زيادة طفيفة لتبرئة إسرائيل    بطولة العالم للراليات بالمملكة ل10 سنوات    المنطقة الشرقية: القبض على 5 أشخاص لترويجهم 1.7 كيلوغرام «حشيش»    وزير الأوقاف اليمني ل«عكاظ»: نثمن دور المملكة في التسهيلات المقدمة للحجاج اليمنيين    الجمهوريون يؤيدون ترمب حتى بعد حكم الإدانة    برلمانية مصرية: استئناف «جلسات الحوار» يعزز الاصطفاف الوطني لمواجهة تحديات الأمن القومي    متنزه جدر يحتضن محبي الطبيعة    البيئة تفسح 856 ألف رأس ماشية    اختتام مبادرة «حياة» للإسعافات الأولية بتعليم عسير    أمير القصيم يرعى جائزة إبراهيم العبودي.. ويُطلق «الامتناع عن التدخين»    وزير الداخلية يلتقي أهالي عسير وقيادات مكافحة المخدرات ويدشن مشروعات جديدة    د. السند يطلق مشروع الطاقة الشمسية بالأيواء    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالسويدي يُنهي معاناة «تسعينية» مع ورم سرطاني «نشط» بالقولون    اكتشاف تابوت أقوى فرعون بمصر القديمة    أمير الرياض يهنئ بطل الثلاثية    إنقاذ حياة حاج تعرض لنزيف حاد نتيجة تمزق للشريان بالمدينة المنورة    السعودية تدين محاولة إسرائيل تصنيف الأونروا منظمة إرهابية    صلاح يدعم صفوف منتخب مصر في وجود المدرب حسن للمرة الأولى    1.6 مليون مقعد على قطار الحرمين استعدادا لحج 1445    الشؤون الإسلامية في جازان تُنهي الدورة العلمية في شرح كتاب الحج    فلكية جدة: اليوم بداية موسم الأعاصير 2024    بَدْء المرحلة الثانية لتوثيق عقود التشغيل والصيانة إلكترونياً    شراكة بين المملكة و"علي بابا" لتسويق التمور    فتح التسجيل بمعرض الرياض الدولي للكتاب 2024    ترحيل 13 ألف مخالف و37 ألفاً تحت "الإجراءات"    "نزاهة": توقيف 112 متهماً بقضايا فساد في 6 وزارات    منظومة النقل تطلق الدليل الإرشادي للتنقل في موسم الحج    بدء تسجيل الطلبة الراغبين في الالتحاق بمدارس التعليم المستمر    المطيري يتلقى التهاني بتخرج «لين»    تفعيل اليوم العالمي لتنمية صحة المرأة بمكتب الضمان الاجتماعي    التقليل من اللحوم الحمراء يُحسِّن صحة القلب    تقنية جديدة من نوعها لعلاج الأعصاب المقطوعة    «الداخلية»: القصاص من مواطن أنهى حياة آخر بضربه بآلة حادة        "إعمار اليمن" يضع حجر الأساس لمشروع تطوير وإعادة تأهيل منفذ الوديعة البري    اتحاد التايكوندو يختتم نهائي كأس السوبر السعودي    ‫الابتسامة تستقبل حجاج العراق في منفذ جديدة عرعر    قمة سويسرا.. إنقاذ خطة زيلينسكي أم تسليح أوكرانيا؟    تدشين أول رحلة طيران مباشرة من الدمام إلى النجف في العراق    بونو: الهلال أكثر من فريق.. وقدمنا موسماً استثنائياً    فيصل بن فرحان يتلقى اتصالاً هاتفياً من وزير الخارجية الأمريكي    بن نافل: العمل في الهلال يأخذ من حياتك    جامعة الطائف ترتقي 300 مرتبة بتصنيف RUR    جهود مُكثفة لخدمة الحجاج في المنافذ    زلزال بقوة 5.9 درجات يضرب جنوب غرب الصين    رياح نشطة مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    45 شاباً وشابة يتدربون على الحرف التراثية في "بيت الحرفيين"    الإعلان عن إطلاق معرض جدة للتصميم الداخلي والأثاث    سفير المملكة لدى اليابان: العلاقات السعودية اليابانية خلال السبعين السنة القادمة ستكون أكثر أهمية    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    أسعار النفط تتراجع قبيل اجتماع "أوبك+"    بونو يُبكّي رونالدو بْزَّاف    أمر ملكي بالتمديد للدكتور السجان مديراً عاماً لمعهد الإدارة العامة لمدة 4 سنوات    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة وليد الخالدي في مذكرات رشيد الحاج ابراهيم "الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين" . ارهاصات التقسيم ومحاولات محمومة لتنظيم العمل في المدن الفلسطينية 3 من 5
نشر في الحياة يوم 09 - 02 - 2007

عقد مؤتمر لندن في 7 شباط فبراير 1939، واستمر لغاية 27 آذار مارس 1939، قدمت الحكومة البريطانية عند نهايته مشروعاً صدر لاحقاً في أيار مايو 1939 في"كتاب أبيض"يحدد سياسة بريطانيا في فلسطين للسنين العشر اللاحقة، رفضه ممثلو العرب بالإجماع كما رفضه اليهود. وقد رغبت بريطانيا في تعديل موقف العرب من المشروع المقدم في المؤتمر، فطلبت من رئيس الحكومة المصرية، محمد محمود باشا، التوسط مع الأطراف العربية كافة لهذا الغرض قبل إصدار الكتاب الأبيض، وقدمت له تعديلات على مشروعها يصفها رشيد ب"الجوهرية"لعرضها على الزعماء الفلسطينيين. وفي نيسان أبريل دعا محمد محمود باشا شخصيات فلسطينية لمقابلته، وحضر صاحبنا هذا الاجتماع"بدعوة خاصة من محمد محمود باشا".
إن رواية رشيد لما حدث في مكتب محمد محمود باشا لها أهمية تاريخية بالغة كونها رواية صادرة عن شاهد عيان مشارك في الحدث، وكون الحدث ذاته بالغ الأهمية لارتباطه بموقف الفلسطينيين من الكتاب الأبيض، وبالتالي بالعلاقات الفلسطينية - البريطانية اللاحقة لصدوره، وخصوصاً أن الشائع في الغرب وبين العرب أن رفض الفلسطينيين للكتاب الأبيض كان خطأً استراتيجياً فادحاً ترتبت عليه عواقب وخيمة على القضية"وهو أيضاً رأي صاحبنا.
