قضيتان محوريتان تظلان في صلب الموقف الاسرائيلي من المسألة الفلسطينية وهما الخوف من الزوال والديموغرافيا. واذا ما سبرنا غور الطروحات الاسرائيلية للتسوية فإننا سنخلص الى حقيقة انها مأسورة بهاتين القضيتين. فهما مطبقتان على كل مشاريع التسوية كفكي كماشة الى حد صارتا عنده بنيويا منتهى المقترحات الاسرائيلية وغايتها، من"كامب ديفيد"الاول حتى مقترحات شارون الاخيرة التي لا نشك بجدية طارحها واحتمالات الذهاب في جولة تجريبية لتطبيقاتها. وهنا اؤكد فرضيتي ان مقترحات شارون الاخيرة لا تأتي مناورة للتخلص من تبعات الاجراءات القضائية ولا استجابة لفظية لضغوط المحافل الدولية ولا احبولة سياسية. في اعتقادنا ان شارون يقرأ جيدا التيارات الجوفية في مجتمعه ويدرك تماماً ان هذا المجتمع جاهز في غالبيته العظمى للذهاب في الرحلة معه بعد عقد من السيولة التي لا يمكنه ان يتحملها اكثر. تعزيزاً لاعتقادناً آنف الذكر نشير الى ان كماً هائلا من التوصيات والابحاث الاسرائيلية اعدت في العقدين الاخيرين وطرحت في اروقة الحكم والجيش والمؤسسة الامنية توصي بالذهاب الى تسوية. والجديد ان هذه الابحاث لم تصدر عن"معسكر السلام"الاسرائيلي او المنظمات المرتبطة له فحسب بل عن تلك المرتبطة بقوى الوسط السياسي واليمين وابرزها تلك العاملة الى جانب الجامعات في تل ابيب والقدس وحيفا وهرتسليا. بل هناك اعتقاد متنام في محافل الحكم في اسرائيل ان مراكز صنع القرار لم تعد في مؤسسات الحكم لا سيما البرلمان على رغم مركزيته في الحياة الدستورية الاسرائيلية بل انتقلت الى مراكز البحث العلمي المتخصصة في الشؤون الاستراتيجية والشرق الاوسطية التي تمولها بالاساس الجاليات اليهودية الانغلو سكسونية. فقد تحولت الحلقات الدراسية في هذه المراكز اهم حيز اسرائيلي لتلاقح الطروحات وبلورتها. وهذه الابحاث تتمحور بدورها حول قضيتي الخوف والديموغرافيا، تسلط الضوء على الاولى ثم تعلي شأن الثانية في حركة ارجوحة بين هذا وتلك. ويشار هنا الى حقيقة وجود الديموغرافيا اساساً في طروحات اليسار الاسرائيلي وتسويغاته ضرورة الانسحاب من المناطق المحتلة. وهناك من يرى ان عجز مؤسسات الحكم عن احداث اختراق للحال المأزقية في اسرائيل يعطي وزناً خاصاً لمؤسسات المجتمع المدني والاكاديميا التي تبادر الى انتاج حلولها. وقد صارت محجاً للسياسيين الاسرائيليين وغير الاسرائيليين يعولون عليها لحسم ما عجزت عنه المؤسسات. فليس صدفة ان تصير الطروحات والاوراق الصادرة عن هذه المراكز صاعقاً يفجر نقاشات وتشغل الرأي العام وتثير الاهتمام اكثر من أي قرار حكومي او قانون برلماني. اقتراحات شارون اذن لا تأتي من غرفة عمله في صحراء النقب وانما من صفحات اطروحات هذه المراكز واجتهاداتها. ولانها كذلك النظر اليها باهتمام خاص وعلى انها قابلة للتجريب على هذا النحو او ذاك. ونرى بوضوح ان هذه الاقتراحات تربط بين عاملي الخوف والديموغرافيا بشكل يطابق بينهما. وعلى هذا النحو اتت طروحات شارون وافكاره. فهو يؤكد البعد الامني في مسار الجدار الفاصل في الضفة الغربية