أمكن ذلك؟ كان اليهودي هو الضحية كما قلنا. ومن تاريخ عريق من الاضطهاد في أوروبا، حاز صفة منظمة قبل النازيين، وإن ليس إلى تلك الدرجة من العقلنة والانضباط النازيين. النازية حولت اليهودي إلى الضحية العالمية بأل التعريف. تولت ذلك صناعة خاصة لا تبعد كثيرا عن صناعة الموت النازية:"صناعة الهولوكوست"بتعبير نورمان فنكلستين. الصناعة النازية كان غرضها إبادة اليهود، أما صناعة الهولوكوست وقد نشطت بعد حرب 1967، وليس بعد الحرب العالمية الثانية بالمناسبة، أي باقتران أكيد بتنامي حاجة إسرائيل للشرعية بعدما تحولت دولة قوية ومعتدية، فغرضها التأكيد على أن الألم اليهودي لا يقارن بألم آخر، وأن ما جرى لليهودي ليس حدثا تاريخيا كغيره، بل حدث فوق تاريخي إن صح التعبير، يستحق إيقاف التاريخ وإعادة هيكلته مجددا حوله. على التاريخ، كل تاريخ البشر في كل مكان، أن يقدم كشف حساب عن الهولوكوست لورثة الضحايا المباشرين، أي اليهود الآخرين، وبالخصوص إسرائيل التي هي ملاذ اليهود من إبادة جديدة. هذا يمنح شرعية أخلاقية متعالية، لا تقارن بغيرها، ضربا من الاستثنائية الأخلاقية الخارقة التي لا يستهلكها التاريخ. تؤسس هذه الاستثنائية الجوهرية لمبدأ أن كل ما تفعله إسرائيل ولو كان غير مقبول فإنه عارض، لا يمس في شيء خيريتها الجوهرية، اللصيقة بكيانها. إسرائيل قد تخطئ، لكنها هي الضمير العالمي.
غير أن الاستثنائية هذه، ككل اسثنائية، مشروع لقتل الناس جميعا. فهي تنطوي جوهريا على مبدأ اللامساواة، على أن بعض الناس أرفع شانا من غيرهم، وألم بعضهم أهم من ألم آخرين، ودماء بعضهم أغلى من دماء آخرين. لا يتعلق الأمر بلا مساواة عارضة، بفوارق من كل نوع بين الناس في كل زمان ومكان، بل بلا مساواة جوهرية متعالية، تطالب لنفسها باعتراف عالمي، بل أن تكون دين الإنسانية.
هنا الشيء الجوهري في المشروع الإسرائيلي. لم تقبل إسرائيل في أي يوم أن تكون جزءا من هذه المنطقة، ولم تكتف بالمطالبة بأن يُعْترف بها دولة لليهود فقط، وإنما تروم الإقرار بها دولة متفوقة على غيرها، لشعب متفوق على غيره. هذا مشروع عنف لا ينتهي. لقد خُلقت إسرائيل كحل نهائي للمسألة اليهودية في أوروبا، لكنها خلقت مشكلة لا نهاية للفلسطينيين والعرب، تترك فكرة الحل النهائي حية مثل شبح موت في هذه المنطقة، وفي العالم كله. ومعلوم أن لديها صيغتها الخاصة من الحل النهائي، تسفير الفلسطينيين خارج وطنهم الترانسفير، وهو ما يعادل إبادة سياسية للشعب الفلسطيني، نجد لها ترجمات ملموسة في ما يصبه المشروع الإسرائيلي من هول إبادي على الفلسطينيين أو العرب بين حين وآخر، على نحو ما هو الحال اليوم في غزة.
نتكلم عل هول لنبرز صفة خاصة ليست عارضا في عنف إسرائيل: جنون قيامي، منفلت من أية ضوابط في استخدام القوة، حوله الإسرائيليون بوعي مذهبا قتاليا بغرض شل الخصوم وغرس ذاكرة رادعة، تمنعهم من التفكير بالمقاومة. الجنون هذا مؤسس على قوة ساحقة تفوقها مكفول أميركياً وغربياً على أي خصوم عرب مجتمعين، وعلى رصيد نووي مكفول بدوره قادر على تدمير المدن العربية جميعا، وعلى حصانة ساحقة بدورها تحرس الاستثنائية الإسرائيلية وتضفي عليها الشرعية وهو ما يدمر فكرة الشرعية من أساسها طبعا، وعلى حماية أخلاقية غير قابلة للنفاد فيما يبدو نظرا إلى أن تفوق إسرائيل الأخلاقي الجوهري متعال على التاريخ، فلا ينتقص منه أي شيء تفعله في التاريخ. إذا كانت إسرائيل تواجه بمقاومات عربية بعد ذلك كله، فليس دون استنفار"جنون"مقابل، يجد عقله في الدين"لكن هذه قصة أخرى.
ألا يسوغ ذلك كله القول إن إسرائيل ليست عنيفة على نحو ما يمكن أن توصف أية دولة أو قوة سياسية، بقدر ما هي مشروع عنف لا يتوقف؟ مشروع لقتل الناس جميعا؟
هذا ليس تحليلا سياسيا، ولا يمكن بلورة سياسية عملية مثمرة الآن حول ما يتضمن من رؤية لإسرائيل، غير أنه ما من سياسة تتطلع إلى العدالة بينما ترفض أن ترى إسرائيل كاستمرار مختلف للحل النهائي النازي، يتضمن في أساسه"حلا نهائيا"للفلسطينيين.
إن الشعب الفلسطيني هو الضحية العالمية اليوم، الضحية بأل التعريف اليوم. وهو لذلك معيار الأخلاقية في العالم. والمواقف المعلنة من الأميركيين والقوى الغربية الأخرى تدل على وهدة انحطاط مريعة، يشفق المرء على مستقبل البشرية ككل من السقوط فيها. إن كان للعالم أن يستعيد حسه بالعدالة ويتجدد أخلاقيا فلا مناص من الانسلاخ عن الدين الإسرائيلي. أما اعتناقه ومحاولة فرضه حتى على الضحايا فلا يمكن أن يكون غير تحية متجددة لروح النازية.
نشر في العدد: 16711 ت.م: 2009-01-04 ص: 24 ط: الرياض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.