ضغوط تجبر نتنياهو على تجنب غزو رفح برياً    الهيئة العامة لمجلس الشورى تعقد اجتماعها الرابع من أعمال السنة الرابعة للدورة الثامنة    التخصصي يعالج حالة مستعصية من الورم الأصفر بعد معاناة 26 عاما    لأول مرة على أرض المملكة.. جدة تشهد غداً انطلاق بطولة العالم للبلياردو    هييرو يبدأ مشواره مع النصر    الاتحاد بطلا لشاطئية الطائرة    التجارة تدعو لتصحيح أوضاع السجلات التجارية المنتهية تجنبا لشطبها    الحزن يخيم على ثانوية السيوطي برحيل «نواف»    المملكة تسجل أقل معدل للعواصف الغبارية والرملية لشهر مايو منذ 20 عاماً    اجتماع حضوري في الرياض على هامش أوبك يضم السعودية وروسيا والإمارات و5 دول أخرى    "الجمارك" تبدأ قبول دفتر الإدخال المؤقت للبضائع    عقود ب3 مليارات لتصنيع وتوريد أنابيب الصلب ل"أرامكو"    مواطن يزوّر شيكات لجمعية خيرية ب34 مليوناً    وحدات تأجيرية للأسر المنتجة بمنى وجبل الرحمة    «رونالدو» للنصراويين: سنعود أقوى    الجامعة العربية تطالب المجتمع الدولي بالعمل على إنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة    أمير الرياض يستقبل زبن المطيري المتنازل عن قاتل ابنه    "فعيل"يفتي الحجاج ب 30 لغة في ميقات المدينة    أمير الشرقية يهنئ رئيس المؤسسة العامة للري بمنصبه الجديد    3109 قرضا تنمويا قدمته البر بالشرقية وحصلت على أفضل وسيط تمويل بالمملكة    الصناعة والثروة المعدنية تعلن تخصيص مجمعين لخام الرمل والحصى في بيشة    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    "مسبار" صيني يهبط على سطح "القمر"    تواصل تسهيل دخول الحجاج إلى المملكة من مطار أبيدجان الدولي    الأهلي يلاقي الأهلي المصري في اعتزال خالد مسعد    "الصحة العالمية " تمدد مفاوضات التوصل إلى اتفاقية بشأن الأوبئة    «الصهيونية المسيحية» و«الصهيونية اليهودية».. !    كارفخال يشدد على صعوبة تتويج الريال بدوري الأبطال    البرلمان العربي يستنكر محاولة كيان الاحتلال تصنيف الأونروا "منظمة إرهابية"    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    ارتفاع ملموس في درجات الحرارة ب3 مناطق مع استمرار فرصة تكون السحب الممطرة على الجنوب ومرتفعات مكة    جنون غاغا لا يتوقف.. بعد أزياء من اللحم والمعادن.. فستان ب «صدّام» !    جامعة بيشة تحتفل بتخريج الدفعة العاشرة من طلابها    توجيه الدمام ينفذ ورشة تدريبية في الإسعافات الأولية    غرامات وسجن وترحيل.. بدء تطبيق عقوبة «الحج بلا تصريح»    فيصل بن فرحان يؤكد لبلينكن دعم المملكة وقف إطلاق النار في غزة    بونو: قدمنا موسماً استثنائياً    مقاطع ريلز التجريبية أحدث ميزات «إنستغرام»    «تراث معماري»    روبوتات تلعب كرة القدم!    