حضر الاجتماع مع محمد محمود باشا من أعضاء اللجنة العربية العليا كل من جمال الحسيني وحسين فخري الخالدي وراغب النشاشيبي وعوني عبدالهادي ويعقوب الغصين وفؤاد سابا وأحمد حلمي باشا، وتغيب كل من الحاج أمين الحسيني المقيم بلبنان ومحمد عزة دروزة. وحضر من خارج اللجنة العربية العليا موسى العلمي الذي كان في الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر لندن، ورشيد كما أسلفنا. خلاصة ما دار في الاجتماع مع محمد محمود باشا، بحسب رواية صاحبنا، هي التالي: وزّع محمد محمود باشا على الحضور بياناً يتضمن"بعض التعديلات في الكتاب الأبيض... وبعد البحث مطولاً في التعديلات اقترح البعض تعديلات أُخرى وافق محمد محمود باشا... على مراجعة الحكومة البريطانية بشأنها وتأجيل الاجتماع لوقت آخر".
بعد بضعة أيام دعا محمد محمود باشا إلى اجتماع آخر حضره الأشخاص الذين حضروا الاجتماع الأول،"قال محمد محمود ما معناه بالضبط وافقت الحكومة البريطانية على بعض الاقتراحات ورفضت البعض الآخر وهي لم تعد تقبل أي تعديل بعد هذا التعديل... وبعد مناقشة طويلة قرر الحضور الموافقة على هذه الحلول وقبول الكتاب الأبيض، على شرط موافقة رئيس اللجنة العربية العليا فرأى محمد محمود باشا البت في هذه القضية بلا تراخ حتى لا تفوتنا الفرص فاستدعى إليه أمين سر مجلس الوزراء وطلب إليه الاتصال بلبنان وطلب سماحة المفتي الحاج أمين الحسيني على التلفون ولم تمض أكثر من عشر دقائق إلاّ وأعلن أمين السر وجود سماحة الحاج أمين على التلفون فسأل محمد محمود من منكم يرغب في مخاطبته، فانتصب السيد جمال الحسيني وذهب لغرفة أمين السر وكلّم سماحته ثم عاد يقول بصراحة إن سماحته موافق على هذه الحلول على شرط أن يوافق عليها جميع الحضور هنا، وقد أعلن الحضور جميعاً موافقتهم وشكر محمد محمود على مساعيه الطيبة. أبرق محمد محمود باشا في الحال للورد هاليفاكس وزير الخارجية البريطاني معلناً موافقة عرب فلسطين على الحلول الأخيرة... انتهى الاجتماع وعاد كل واحد مغتبطاً بهذه النتيجة التي اقترنت بالتوفيق". ويستطرد رشيد:"وفي الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم الثالث لهذه المقابلة استدعى محمد محمود باشا أحمد حلمي باشا وعوني عبدالهادي لمقابلته حالاً فذهبا... ولمّا قابلا محمد محمود سلمهما برقية من السيد أمين الحسيني تتضمن رفضه أية حلول تتعارض مع الميثاق الوطني المتضمن الاستقلال التام كما يرفض الحلول الجديدة وقال محمد محمود... إنني آسف لإضاعة وقتي وأوقاتكم... واسمحوا لي أن أنسحب من المداخلة في قضيتكم وعليكم أن تعتمدوا على أنفسكم وتعملوا ما أنتم أدرى به لمصلحتكم ولا تحمّلوا الدول العربية بعد الآن مشاكل غير مشاكلها". ويتابع رشيد روايته ويقول إن الكل استغرب برقية المفتي،"وأصر السيد جمال الحسيني كل الإصرار على التأكيد بأن المفتي وافق على الحلول بكل صراحة بعد أن بسطها له جمال وقال سألني المفتي أأنتم مرتاحون إليها جميعكم فأجبته نعم فقال إذاً اعتمدوا على الله وإني موافق معكم... وسافر أحمد حلمي إلى بيرو] وضمه مع المفتي مجلس كان فيه جمال وجرى بحث البرقية... فأنكر المفتي الموافقة إلاّ إن جمال حجّه بقوة مما أثبت صدور الموافقة عن المفتي فعلاً".
ليس هذا المجال لمناقشة صاحبنا في مضمون التعديلات التي تم البحث فيها خلال الاجتماعات مع محمد محمود باشا وأهميتها، أو في صدقية ما نقله جمال الحسيني عن لسان المفتي، أو في صدقية نفي المفتي ما نقله جمال عنه، ولا هو المجال لمقارنة رواية صاحبنا عما جرى مع محمد محمود باشا بروايات غيره من الحضور عن المحادثات العربية - البريطانية في شأن الكتاب الأبيض، أو لتقويم ما كان سيحدث لو أن العرب، والفلسطينيين منهم خاصة، قبلوا بالكتاب الأبيض قبل توسط محمد محمود باشا أو بعده كما حدث، وهل كان هذا سيحدث فعلاً انقلاباً جذرياً في سياسة بريطانيا في فلسطين كما يعتقد كثيرون أم لا. المهم بالنسبة إلى سيرة صاحبنا أن رأيه كان، في حينه، أن تقبل التعديلات التي أسفر عنها توسط محمد محمود باشا، وأن يقبل الكتاب الأبيض على أساس هذه التعديلات،"وأن يعلن أعضاء اللجنة العليا موافقتهم على الحلول المنوه عنها وأن يصدروا بياناً بالأسباب الداعية لقبول الكتاب الأبيض المعدل"، وأن اعتقاده كان أنه لو فعل العرب ذلك"لكان وضع البلاد إبان الحرب العالمية الثانية التي مكنت اليهود من التسلح والتدريب في حالة تختلف كل الاختلاف عن حالتها التي وصلت إليها... وأنه لو استجاب المفتي إلى نصائح المخلصين لكانت العاقبة محمودة أو على الأقل أقل شراً مما رأت البلاد سنة 1948". وهكذا يمثّل الاختلاف بين صاحبنا والمفتي بشأن الكتاب الأبيض محطة أُخرى في العلاقة بينهما لا تقل أهمية عن أثر المرحلة الثانية 1937 - 1939 من الثورة الكبرى في هذه العلاقة كما مر ذكره.
عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية في أيلول سبتمبر 1939، طلبت السلطات الفرنسية من الحاج أمين مغادرة لبنان، فذهب منه إلى العراق حيث انضم إليه جمال الحسيني وموسى العلمي. ويخبرنا موسى أن الحكومة البريطانية أرسلت في آب أغسطس 1940 مبعوثاً خاصاً هو الكولونيل نيوكمب لإجراء محادثات مع الحاج أمين في العراق، وأنه أي موسى استطاع، بالتعاون مع جمال ونوري السعيد، إقناع الحاج أمين بالموافقة على الكتاب الأبيض، وأن نوري تعهد لنيوكمب أنه في حال إقرار الحكومة البريطانية الاتفاق مع الحاج أمين فإن العراق يعلن الحرب على دول المحور ويضع قواته المسلحة في تصرف بريطانيا. هذه رواية العلمي. غير أننا نرى أن ثمة شكاً في جدية بريطانيا في إيفادها نيوكمب إلى العراق، ذلك بأن تشرشل، رئيس الحكومة البريطانية، كان من غلاة مؤيدي الصهيونية وزعيم المناهضة للكتاب الأبيض داخل الإدارة البريطانية لما تضمنه، بحسب رأيه، من تنازلات للعرب على حساب الصهيونية. ولم يلبث الحاج أمين أن ساهم في حركة رشيد عالي الكيلاني في بغداد سنة 1941، واضطر بعد أن قمعها الجيش البريطاني إلى اللجوء إلى إيران، ومنها إلى تركيا فإيطاليا فألمانيا حيث أمضى أعوام الحرب حتى نهايتها. وفي الوقت نفسه اعتقلت السلطات البريطانية جمال الحسيني في بغداد ونفته إلى روديسيا، ولم تأذن له في العودة إلى فلسطين حتى شباط فبراير 1946. ويعلق صاحبنا على ذهاب الحاج أمين إلى دول المحور:"كانت الحركة الوطنية إبان الحرب العالمية الثانية في فلسطين مشلولة لأن رئيس اللجنة العليا اعتُبر بلجوئه إلى ألمانيا عدواً لبريطانيا وحليفاً للنازيين في حين كان اليهود يبنون الحصون والقلاع ويستعدون للقتال ويجهزون أنفسهم بالعدة والعتاد".
سمحت السلطات لرشيد بالعودة إلى فلسطين في نيسان 1940 وهو، كما يقول،"مهدم الجسم"لاعتلال صحته في سيشل، وزاول عمله كمدير لفرع بنك الأمة العربية في حيفا، وهو البنك الذي أنشأه في القدس أحمد حلمي باشا بعد انفصال الشراكة بينه وبين عبدالحميد شومان في البنك العربي. ويصف صاحبنا هذه الحقبة من حياته بقوله:"بعد الاستجمام وعودة العافية أخذت أعمل على جمع الشمل ورأب الصدع وإعادة الحياة الوطنية مع إخواني العاملين، حاولنا أن نعمل لسد الفراغ الذي أحدثه حل اللجنة العربية العليا وتشتيت أعضائها، وبُعد رئيسها عن الشرق. تهيأ لي أن أبدأ عملنا العام في الميدان الاقتصادي فدعوت بصفتي رئيساً للغرفة التجارية العربية بحيفا في ديسمبر كانون الأول سنة 1940 لعقد مؤتمر الغرف التجارية العربي الأول بحيفا، وافتتحت المؤتمر بكلمة عن فساد الإدارة... ثم طلبت اتخاذ مقررات سياسية للحد من نشاط اليهود في الأسواق والشركات والمصانع، وكان من مقررات المؤتمر السرية تشديد المقاطعة على البضائع والمنتجات اليهودية وتشجيع الاستيراد العربي".ويستطرد رشيد قائلاً:"وقررنا عقد مؤتمرات دورية تجارية، عقد المؤتمر الثاني في يافا والثالث في القدس وشعرنا أن الروح الوطنية بدأت تدب في النفوس... وأردنا أن تسير الأمور سياسياً فندعو لعقد مؤتمر عربي سياسي عام تنبثق عنه لجنة تنفيذية تعمل لتحقيق الميثاق القومي حتى تنجلي ظروف الحرب ونتعرف نتائجها ونتائج عمل الزعماء المبعدين في أوروبا بالنسبة لقضيتنا". وفعلاً لبى عدد من رجال حيفا دعوة صاحبنا إلى اجتماع وطني عقد في 19 شباط 1943، وانتخب الحاضرون رشيداً رئيساً، والياس كوسا سكرتيراً، واتفقوا على مذكرة يرفعونها إلى المندوب السامي يطلبون فيها الموافقة على عقد مؤتمر تنبثق منه لجنة تنفيذية مسؤولة. ويتابع رشيد:"وإذا بالأيدي الخفية توعز بالتوقف عن العمل الموقوف على الحاج أمين الحسيني البعيد عن الميدان! وكانت معارضتنا في الدعوة للمؤتمر مبنية على هوس متعلق بأشخاص وكان هذا الهوس في نتائجه من أسباب فشلنا في المعركة الفاصلة". وهكذا يضيف إحباط مسعى صاحبنا لإنشاء لجنة تنفيذية من جانب أنصار الحاج أمين حلقة جديدة إلى سلسلة الحلقات السابقة من التشاد في العلاقة بين رشيد وصديق الأمس الحاج أمين الحسيني.
وتعلق المؤرخة بيان الحوت على هذا الحدث بقولها:"تصدى بعض الخصوم الشخصيين لرشيد الحاج إبراهيم في حيفا وقضوا على الحركة وهي في المهد، وادعى هؤلاء أن السلطة المحلية هي التي أوصت بعقد ذلك الاجتماع، وكان هذا هو الأسلوب المميز لأنصار المفتي وأنصار جمال الحسيني في تصديهم لكل مبادرة سياسية جديدة... وعلى الرغم من معرفة أهل حيفا باستقلالية رشيد الحاج إبراهيم، وبتعاونه الوثيق السابق مع الشهيد القسّام، فإنهم ابتعدوا فعلاً عن المشاركة، بسبب القوة الشعبية التي كان يتمتع بها أنصار التيار الحسيني ، وهي في تلك المرحلة قوة تنبع إلى حد بعيد من كون قطبها الأول في ألمانيا يعمل من أجل تحرير وطنه، وقطبها الثاني جمال معتقلاً في روديسيا".