والبعد الديموغرافي في الانسحاب من غزة، ويربط بين الابقاء على البؤر الاستيطانية في"الضفة"وبين تعديلات حدودية تشمل تحويل مناطق مأهولة بالعرب من السيادة الاسرائيلية الى السيادة الفلسطينية. وفي هذا اصرار اسرائيلي على فكرة الدولة العرقية التي ينبغي رسم حدودها على مقاسات الجماعة العرقية وبالحد الاقصى من التطابق. ففي صلب افكار شارون رسم حدود دولة اسرائيل على اوسع مساحة من الارض مع اقل نسبة من السكان العرب الفلسطينيين. فالمرحلة الراهنة من الصراع خلقت شروطا اعادت الوضع الى ما كان عليه في نهاية الاربعينات من حيث العلاقة بين المجموعتين القوميتين في فلسطين ومشاريع تنظيم السيادة على الارض. ومثلما اخذت ترتيبات التقسيم في 1947 العامل الديموغرافي فإنها لا بد ان تأخذها مشاريع الحلول المقترحة. لكن مع فارقين اساسيين بين ما كان في حينه وبين ما يمكن ان يحصل اليوم. الاول، كان الطرف اليهودي اقل قوة وقدرة على المناورة همه كسب الشرعية الدولية الا انه اليوم الطرف الاقوى في المعادلة وبإمكانه المناورة في مصالحه ولاجلها حتى اشعار آخر. الثاني، ان الوقائع على الارض مختلفة من حيث المناطق الخاضعة للسيادة الاسرائيلية ومن حيث تعداد السكان اليهود الديموفرافيا بين النهر والبحر. فقد شهدت ارض فلسطين التاريخية تحولات جذرية شرق الخط الاخضر وغربه لا يمكن القفز فوقها. حال السيولة الراهنة مرشحة اذن وفق منطق شارون للذهاب في مسار الحسم الديموغرافي من خلال التطهير العرقي على النحو الذي يمكن للتفوق الاسرائيلي ان يفرضه. ونرجح اننا على عتبة مثل هذا التطور لان الوضع قابل للتحول من ليلة الى ضحاها، لتوافر عدة اسباب تراكمت في العقد الاخير واهمها: 1 - غالبية ساحقة من الاسرائيليين تقبل مبدأ الحسم الديموغرافي من اجل الحفاظ على الدولة اليهودية وتكريسها ومن اجل التخلص من التهديد الامني اليومي ولو افتراضا، حتى بثمن تقليص حدود الدولة او تعديلها. 2 - لا يزال نقاش التسويات مأسوراً في خطاب"الدولة القومية"او"العرقية"وحق تقرير المصير وفق هذا المنظور الامر الذي يؤسس منطقياً لمثل هذا الحل. كأن يقال للفلسطينيين في المثلث ضمن دولة اسرائيل لماذا ما دمتم فلسطينيين لا تنضمون بمنطقتكم كلها الى الدولة الفلسطينية؟ 3 - ضعف فلسطيني وعربي وصل ارقاماً قياسية خصوصاً بعد احتلال العراق مقابل تفوق اسرائيلي على الجبهات كافة عدا الجبهة الاخلاقية. 4 - مناخ دولي يعطي اولوية لمفهوم الامن والحرب الاستباقية الوقائية وحق الامم والدول في الدفاع عن نفسها بما في ذلك اعتماد اجراءات استثنائية. وعقدة الذنب في الغرب كفيلة بايجاد فتوى اخلاقية لما يمكن أن تفعله اسرائيل. 5 - المدّ المعادي للاسلام الخائف منه طغى على مفهوم الحق الفلسطيني وشرعية مقاومة الاحتلال بحيث استطاع المعنيون ان يقيموا التطابق بين النضال الفلسطيني وبين الارهاب، بين عدل القضية الفلسطينية وعلمانية خطابها ومطالبها وبين الخطر الاسلامي ومفاعيله. 