مقتل عدي وقصي صدام حسين: لم يكن من المفترض ان تكون هذه النهاية من نصيب إبني كبير قادة البعث. مثلما لم يكن من المفترض ان تكون بداياتهما توريثاً للدولة العراقية ولثرواتها. فالدولة التي أمسك بزمامها أبوهما صدام في اولى لحظات نشأتها، كانت تتمة لانقلاب على نظام ملكي كان "برنامجه السياسي" بناء نظام تمثيلي وتعددية سياسية. وقد انضمت هذه الدولة الانقلابية الجديدة، ومنذ اللحظات الاولى، الى صفوف الجمهوريات التقدمية القومية ذات "الصبغة" الاشتراكية، وشكّلت معها، في عزّ المد القومي التحرري، القطب العربي النقيض للملَكيات والمشيخات الوراثية الموصوفة بوراثة العهد البائد القديم، وبأنها الرجعية التقليدية بالتعريف. ثم مرّت عقود من الاستقلال، فإذا بهذه الجمهوريات، وجمهورية صدام حدّها الأقصى والله اعلم...، تصبح شيئاً فشيئاً وراثية. ما الذي حصل إذاً؟ ما الذي جعل الجمهوريات العربية الأولى تتخلّى تدريجياً عن التصورات وعن القيم التي أسّست لوجودها؟ والتي ما زالت على كل حال تنادي بغالبيتها حتى الآن؟ ما الذي أخذها الى التشبّه بالانظمة التي كانت تتهجم عليها وبأقل سماتها عصريةً؟ وتعتمد توريث الرئاسة قاعدة لاستمرار أنظمتها، و بالتالي استمرار البلاد؟ ربما بدأت القصة مع الزعامة الناصرية التأسيسية لهذه الجهوريات. وهي زعامةٌ فاض بريقها عن حدودها وطال بلدانا عربية ذات أنظمة ملكية أيضا من تلك الموصوفة لدى "التقدميين" بانها رجعية وعميلة ومتخاذلة. العسكر في هذه البدان انقلبوا أيضا على تلك الانظمة، مستمدين من الوهج الناصري التصورات والشرعية في آن. وعبد الناصر لم يكتفِ بالاستحواذ على كل السلطات... بل سعى في بداياته و أواسط عهده الى المزيد منها. الغى كافة السلطات السابقة من احزاب و مؤسسات. أمر بطَلي صورة الملك السابق باللون الاسود. أراد ان يعيد صياغة مصر على صورته هو. شخصيته "الكاريزمية" شجعته على ذلك، وكذلك الظرف: فاللحظة "الخطيرة" والمنعطف "التاريخي" كانا جديدين على الذاكرة. المهم ان عبد الناصر، النموذج الملهم لكل الجمهوريات العربية المعاصرة، تصرف بسلطاته كما لو كان هو الدولة، أو كما لو كانت الدولة هو. وبما انه هو المؤسس، وبما ان زمن حكمه كان قصيراً قياساً ببقية ازمان مقلّديه من العسكر، لم ينمّ هذا التماهي الذي تجده الآن مع الدولة ولا مدّه الى افراد عائلته. النرجسية الرئاسية اقتصرت على نفسه فقط، ولذلك لم يورث أولاده إلا اسمه... إلا القليل القليل مما سيورثه مقلّدوه الجمهوريون لأولادهم. والتوريث الجمهوري اللاحق منطقي لو نظرتَ الى النرجسية الرئاسية، المتضّخمة من كثرة صلاحياتها، والباحثة بالضرورة عن مجالاتها الطبيعية. أين تجد هذه المجالات إلا في اقرب الناس اليها، دماً و روحاً؟ بل دماً قبل الروح؟ العائلة والاولاد. هم الأشبه، هم الاضمن لنضارة النرجسية. ورئاسة كهذه مُلك خاص، بعدما كانت مجرد تماهٍ ثوري بريء. بل صارت اكثر خصوصية بعد تآكل شرعية "الثورات" الجمهورية ومعانيها. الاولاد، ثم الاقرباء إن توفّروا... القريبين منهم والبعيدين. هؤلاء هم الحماية الاقوى لامتداد نسبي كهذا... و هم بالتالي الأحق بوراثته. وليس من الصعب ان يتشكّل كل هؤلاء مثل أبناء قبيلة واحدة... حقيقية او مخترعة، ضيقة او موسعة، بحسب توفّر القرابات. القبيلة! تلك البنية الضاربة جذورها في اعماق المجتمع... فهل تكون الدولة قد تشبّهت بالمجتمع، وان يكون الاخير قد مدّها مدّها ببُنيته البطركية القبلية التي تجدها أينما حلت رئاسة أو زعامة أو وجاهة، فصحّ بذلك القول "كما تكونون يولّى عليكم"؟ أم ان الامر اليوم هو اننا يولّى علينا ما نكونه، وتكون الدولة ساعتئذ تشكّلت عائلياً وقبلياً، فعزّزت عائلية وقبلية مجتمع كان في سبيله الى التحديث. وبهذا عرقلته؟ بل طعّمته بأشد رذائلها فتْكاً؟ أي الصراخ ليل نهار بشيء، والقيام في الواقع بشيء آخر تماماً؟. الأرجح ان الاثنين مسؤولان: الذين ولّوا والذين تولّوا... والمفارقة في هذه الاثناء ان الانظمة الوراثية التقليدية باتت أقل وطأةً من الجمهوريات الاستقلالية، ليس فقط لأن عقدة النقص "الرجعية" التي وسمها بها الخطاب "الجمهوري" السائد، دفعت بعضها الى استرضاء المجتمع عن طريق التخفيف من هذه الوطأة، بل ايضاً لأنها اكثر شَبَها لنفسها، وأقل تزويراً للحقيقة: وراثية... وراثية... و على رؤوس الاشهاد! فيما الجمهوريات الاستقلالية لا تتوقف عن تشديد القبضة وإنشاد أغنيات الحرية، كأننا داخل أوانٍ مستطرقة: ما أن تجري المياه في إناء واحد، حتى تتسرّب الى الثاني والثالث... وبعدد الدول العربية... فيحصل المزج بين الكلمات والمعاني والمسالك. لكن شيئاً واحدا يجمع الآن بين هذه الأواني: استبداد لا يكتفي بتعطيل المجتمع، بل يورّثه لأبنائه، فيضمن بذلك التعطيل للسنوات الآتية القريبة... وربما البعيدة.