وفي كانون الثاني يناير 1943 كان نوري السعيد أرسل إلى وزير الدولة البريطاني في القاهرة، المستر كيسي، مذكرة تتضمن مشروعاً لوحدة دول سوريا الكبرى سورية، ولبنان، وفلسطين، وشرق الأردن يحظى اليهود في فلسطين فيه بنوع من الحكم الذاتي، فسارع كل من أحمد حلمي باشا وعوني عبدالهادي ورشيد إلى دراسته، واشترك موسى العلمي معهم في ذلك، وأرسل الجميع موافقتهم إلى نوري على مبدأ الوحدة مع تحفظاتهم حيال"إغفال المشروع لقضية الهجرة اليهودية، على رغم من إشارته إلى الكتاب الأبيض، طالبين إشارة مباشرة إلى مسألة الهجرة. كما اعترضوا على إعطاء اليهود شبه استقلال إداري، وبرروا هذا الاعتراض وعللوه". ولم يمض وقت طويل على مشروع نوري حتى سئل أنطوني إيدن، وزير الخارجية البريطاني، في شباط 1943 في البرلمان عن رأيه في الوحدة العربية فأجاب بما فحواه أن بريطانيا لا تعارض إقامة اتحاد عربي إذا رغب العرب أنفسهم في ذلك. ويروي صاحبنا أنه كان شخصياً"قبيل صدور هذا التصريح بأيام في عمّان ألبي دعوة خاصة وُجّهت إليّ من جلالة الملك عبدالله بن الحسين فسألني الملك عن رأيي في موضوع سوريا الكبرى أو وحدة سورية مع الأردن ولمّا كان الجواب يحتاج إلى تفكير استأذنت جلالته في تقديم جوابي كتابياً واستمهلت لصباح اليوم التالي، فتفضل جلالته وقال: أنتظرك الساعة السادسة صباحاً في الديوان. وفعلاً قدمت لجلالته الجواب في مذكرة كتبتها على صفحتين خلاصتها: إن في سورية نهضة مباركة قوية والسوريون لن يتوقفوا عن السير قبل الوصول إلى الاستقلال التام الناجز وهم بحول الله واصلون وأرى من الصعوبة بمكان التفكير بأي وحدة معهم قبل أن يتموا شوطهم ويقرروا وهم أحرار مستقلون مصيرهم على ضوء مصالحهم ومصالح بلادهم. وأرى أن تتفضلوا جلالتكم بما لكم من مقام مرموق لدى حكومة جلالة ملك بريطانيا بأن تحملوها أول الأمر على إعطاء فلسطين الحكم الذاتي ثم العمل على ضم فلسطين للأردن كخطوة أولى للوحدة السورية الكبرى". ويضيف رشيد أن عبدالله قرأ المذكرة بحضوره وقال له"إنها لفكرة معقولة وسأعمل على تحقيقها". ولدى عودة رشيد إلى القدس اجتمع بأحمد حلمي باشا وعوني عبد لهادي، وأخبرهما بما حدث فاستحسنا جوابه على سؤال عبدالله.
في هذه الأثناء أذيع تصريح إيدن المشار إليه، واتفق رشيد مع أحمد حلمي وعوني على"أنه تصريح مهم واتفقنا أن نقترح على نوري باشا السعيد وكان آنئذ رئيس وزراء العراق الدعوة لمؤتمر عربي حكومي أو شعبي يقرر فيه قيام اتحاد عربي على وجه يضمن رفع مكانة العرب... واتصلنا فوراً تلفونياً بنوري باشا بواسطة السيد شاكر الوادي قنصل العراق بالقدس وإني لأذكر أن عوني بك وضع صورة برقية أرسلها شاكر بك الوادي لنوري باشا كان هذا مضمونها: يقترح حلمي باشا وعوني عبدالهادي ورشيد الحاج إبراهيم وهم عندي الآن وأنا موافق معهم أن تعقدوا مؤتمراً في مصر أو بغداد حكومياً أو شعبياً لبحث مستقبل البلاد العربية وامتحان السياسة البريطانية الجديدة على ضوء تصريح المستر إيدن، وأن تخطوا خطوة عملية لتنفيذ هذه الفكرة في الوقت المناسب". ويتابع رشيد أنه وأحمد حلمي وعوني أرسلوا برقية إلى شكري القوتلي، الذي كان أصبح رئيساً للجمهورية السورية، في هذا الصدد طالبين منه"في حالة موافقته على الاقتراح أن يبرق... إلى نوري باشا مؤيداً فكرتنا في فلسطين". ووافق القوتلي على الاقتراح في الأسبوع التالي. ووصل جميل المدفعي إلى القدس موفداً من السعيد في طريقه إلى القاهرة لبدء محادثاته مع مصطفى النحاس باشا، رئيس مجلس الوزراء، التي أسفرت عن مؤتمر الإسكندرية سنة 1944 الذي سبق تأسيس الجامعة العربية في السنة التالية.
وفي تشرين الأول 1943، زار نوري السعيد القدس وقابله رشيد مع أحمد حلمي وعوني. ويروي رشيد:"طلبنا منه العمل لفلسطين واقترحنا لهذا العمل عدة أوجه فأجاب أنه على استعداد للعمل لفلسطين... على أنه ارتأى... أن يُرْسَل وفد إلى أميركا على نفقة الحكومة العراقية مؤلف من ثلاثة أشخاص مع زوجاتهم إن أمكن ليقوموا بالدعاية الواسعة لفلسطين... وحبذنا الرأي على أن نكلف السيد موسى العلمي ليذهب في هذه المهمة مع شخصين يختارهما هو". غير أن موسى رفض هذا التكليف.
وبانعقاد مؤتمر الإسكندرية التحضيري، في أواخر أيلول سبتمبر وأوائل تشرين الأول أكتوبر 1944، كان لا بد من اختيار من يمثل فلسطين فيه. ويروي صاحبنا كيف تم ذلك:"كنا... نشغل أنفسنا باختيار شخصية حيادية متزنة... ووجدنا ضالتنا في السيد موسى العلمي". ذلك بأنه عُقد اجتماع لاختيار هذا الممثل في دار أحمد حلمي في القدس، حضره رشيد وعوني وحسين فخري الخالدي وصبحي الخضراء، واقترح الخالدي اسم العلمي"وبعد بحث وافق الحضور على انتدابه".
في سنة 1944 أعاد أحمد حلمي النشاط إلى صندوق الأمة لإنقاذ الأراضي، الذي أنشئ سنة 1932، واستعان برشيد لهذا الغرض. وفي أيلول 1944، أرسل صبحي الخضراء ورشيد وعوني عبدالهادي مذكرة إلى الملوك والرؤساء العرب"تحت عنوان مذكرة حول قضية الأراضي في فلسطين. وقد جاء في هذه المذكرة: تسعى الحركة الصهيونية بكل قواها وبكافة الوسائل الممكنة لامتلاك كل أراضي فلسطين، بشكل مرحلي خطوة، خطوة، ومن ثم التوسع في امتلاك الأراضي العربية شمالاً وجنوباً وشرقاً. وطالب الموقعون... قادة الدول العربية بالعمل حالاً لإقامة صندوق عربي رأس ماله مليون جنيه فلسطيني لإنقاذ الأراضي المعرضة لخطر البيع".
