العقلانية النقدية ليست أمراً طارئاً على الفكر العربي الحديث والمعاصر، بل هي في صلب الأسس التكوينية لهذا الفكر منذ بداياته الأولى أواسط القرن التاسع عشر، إذ خاض عقلانيو تلك المرحلة مواجهات قاسية مع المنحى الدوغمائي المتشدِّد الذي أنكر على العقل الإنساني حقه في الاجتهاد والتأويل والإبداع وكبَّله بأطواق غليظة من الرقابة والمنع والتكفير، فأصرّ هؤلاء في المقابل، على رغم المخاطر والمحن، على الانحياز الى العقلانية النقدية باعتبارها السبيل المؤدي الى النهضة والتقدم، والى إيمان يقوم على العقل لا على التقليد الأعمى. في مقابل ذلك الخط النقدي العقلاني المصمم والواثق، عرفت بدايات القرن العشرين منحى عقلانياً هشاً في مواجهته لم يلبث أن انكفأ الى مواقع دفاعية مستسلماً معلناً اعتذاره وإذعانه وارتماءه من جديد في أحضان الأيديولوجيا السائدة. فطه حسين الذي كتب"في الشعر الجاهلي"عام 1926 مُستلهماً روح الشك الديكارتي ومُستخدماً منهج النقد التاريخي، لم يلبث أن اتجه عام 1933 وجهة إيمانية رومانسية بعيدة من العقلانية النقدية التي انتهجها في"الشعر الجاهلي". وتكرر المنحى التراجعي الانكفائي مع عباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم فوضع هؤلاء مؤلفات ذات منحى إيماني مختلف عما كانوا قد بشروا به. في هذا المنحى التراجعي يمكن أن ندرج أيضاً إسماعيل مظهر الذي انتقل من الداروينية الى انتقاد فصل الدين عن الدولة والدعوة الى الجامعة الإسلامية، وعلي عبد الرزاق الذي عزف عما كان قد طرحه في كتابه"الإسلام وأصول الحكم"عام 1925 من دعوة الى السلطة المدنية. وكذلك زكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي. إلا أن اللافت في الثلث الأخير من القرن الماضي، المآل البائس للمثقف العقلاني العربي وعجزه عن مواجهة التيار الأصولي ذي القاعدة الشعبية العريضة، وليس أدل على ذلك من المأزق الذي انتهى إليه مشروعا محمد أركون ومحمد عابد الجابري النقديان اللذان تصدّرا المشاريع النقدية العقلانية في الفكر العربي المعاصر. فالجابري فقد طرح في كتابه"نقد العقل العربي"مشروعاً كبيراً عنوانه"النقد الابستمولوجي للعقل العربي"، وهدفه تفكيك بنية هذا العقل وتحديد مكمن العلة فيه، ودوره في تخلُّف حركة النهضة العربية، ليصل الى أن الفكر العربي هو بمجمله فكر لا تاريخي ينزه الماضي ويقدِّسه ويستمد نه الحلول الجاهزة للحاضر والمستقبل، وفق آلية قياس الشاهد على الغائب، فالتراث سلطة مرجعية موجِّهة هي الأصل،"النموذج - السلف"الذي يجب الاحتكام إليه دائماً في كل القضايا والاشكاليات. وعلى هذا الأساس رفض الجابري آلية القياس الفقهي في بنية العقل العربي وفي الخطاب السياسي العربي. إلا أن الجابري نفسه كان في خطابه الأيديولوجي الأكثر تناقضاً مع المقدمات التي انطلق منها، كما كان الأكثر بؤساً وتهافتاً في قراءته للمقولات المركزية في الخطاب السياسي العربي، إذ انتهى في الواقع الى مساومات تلفيقية توفيقية على حساب العقل والرؤية العقلانية للإنسان والسياسة والمجتمع، وظل أولاً وأخيراً أسير النموذج التراثي محتكماً في ما تطرحه