6 - تتوافر في المجتمع الاسرائيلي قابلية لمثل هذه الحلول من حيث الجمع بين ذرى جديدة من الخوف الجمعي الوجودي من الزوال واليومي على المشروع الصهيوني في فلسطين، من غائلة الديموغرافيا الفلسطينية وبين توافر تفوق واضح في القوة السلطوية والعسكرية للطرف الاسرائيلي. حال السيولة المشار اليها تسري على كل الارض الممتدة من النهر الى البحر وهذا يعني ان القضية الديموغرافية واردة بالنسبة لسكان كل هذه المساحة بغير اعتبار يذكر لما سميناه"الخط الاخضر". ونرجح ان الطرف الاسرائيلي سيفضل ان يتعاطى مع الموضوع على هذا النحو. وذلك سعياً الى تجاوز عقبة المستوطنات في المناطق المحتلة منذ العام 1967 ولادخال فلسطينيي العام 1948 في حساب التسوية التي يطرحونها، اما الحديث عن الانفصال من جانب واحد وهو الاسرائيلي فيعزز الاعتقاد بأن شارون عازم على تحرير نفسه من تبعة التفاوض واستحقاقات التسوية على الطريقة التفاوضية. وكان شارون والاسرائيليون خبروا من ناحيتهم الثمن الذي عليهم دفعه في سبيل تسوية مرحلية للمسألة الفلسطينية كما عرضت في اوسلو ومفاعليها وصولا الى"كامب ديفيد"الثانية. وقد ثبت في الراهن على الاقل انهم لا يريدون دفع هذا الثمن وهم قادرون على عدم دفعه فيأتي مشروع شارون لاعفائهم من الدفع والالتفاف عليه بمشروع احادي الجانب. الطرف الاسرائيلي خائف من الديموغرافيا لسبب كامن في احتمالات تغير حالها ليس بفعل الزيادة الطبيعية فحسب بل بفعل ما يمكن ان يطرأ عليها من باب حق عودة اللاجئين حتى ولو الى مساحة السلطة الوطنية او الكانتونات الفلسطينية المستقبلية. فالسيناريو المروع من ناحية الاسرائيليين هو عودة مليون او مليوني فلسطيني الى غرب النهر الامر الذي سيسبب بطبيعة الحال ضغطاً هائلاً باتجاه الغرب حنينا الى ما كان او بحثا عن مجال للعيش وفضاء للحياة. ومن عادة الاسرائيليين ان يحلوا المعضلات بتعقيدها. وهم هنا يواجهون حق العودة الفلسطيني غير القابل للتصرف بموجب القانون الدولي بترحيل جماعات اخرى من الفلسطينيين او بمنع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة حتى ولو على جزء ضيق من الارض الفلسطينية. التطهير العرقي في التجربة الانسانية تم بغير انذار او على الاقل من دون اعتبار للجهة التي يتم تطهير الارض منها! ولا تشذ الحالة الاسرائيلية عن هذه الحالات سيما انها شهدت التطهير في وقت مضى او ان هذه التجربة لم تكن لتتم لولا التطهير العرقي الذي افضى الى طرد نحو 900 ألف فلسطيني خارج وطنهم في نهايات الاربعينات، تلك الحقبة التي اعيد الآن خلق شروطها وحيثياتها من جديد. ومن هنا غير مفهوم لي هذا الصمت العربي لا سيما لدى الفلسطينيين مواطني اسرائيل حيال هذه الامكانية وفظائعها. فالديموقراطية الصورية التي ينعمون بها قابلة للانكفاء ومواطنتهم محفوفة بألف لغم ومفاجأة كما حصل ايام الحكم العسكري الذي استمر حتى العام 1966، وكما حصل في يوم الارض الاول حينما احتل الجيش مدنمه وقراهم وكما حصل في تشرين الأول اكتوبر 2000 حينما قمعتهم قوات الامن الاسرائيلية بالحديد والنار لمجرد احتجاجهم على مجازر الاحتلال. ومنذ ذلك الحين تتعاطى نخب اسرائيلية معهم على انهم جزء