وباقتراب الحرب العالمية من نهايتها، ووشك قيام الجامعة العربية، وبدء الإرهاب الصهيوني في فلسطين، وتصاعد التأييد الأميركي للصهيونية، واستمرار الضياع السياسي الفلسطيني بسبب غياب الزعامة عن البلاد، يعيد صاحبنا الكرة بشأن إيجاد هيئة سياسية تمثيلية تقوم بإدارة الحركة الوطنية، على الرغم مما لقيه من معارضة سابقة. ويقول في ذلك:"لم تكن أية معارضة تعترض سبيلي في الخدمة الوطنية العامة التي أؤمن بها لذلك سرت متكلاً على الله وتأييد الإخوان المخلصين لتحقيق فكرة اختمرت في مخيلتي ووثقت من نتائجها الحسنة لخدمة أمتي، كتبت لمئة وخمسين وجيهاً وشاباً وطنياً موجهاً السؤال التالي: أيهما أفضل للسير بقضية البلاد نحو تحقيق أهدافها الوطنية، إيجاد هيئة سياسية، أو إبقاء البلاد على حالها بدون هذه الهيئة؟". ويتابع رشيد كلامه:"وردتني أجوبة من مئة وخمسة وعشرين شخصاً بالموافقة على السعي لإقامة هذه الهيئة ولم تردني أجوبة 25 شخصاً. ووردتني عدة رسائل بتواقيع غير مقروءة أو بدون تواقيع تهددني بالموت إن أقدمت على العمل لإيجاد هيئة وكان من معارضي الفكرة الحزب العربي الفلسطيني الذي يرئسه السيد جمال الحسيني على اعتبار أن هذا العمل يعرقل عمل الزعماء في أوروبا ويؤخر الإفراج عن الزعماء المنفيين الذين كان منهم السيد جمال الحسيني". ويروي رشيد أن أحمد حلمي وعوني نصحاه أن يرجئ عقد مؤتمر لإيجاد هذه الهيئة،"وسلوك طريق أقرب إلى الغاية عملياً وهو تأليف جبهات وطنية سياسية على أساس قومي لا حزبي، في مختلف المدن، ثم دعوة هذه الجبهات لعقد مؤتمر تتمخض عنه هيئة سياسية". وامتثل رشيد لهذه النصيحة، وأسس في أواسط 1945 جبهة سياسية قومية في حيفا باسم الجبهة العربية، ودعا إلى تعميم هذه الجبهات، فتأسست في يافا جبهة مماثلة. وكان من أهداف هذه الجبهات"العمل على بعث النشاط الوطني في النفوس... والوقوف بوجه حركة بيوع الأرض والمطالبة... بالإفراج عن الزعماء المنفيين والمعتقلين السياسيين. وأخذت جبهتنا في حيفا تقوم بواجباتها رغم ما لاقته من مقاومة من جانب الحكومة واليهود وبعض العرب مدعين أن هذه الجبهات تؤلَّف خصيصاً ضد الحاج أمين".وبينما كان صاحبنا يجهد في تعميم هذه الجبهات، ظهرت معه أعراض القرحة المعدية التي كان أصيب بها في سيشل فألزمته الفراش شهراً ونصف شهر، وأشار عليه الأطباء بالذهاب إلى مصر للمعالجة وتغيير الهواء"فغادر حيفا إلى مصر أوائل سنة 1946، لكنه بقي على اتصال بإخوانه في حيفا".
لمع اسم موسى العلمي بين رؤساء الدول العربية وكبار ساستها عقب حضوره مؤتمر الإسكندرية التحضيري سنة 1944، والخطاب الجامع الذي ألقاه فيه، والنقاش الذي دار بينه وبين الزعماء العرب الذين حضروا المؤتمر بشأن مضمونه. وقد نبّه العلمي الحضور في خطابه إلى أن بريطانيا تنظر في أربعة خيارات لسياستها المستقبلية في فلسطين، هي: التقسيم إلى دولتين، أو التقسيم إلى كانتونات، أو دعم قيام أكثرية عددية يهودية، أو التساوي العددي بين العرب واليهود في فلسطين. كما لفت النظر إلى أن هذه الخيارات الأربعة جميعاً تناقض الكتاب الأبيض، وأن تراجع بريطانيا عن الكتاب الأبيض إنما يعود إلى قناعتها ب"أن العرب متخاذلون وأن البلاد العربية غير جادة في دعواها في فلسطين وأن لا خطر من إغضابهم". وكشف العلمي القناع في هذا المؤتمر عما جرى في بغداد سنة 1940 بين الحاج أمين والمبعوث البريطاني الكولونيل نيوكمب، كما أسلفنا. وأوصى الدول العربية باعتماد الكتاب الأبيض أساساً للعلاقة ببريطانيا لأن الفلسطينيين يعتبرون"أن اتفاقية بغداد لسنة 1940 لا زالت قائمة، وأن إنكلترا ملزمة بها". وأوصى العلمي بتأسيس صندوق قومي عربي عام بميزانية سنوية بمليون جنيه لخمس سنوات من أجل إنقاذ أراضي فلسطين، كما أوصى بتأسيس مكاتب للدعاية في عواصم العالم الغربية الكبرى. وكان العراق أكثر البلاد العربية تأييداً للعلمي، ووضع بين يديه مئات الآلاف من الجنيهات لتحقيق هذين المشروعين. ومما لا شك فيه أن الرغبة في خلق شخصية فلسطينية قيادية معتدلة قبالة الحاج أمين كانت من أهم دوافع تأييد العراق للعلمي، وأن نقمة العراق على الحاج أمين إنما كانت تعود إلى ضلوع الحاج أمين في حركة رشيد عالي الكيلاني في بغداد سنة 1941.
خلال الأسابيع الأخيرة من الحرب العالمية الثانية في أوروبا، أخذت الاستخبارات البريطانية تتعقب الحاج أمين المقيم بألمانيا لاعتقاله، وتمكن الحاج من اللجوء إلى سويسرا ومنها إلى باريس التي وصل إليها بالسيارة في أيار 1945. لم تسلمه السلطات الفرنسية إلى بريطانيا، ووضعته في الإقامة الجبرية، وغضت الطرف عندما غادر البلاد متخفياً إلى مصر في حزيران 1946 حيث احتمى بالملك فاروق الذي استقبله بكل حفاوة وتكريم. ولم يكن هذا التساهل الفرنسي محبة بالحاج أمين وإنما تسديداً للحسابات مع بريطانيا التي قضت في السنوات 1942 - 1946 على الهيمنة الفرنسية على سورية ولبنان، وخصوصاً أن بريطانيا كانت ما زالت تصر كل الإصرار على منع الحاج أمين من العودة إلى فلسطين.