الحداثة من تحديات معرفية طارئة وغير مسبوقة الى التراث باعتباره مرجعاً أحادياً لا يمكن تجاوزه أو الخروج عليه. فالتجديد في نظره"لا يمكن أن يتم إلا من داخل تراثنا"بتبيئة المفاهيم الحداثية في التراث وتطويعها في شكل يساعدها على العمل داخله. ولم يلبث أن وجد الجابري ضالته في"الرشدية"باعتبار ابن رشد أحد أهم أقطاب العقلانية في تاريخ الفكر العربي، وبوصف التوليفة التي أنجزها قبل أكثر من ثمانية قرون هي الأنجع لتحديث العقل العربي ومواجهة إشكاليات الحداثة، والأنسب والأقوم للإجابة عن أسئلتها. ومعلوم أن ابن رشد كان فقيهاً دام في خاتمة المطاف إخضاع الفلسفة للشرع، الأمر الذي أثنى عليه الجابري ورأى أنه وحده هو الصحيح. ذلك أنه سواء تعلَّق الأمر بالعلاقة بين الدين والفلسفة أو بالعلاقة بين الإسلام والحداثة المعاصرة، فإن ترتيب هذه العلاقة كما يقول الجابري في"نحو مشروع حضاري نهضوي عربي"مركز دراسات الوحدة العربية، 2001"يجب أن يتم من داخل الشرع لا من خارجه... إذ ان كل ما يقع خارجه يجب أن يلتمس المشروعية داخله... والخطوة الأولى بحسب هذه الطريقة هي وضع قضايا الحداثة واحدة في ميزان الشرع، ميزان الوجوب والمنع والمندوب والمكروه والمباح". هكذا يكون الجابري قد أعاد ربط الفلسفة باللاهوت من جديد، وتكون العقلانية التي نادى بها عقلانية مُخضعة، مختلفة في الجوهر والتوجه عن العقلانية الحداثية التي تؤمن بمرجعية العقل الإنساني وأولويته، وتحرره منكل وصاية، واستقلاليته إزاء كل ما عداه من المرجعيات. فأي حداثة هي تلك التي يقول بها الجابري وهو الذي استبعد من قاموسه المقولة المركزية من مقولات الحداثة ألا وهي العلمانية، وهو الذي انساق أيضاً في مؤلفاته التي أعقبت"نقد العقل العربي"وراء الأيديولوجيا وأحكامها غير العقلانية، حتى أنه لم يتورع عن المراهنة في شأن المستقبل العربي عن الإغراق في الافتراضات والتخمينات والترجيحات والتمنيات والأحلام التي سرعان ما كان الواقع يخيبها جميعاً، وطالما تبدّلت أحكامه وتناقضت تبعاً لأغراض الأيديولوجيا وإملاءاتها. لقد كان يُمل من ناقد العقل العربي أن يقدِّم إجابات عقلانية في شأن التساؤلات المحرجة التي ظلّت تنوء بثقلها على النهضة العربية منذ بداياتها، فلماذا مثلاً أُحبطت الديموقراطية دائماً في تاريخنا؟ ولماذا لم يستطع العقل النقدي العربي أني فلت من القيود والضواغط التي طالما قيّدت حركته وعطّلت تطلعاته؟ ولماذا ظلت حداثتنا قاصرة وعاجزة عن إنتاج العلم والتكنولوجيا؟ ولماذا استمر التخلُّف السياسي والاقتصادي فيما بقي الاعتراف بالإنسان وحقوقه الأساسية والطبيعية التي أقرّها العرب منذ القرن الثامن عشر، مسألة مستبعدة ومؤجلة حتى الآن في عالنا العربي؟ تساؤلات وأسئلة لم تقاربها عقلانية الجابري النقدية التي آثرت الاحتماء بالتراث واللوذ الى طمأنينته، بينما المأمول مواجهة شُجاعة تصل الى حد المغامرة مع مكر التاريخ وإملاءاته. ولعل هذا بالذات ما جعل من مشروع الجابري النقدي الصورة النموذجية الأكثر تعبيراً للمآلات البائسة للعقلانية النقدية في فكرنا العربي المعاصر. * كاتب لبناني.