من المسألة الديموغرافية وليس خارجها. اسرائيل وفق المنطق الداخلي لنشوء الهوية اليهودية وتطورها كمشروع سياسي لم تصل خط نهايتها ولم تكتمل بعد، على الاقل في اعين نخبها الجديدة وبكاءاتها في الاوساط الانغلوسكسونية واليهودية في اميركا الشمالية. ولا يزال هذا المشروع ذا حيوية وطاقات متحولة تنذر باحتمالات مروعة على الارض الفلسطينية. فلننظر الى مفاعيل اقامة الجدار الفاصل بالنسبة لحياة الفلسطينيين على جانبيه! كيف حول هذا الجدار حياة عشرات القرى وسكانها الى مشروع اذلال يومي يحول بين الجدة وحفيدها، بين الفلاح وزيتونته، بين المؤمن ومسجده ناهيك عن مصادرة الاملاك واقتلاع الزيتون ومنع الدواء والعلاج والحيلولة دون الطفل ومدرسته. وفي اعتقادنا ان الجدار بداية لما هو افظع وفي الجانب الاسرائيلي من يؤشر لنا على ما يمكن ان يأتي. وانا في خضم السيناريوهات الممكنة اتصور جدار الفصل العنصري هذا كتلك الاسوار المقاومة على الساحل الهولندي. تقام كي تسحب ماء البحر في جهتها هذه كي تنقل الى جهتها تلك طمعا في تجفيف مساحة اخرى من البحر. واوساط يهودية واسعة هنا تتحدث بلغة تجفيف الارض من سكانها العرب. وأرى بعيني روحي افواجا من الفلسطينيين غرب الجدار تنقل عنوة الى جهته الشرقية. هذا ناهيك عن تحويل مناطق فلسطينية مأهولة بكثافة في شمال المثلث او وسطه داخل اسرائيل الى السلطة الوطنية او ببساطة سحب السيادة الاسرائيلية منها وتركها لقدرها. وعندما يحصل هذا لن يكون بالوفاق والاتفاق وانما بفعل التفوق الاسرائيلي المقرون بالخوف. فيما نحن الفلسطينيين مشغولين الى الآن بالنكبة وبما في الذاكرة الجمعية من صور تلك التجربة المرة، هناك من يعد لنا تجربة مماثلة قد نستغرق نصف عقد آخر كي نبدأ بتذكر حيثياتها وتاريخها على نهج المهزومين. اما الصورة الاقل قتامة فهي العدول عن التطهير العرقي واشكاله لتسوية المسألة الديموغرافية في فلسطين لصالح نظام ابرتهايد سافر على الساحل الشرقي للبحر المتوسط يزج الفلسطينيون بين النهر والبحر بمقتضاه في خانات مناطقية محددة مغلقة بالجدران او بالاسلاك لضبطهم والسيطرة عليهم ليس لأنهم يحملون العبوات الناسفة بل لانهم يشكلون بتعدادهم ووجودهم هذه العبوة. وعليه، تراني أرى الى الملوحين بشعار"دولتين للشعبين"بكثير من الشفقة الممزوجة بغضب كأنهم ذاهبون الى الحج والناس في عودة منه. السيولة الراهنة في النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني مرشحة الى تصعيد الاجراءات الاسرائيلية نحو ذرى جديدة لم نعهدها في العقود الاخيرة، سيما ان الطرف الفلسطيني كأي شعب او مجموعة في التاريخ سيظل ينشد تحويل وجوده الديموغرافي الى كيان سياسي وهو وجود مرشح للنمو بفعل اربعة ملايين لاجئ فلسطيني لا يزال حقهم في العوة الى مساحة الوطن كلها او في جزء ضيق ضيق منها ماثلا في المكان! وهذا اشد ما يقلق الاسرائيليين ويقض مضاجعهم وعليه، نراهم يعدون له ولنا العدة. ومن هنا قد يكون الآتي اكثر قتامة مما كان. وقد سبقه في سياقنا ما يدلّ عليه. * أكاديمي فلسطيني، دالية الكرمل.