لم تعد فلسطين سنة 1946، ولا الأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة بها، كما كانت عندما غادر الحاج أمين البلاد سنة 1937. ففي فلسطين نفسها مال ميزان القوى في هذه الأثناء ميلاً خطراً إلى مصلحة الصهيونية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتنظيمياً، وبرز بن - غوريون قائداً محارباً لدى الصهيونية داخل فلسطين وخارجها. وإقليمياً نال كل من لبنان وسورية استقلاله، واعترفت بريطانيا بالأمير عبد الله ملكاً على شرق الأردن، وقامت الجامعة العربية ومثّل موسى العلمي فلسطين فيها بدعم من العراق. ودولياً ازداد التعاطف العالمي مع اليهود بسبب المحرقة اليهودية على أيدي النازيين، وانتصب العملاقان: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كأكبر قوتين في العالم، وامتلكت الولايات المتحدة من دون غيرها من الدول السلاح النووي، وتعاظم نفوذها في الشرق الأوسط على حساب بريطانيا، عبر شركات النفط الأميركية خاصة، وأصرت واشنطن على مشاركة لندن في صنع القرارات الخاصة بفلسطين بتأثير اللوبي الصهيوني، وتأسست الأمم المتحدة، وحلت حكومة العمال في بريطانيا محل حكومة تشرشل، وأطلق ترومان، الرئيس الأميركي الجديد، في تشرين الثاني 1945 قذيفته الأولى صوب الكتاب الأبيض، مطالباً بالدخول الفوري إلى فلسطين لمئة ألف مهاجر يهودي، بينما كان الكتاب الأبيض قد قرن أية هجرة جديدة ب"التقبل العربي".
حين وصول الحاج أمين إلى مصر من فرنسا في حزيران 1946، كان صاحبنا في الإسكندرية فسارع إلى لقاء الوافد والسلام عليه على الرغم من كل ما مر من فتور وتباعد بينهما، وبين صاحبنا وأنصار الحاج أمين في أثناء غياب الأخير في أوروبا. ويروي رشيد قصة إعادة اتصاله بالمفتي فيقول:"في سبيل الواجب الوطني أخذت أشرح له حالة البلاد شرحاً وافياً مستفيضاً وكان أول ما وضعته بين يديه قصة محاولتنا الدعوة للمؤتمر وتأليف هيئة سياسية تسد الفراغ الذي أحدثه حل اللجنة العربية العليا سنة 1937 وغيبة الزعماء... وقصة تشكيلاتنا للجبهة القومية العربية، وغيرها من الأمور التي كانت تصطدم بمقاومة الحزب العربي وآخرين من مدعي الغيرة على سماحته وسلمته الملفات الخاصة المتعلقة بالأمرين المذكورين. ثم اتصلت بإخواني وأصدقائي في البلاد وطلبت إليهم موافاة الحاج أمين الحسيني بالأخبار والأحداث التي يجهلها لغيابه عن البلاد منذ عام 1937 وإني لأذكر أني كنت أُعيّن لهؤلاء الإخوان المواضيع الواجب إطلاع المفتي عليها". ويتابع رشيد فيدرج خمسة عشر موضوعاً كتب هو وصحبه فيها إلى الحاج أمين، تتناول التنظيمات الصهيونية السياسية والحزبية والعمالية، والاستعدادات العسكرية الحصون والتسلح والتدريب، إلخ، والخطر المحدق بالمدن والقرى الفلسطينية وبخطوط المواصلات العربية بسبب انتشار المستعمرات اليهودية. ويذكر صاحبنا أن الحاج أمين سأله مرة عن الجامعة العربية وموسى العلمي، فسرد له ما مر ذكره أعلاه بتفصيل، من مقابلة رشيد للأمير عبدالله وبحثهما سنة 1943 في مشروع سورية الكبرى، واقتراح رشيد وصحبه على نوري السعيد عقد مؤتمر عربي عام بعيد تصريح إيدن في السنة ذاتها، والاتفاق العربي على عقد مؤتمر الإسكندرية التحضيري سنة 1944، واختيار موسى لتمثيل فلسطين فيه من جانب نفر من الزعماء الفلسطينيين، وتأييد العراق لموسى العلمي، وطرح موسى على المؤتمر مشروعي مكاتب الدعاية وصندوق إنقاذ الأراضي ودعم العراق للمشروعين.
ومن طريف ما ذكره رشيد عن الحاج أمين والعلمي أن الأول قال له يوماً:"لا أدري كيف أن الكثير من أقربائي ورجالي التحقوا بموسى العلمي مخدوعين، فأجبته بمنتهى الصراحة التي يعرفها مني: ليس في الأمر ما يدعو إلى الاستغراب إذ من هؤلاء... من كان محتاجاً إلى المال... فإذا زيدت الرواتب وتضاعفت المخصصات أمكن عودتهم وتخليهم عن موسى فأعجبته الصراحة والفكرة فنفذها وبالفعل عاد إلى حظيرة الحاج أمين من أراد المفتي أن يعود إليه". وهذه الأحاديث إن دلت على شيء فإنما تدل على صفاء نية صاحبنا تجاه الحاج أمين وطيب سريرته على الصعيد الشخصي، كما تدل على بقاء روابط من الاحترام المتبادل والصداقة بينهما حتى هذا التاريخ المتأخر في أواخر سنة 1946. ومن طريف ما ذكره رشيد عن موسى العلمي أيضاً إيجازه لشخصيته إذ قال:"إنه رجل هادئ المظهر لطيف المعشر ولكنه في مزاجه الزجاجي لا يقوى على مغالبة الصعاب ومقارعة الحوادث، فبينما تراه في القمة إذ هو ينخفض ويتلاشى، يصخب ويغضب ويثور وإذا به يتوارى ويختفي عن الأعين". ويتابع صاحبنا وصف لقاءاته بالحاج أمين في الإسكندرية فيقول:"كررت زياراتي للحاج أمين، كما تكررت أحاديثي عن ضرورة إقامة جهاز وطني منظم". وتراءى لرشيد أن الحاج أمين وافقه على تنظيم اقترحه عليه ل"الأعمال الوطنية العامة تنظيماً جديداً فنياً منتجاً قضته مصلحة البلاد وعلى ضوء ما أعده الأعداء من تنظيم لقيام كيانهم والقضاء علينا". أمّا مشروع رشيد فقد كانت عناصره الأساسية: أ إعادة تأليف اللجنة العربية العليا"من أعضائها الذين تألفت منهم سنة 1936". أي من كل من"المجلسيين"و"المعارضين"، ب الطلب من الأحزاب كافة التوقف عن العمل والاكتفاء باللجنة العليا، ج دعوة اللجنة العليا إلى مؤتمر عام"تشترك فيه جميع عناصر الأمة الممثلة لمصالحها المختلفة"يقر ميثاقاً قومياً جديداً، د انتخاب المؤتمر العام للجنة تنفيذية جديدة تنبثق منه، ه حل اللجنة العربية نفسها لتحل اللجنة التنفيذية الجديدة محلها، و تأليف لجان قومية في البلاد تكون بمثابة فروع للجنة التنفيذية. وجلي أن صاحبنا كان يسعى من خلال مشروعه التنظيمي لطي صفحة الماضي في البلاد ومناوآته، وإرساء الحياة السياسية على أسس توافقية تمثيلية جامعة، مع الحفاظ على قيادة مركزية تمارس نفوذها في كل أنحاء البلاد استعداداً لما هو آت.
