قارئ الأعمال الكاملة للموسوعي الأعمى خورخيه لويس بورخيس 1899 - 1986 يعثر على قصص قصيرة ويعثر على قصائد ويعثر على مقالات واستقصاءات وتأملات ويعثر على أكثر من سيرة ذاتية واحدة لكنه لا يعثر أبداً على رواية. لم يكتب بورخيس روايات. لكنه كتب في مجموعته القصصية الأخيرة "ذاكرة شكسبير" 1983 حواراً غريباً بين بورخيس وبورخيس. وفي الحوار المذكور يخبر بورخيس ابن ال84 عاماً بورخيس ابن ال61 عاماً هذا السر: قبل أعوام، في 1979، أقدم على تأليف رواية. كانت هذه روايته الأولى والأخيرة. واحتار هل يحرقها أم يخفيها في صندوق. ثم قرر أن ينشرها باسم مستعار في مدريد. وفعل ذلك. النقاد هاجموا الرواية وكتبوا أن صاحبها من مقلدي الارجنتيني خ. ل. بورخيس. * بورخيس يكتب قصة. وفي القصة يكتب ما يشاء. يخترع ما يريد. لكن ماذا لو كان هذا الحوار الوارد في قصة "25 آب/ أغسطس 1983" واقعياً؟ ماذا لو ألَّف بورخيس رواية حقاً ثم نشرها خفيةً باسمٍ مستعار؟ * لم يكتب بورخيس روايات. ولم يكتب كثيراً عن روايات. كانت القصة القصيرة فنّه المفضل. ومن بعدها تأتي القصيدة والمقالة. لم يحبّ الروايات. وجدها طويلة، مملة، وتفتقر الى الشكل. يذكر دائماً حفنة صغيرة من الروايات: "دون كيشوت" مثلاً لسرفانتس. "هاكلبيري فن" لمارك تواين. و"المخطوف" لروبرت لويس ستيفنسون. في قصة قصيرة عنوانها "التحدي" يذكر "موبي ديك" لهرمان ملفل ويشن هجوماً فظيعاً على همنغواي. في سيرة ذاتية قصيرة يقول شيئاً طيباً عن وليم فوكنر وشيئاً عن فرجينيا وولف. لكنه في مقطع آخر يسخر من فوكنر ومن "عوليس" جيمس جويس. الأكيد انه أحب ستيفنسون. أحب نثر الرجل وسامحه لأنه يكتب روايات. في هامش على نصه القصير "بورخيس وأنا" يتذكر رواية "دكتور جاكل ومستر هايد". في النص ذاته يذكر في عبارة واحدة نثر ستيفنسون ورائحة القهوة وفي ترجمة انكليزية أخرى: طعم القهوة. أحبّ بورخيس ستيفنسون وكرّر قراءته كل حياته. ومع ذلك بقي على مديح القصة القصيرة وعلى هجاء الرواية. قرأ قصص ستيفنسون وقصص كبلنغ وقصص هوثورون وقصص كونراد وقصص هنري جيمس ورأى ان القصة القصيرة قادرة على احتواء العالم. يبدو هذا غريباً. لكن هذا هو بورخيس. في كل قصصه، منذ المجموعة الأولى الصادرة في قلب صحراء الحرب العالمية الثانية، والى مجموعته الأخيرة الصادرة قبل رحيله بثلاثة أعوام، ظلّ بورخيس يكتب قصصاً غير عادية في طموحها الى احتواء العالم. كتب قصصاً وكتب قصائد تشبه القصص وكتب مقالات تشبه القصص لكنه لم يكتب يوماً رواية. بعد انتصاف القرن العشرين بات أعمى. وفي الظلام استمر يؤلف الحبكات ويرى شخصيات خيالية. جمع كل ذلك في قصص، وأحياناً اخترع في قصصه روايات ونشرها أو أحرقها. هل نشر بورخيس في مدريد يوماً رواية باسم مستعار، رواية ظلّت سرية، رواية غير معلنة؟