أظهر الحاج أمين موافقته على مشروع صاحبنا قائلاً:"سنعوض عما فات الآن إن شاء الله". وكلف رشيد الاتصال ب"الأصدقاء العاملين"ودعوتهم إلى مقابلته، فجاء رشيد إلى سورية ولبنان وفلسطين ونقل ما جرى مع المفتي إلى أحمد حلمي باشا وعوني عبدالهادي وحسين فخري الخالدي وعزة دروزة ومعين الماضي وصبحي الخضراء وأكرم زعيتر وغيرهم، وذهب المذكورون إلى الإسكندرية واتفقوا مع المفتي على إعادة تأليف اللجنة العربية العليا باسم الهيئة العربية العليا، وعلى وقف نشاط الأحزاب، وعقد مؤتمر عام. وما لبث الحاج أمين أن أعلن إعادة تأليف اللجنة العربية باسم الهيئة العربية العليا، بيد أنه"أخرج بعض أعضائها السابقين وأحل محلهم آخرين لم يكونوا من أعضاء اللجنة العربية سابقاً". ويقول صاحبنا في ذلك:"عارضت في هذا الأمر معارضة شديدة وبينت للمفتي أن هذا العمل في غير مصلحته وغير مصلحة البلاد إذ لا يجوز أن يحرم الأعضاء السابقون... حق العمل في الهيئة التي اشتركوا في تكوينها... أيد المفتي وجهة نظري ولكنه قال إن هذه الهيئة هي هيئة موقتة تنتهي مهمتها عند عقد المؤتمر وما كنت لأقنع مطلقاً بوجهة نظره، وأعلنت له أننا سنسير ولكن سياستنا لن تكون مجدية، وأعلنت له أن المؤتمر لن ينعقد لأن المقدمات لا تشير إلى سلامة النيات. وهكذا كان فبقيت الهيئة العربية العليا هذه هي المسؤولة عن سياسة البلاد حتى الفصل الأخير"، أي وقوع النكبة سنة 1948. ويتابع صاحبنا:"أخذ الناس في فلسطين ينتقدون الهيئة ويوجهون إليها التهم المنفرة، منها أنها تسير على أهواء شخصية واعتبر الناس هذا سبباً يجدد المآسي والذكريات المؤلمة التي حصلت في ثورة 1937 - 1939 وهذا ما كنت أخشاه عندما كنت أطالب بتوحيد الصفوف وجمع الشمل". ويقصد هنا إدخال"المعارضين"في عضوية الهيئة على غرار عضوية راغب النشاشيبي، زعيم المعارضين، في اللجنة العربية العليا سنة 1936 التي كان لصاحبنا اليد الطولى في تأسيسها.
وعلى الرغم من خيبة أمل صاحبنا بسبب ما جرى من أمر إعادة تأليف الهيئة العربية العليا، فقد ثابر في مساعيه لإقناع الحاج أمين بجمع الكلمة. ويخبرنا في هذا الصدد:"كنت أكرر على سمعه تخوفي من المستقبل القريب وأؤكد له أن العمل يجب أن يبدأ من فلسطين بجمع الكلمة والتضامن... بلا فارق بين جماعة وجماعة، ما دامت الغاية واحدة". واقترح رشيد على الحاج أمين أن يدعو شخصيات معينة"ليتفاهم معها على سياسة موحدة تزيل ما في القلوب من ضغائن وأحقاد". وكان ممن اقترح على المفتي لقاءهم: سليمان طوقان وهاشم الجيوسي وأحمد الشكعة وحكمت المصري، من أبرز المعارضين من رجال نابلس وطولكرم، فرحب الحاج أمين بالفكرة وكلف صاحبنا تنفيذها بنفسه. وفعلاً اتصل رشيد بالسادة المذكورين وتم اللقاء بينهم وبين الحاج أمين في عاليه في لبنان. ويروي صاحبنا:"خلوت بالمفتي قبل موعد المقابلة ورجوته أن يفتح صدره لهؤلاء الرجال... ويباحثهم بشكل يجعلهم يشعرون فيه بتبادل المحبة والاحترام". وقد حرص رشيد على عدم حضور الاجتماع ذاته"حتى يتبادلوا الأحاديث من عامة وخاصة بجو من الحرية المطلقة". استمر الاجتماع نحو ساعة. ويخبره أحد الحضور أن"المقابلة كانت موفقة"،
في هذه الأثناء يتعاظم التدخل الأميركي في القضية الفلسطينية، ويستفحل ليغدو العنصر الأخطر والأكبر أثراً في تقرير مسار الأحداث لمصلحة الصهيونية بفضل تحيز الرئيس ترومان السافر إليها. فها هو يعيد المطالبة، في حزيران 1946، بالهجرة الفورية لمئة ألف يهودي إلى فلسطين، ويشفع ذلك للتو بالتعهد في تموز 1946 بنقل هؤلاء على حساب الولايات المتحدة، وبوسائط نقل أميركية. ويتوّج كل ذلك في تشرين الأول 1946 بإعلانه تأييده تقسيم فلسطين، وهو المطلب الذي كانت الأوساط الصهيونية أفصحت عنه في آب السابق، مع حرص ترومان على توقيت هذا الإعلان ليتزامن مع عيد الفصح اليهودي. ويسفر عن ضغط واشنطن التراكمي على لندن أن تقرر هذه، في شباط 1947، إحالة القضية على الأمم المتحدة، الأمر الذي أدى في أيار 1947 إلى تأليف لجنة تحقيق دولية UNSCOP تزور البلاد وتنشر تقريرها في أيلول 1947 الذي تدعو فيه أكثرية أعضاء اللجنة إلى تقسيم فلسطين وهو الحل الصهيوني - الأميركي، بينما تدعو الأقلية إلى حل وحدوي فيديرالي. وتعلن بريطانيا بعيد ذلك، في 26 أيلول 1947، نيتها التخلي عن انتدابها على فلسطين، ويقع هذا الإعلان وقع الصاعقة على العرب أجمعين.
أمضى صاحبنا معظم سنتي 1946 و1947 في الإسكندرية لملاءمة جوها وضعه الصحي، إذ كان يعاني القرحة المعدية، ويخبرنا:"كنت طيلة إقامتي هنا أي بمصر على اتصال دائم بالهيئة العليا من ناحية وبإخواني وأبنائي في حيفا وفلسطين من ناحية أخرى". ويجيء يوم 18 شباط 1947 الذي تعلن بريطانيا فيه إحالتها القضية على الأمم المتحدة، ويعتبر صاحبنا، استباقاً، أن هذا القرار بمثابة قرار بالتخلي عن الانتداب. نقول استباقاً، لأن قرار التخلي صراحة لم يُعلَن إلاّ لاحقاً في أعقاب صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية UNSCOP كما أسلفنا. ويصف رشيد شعوره عند إعلان بريطانيا قرار الإحالة على الأمم المتحدة فيقول:"قرأت في الجرائد الصباحية المصرية ليوم من أيام شباط [فبراير] عام 1947 قرار الحكومة الإنكليزية بالتخلي عن انتدابها على فلسطين ورفع قضيتها لهيئة الأمم المتحدة لتقرر مصيرها، وكان هذا القرار المفاجئ مثار الدهشة والاستغراب لدى جميع الأوساط السياسية العربية". ويتابع:"وكنت آنئذ بالإسكندرية فتملكتني خواطر متعددة... أهمها أن بريطانيا أقدمت على هذا العمل لتمكّن اليهود من إنشاء الدولة اليهودية، بعد أن استكملوا جميع الوسائل وهيأوا بمعونتها جميع الأسباب المساعدة على إنشائها". ويقرر فوراً أن يقدم مذكرة إلى الحاج أمين تشرح خطورة الوضع، ويستذكر أنه قال فيها:"مهما ذهبنا في تعليل الأسباب الداعية لاتخاذ هذه الخطوة فإننا لا نجد إلاّ الشر المبيت للعرب الآمنين... و إن رفع قضية فلسطين لهيئة الأمم يعني تسليم القضية لأميركا المسيطرة على هذه المنطقة سيطرة تامة... و إن اليهود يقبضون على سياسة أميركا ويوجهونها حسب رغباتهم... وأكدت أن خسارتنا للمعركة سياسياً قد بُتّ في أمرها". وناشد صاحبنا الحاج أمين أن"يوحد الصفوف لنخوض المعركة الفاصلة التي هي معركة الحياة والموت على أرض فلسطين... والعمل على حمل الدول العربية... على تهيئة وسائل الدفاع وتدريب الشباب وتنظيمهم... والاستعداد لحل هذه القضية عسكرياً على أرض فلسطين بالبذل والتضحية والفداء فإذا أهمل العرب هذه الأمور كانت خسارتهم فادحة وكانوا هم أنفسهم المسؤولين عنها".
ولم يمض سوى بضعة أشهر على إعلان بريطانيا إحالة القضية على الأمم المتحدة حتى صدر في أيلول 1947 تقرير لجنة التحقيق الدولية UNSCOP، فيقرر صاحبنا أن"مع عودة نوبات الألم إليّ وتأكدي من تأصل المرض وتعذر استئصاله فقد دفعني الإيمان بضرورة العمل في فلسطين نفسها للرجوع إلى حيفا". وتكون عودته إلى مسقط رأسه في أواسط تشرين الأول 1947.
عرّج صاحبنا في طريق عودته إلى حيفا على لبنان حيث يخبرنا أنه حضر"معظم الاجتماعات السياسية التي عقدها ساسة العرب في بيروت ودمشق وعاليه خلال شهري تشرين الأول وتشرين الثاني من عام 1947"، ويضيف:"وكنت على بينة من الاتفاق على رفض مقررات لجنة ساندستروم أي لجنة التحقيق الدولية UNSCOP وأي قرار يصدر عن هيئة الأمم بالتقسيم وإقامة دولة يهودية في فلسطين". بيد أن رشيداً كان شديد القلق بسبب قرار العرب إعلان الثورة المزمع على التقسيم وتحدي الأمم المتحدة لأنه اعتبر أن العرب في أخذهم هذا القرار كانوا"متجاهلين أوضاع بلادهم الداخلية وإمكانياتهم العسكرية وارتباطاتهم الدولية ومتجاهلين النكبات التي ستحل بعرب فلسطين بأسباب ثورة مرتجلة لم يعدّ الفلسطينيون أنفسهم لها ولم تتحمل الدول العربية مسؤولية إعدادهم لها أيضاً"، مفصحاً عن هذا الرأي"لدى المسؤولين الكبار، فلم يظهروا أي استعداد لقبوله أو الأخذ به". هل يستدل من هذا الكلام أن صاحبنا كان محبذاً لقبول التقسيم كما كان محبذاً لقبول الكتاب الأبيض سنة 1939؟ الجواب أنه كان يتوجس خيفة أكثر ما يتوجس من الارتجال السياسي والعسكري، وكان يشترط لرفض التقسيم الاستناد إلى حد معقول من التنظيم الإداري والسياسي والعسكري والاجتماعي، أي إلى استراتيجيا شاملة لدرء عواقب هذا الرفض وحصرها ضمن حدود مقبولة.
- تستعد مؤسسة الدراسات الفلسطينية لإصدار كتاب الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين - مذكرات رشيد الحاج ابراهيم 1891 - 1953. وتنشر الحياة في حلقات التقديم الذي كتبه وليد الخالدي لهذه المذكرات قارئاً فيها ومقارناً بينها وبين مذكرات آخرين عايشوا رشيد الحاج ابراهيم وكانوا رفاقه في بدايات النضال من أجل فلسطين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.