بعضها أغلق أبوابه.. وأخرى تقاوم.. تكاليف التشغيل تشل حركة الصوالين الفنية    اطلاق النسخة الثالثة من برنامج "أيام الفيلم الوثائقي"    البرامج    قصة القرن 21 بلغات العالم    قيصرية الكتاب: قلب الرياض ينبض بالثقافة    فرنسا تستعد لاحتفالات إنزال النورماندي    التصميم وتجربة المستخدم    "أسبلة المؤسس" شهود عصر على إطفاء ظمأ قوافل الحجيج منذ 83 عاماً    توزيع 31 ألف كتيب لإرشاد الحجاج بمنفذ البطحاء    الدفاع المدني يواصل الإشراف الوقائي في المسجد النبوي    «المدينة المنورة» صديقة للتوحد    تركيا: تكاثر ضحايا هجمات الكلاب الشاردة    إصدار 99 مليون وصفة طبية إلكترونية    توصيات شوريَّة للإعلان عن مجالات بحوث تعزيز الصحة النفسية    مشروع الطاقة الشمسية في المركز الميداني التوعوي بالأبواء    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السياسة الجديدة التي تنسب الى "المحافظين الجدد" ... مركب من تقاليد ورؤى راسخة
نشر في الحياة يوم 21 - 06 - 2003

تتصور السياسة الخارجية الأميركية اليوم في العوالم العربية والإسلامية على وجه الخصوص، في صورة القوة الخرقاء، الفالتة من كل عقال. فلا علة لها إلا ضرب من الجنون مسّها واستخفها. وعلى خلاف هذه الصورة يؤرخ وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، لمنازع السياسة الخارجية الأميركية الجديدة فيردها، هي والأطر الدولية الملازمة لها، الى أوائل القرن التاسع عشر. فغداة الاستقلال الأميركي نشأت قوة سياسية وعسكرية جديدة، بمنأى من النظام الأوروبي. وهذا تحدر من السياسة الدولية على مثال أقرتها عليه معاهدات ويستفاليا 1648 في ختام حرب الثلاثين عاماً الأوروبية والأهلية الدينية. ففصلت المعاهدات السياسية الخارجية، الإقليمية، من السياسة الداخلية. وأطلقت يد الحكام، الملوك والأمراء والمجالس، في دين رعاياهم، وقضت بمتابعة الرعايا الحكام على دينهم وملتهم. وحالت بين حكام الممالك والولايات وبين التدخل في شؤون رعايا الممالك والولايات الأخرى بذريعة الشراكة في المعتقد والملة.
ونشأت عن هذا الإقرار بالسيادة الداخلية الأوروبية غير المنازعة مبادئُ القانون الدولي العام. وعلى رغم تسمية القانون الدولي العام هذا، وهو يتناول العلاقات بين الدول في السلم والحرب، "حق الناس"، أغفل العلاقات السياسية الداخلية او الأهلية، وتركها في عهدة "الأهل"، حكاماً ورعايا، قبل ان يتحول الرعايا الى مواطنين. وجملة العلاقات السياسية الداخلية، بين الأقوام والطوائف والطبقات الاجتماعية والأفراد اكثر فأكثر، هي موضوع حقوق الإنسان اليوم، او موضوع السياسات التي تدور على العدالة والمساواة والحرية، "الخيرات الأساسية" على قول جون رولز.
واعتزالُ الدولة الأميركية الفتية النظام الأوروبي لم ينجم عنه اعتزال اصوله وقواعده، وبالأحرى انتهاكها. فلزمت الحياد بين فرنسا وبين انكلترا، وهما دولتا النظام البارزتان، وقطباه. وقضى النظام الأوروبي بحفظ الموازنة بين اقطابه. فإذا رجحت كفة احد الأقطاب مالت الدول الأخرى، الأربع او الخمس، الى الجهة الأخرى، وحالت بين القطب الراجح وبين الغلبة المنفردة والواحدة، على ما حصل إبان صعود نابليون والقوة الفرنسية. واحتذت الدولة الناشئة في عزلتها القارية، بين محيطين شرقاً وغرباً، على المثال الأوروبي. فذهب ألكسندر هاميلتون ت 1804، احد الآباء المؤسسين من غير الرؤساء، الى ان احتساب المصلحة البارد يدعو الأميركيين الى تقدير مساندتهم القوى الأوروبية من غير هوى ولا ميل. وتابعه توماس جيفرسون على رأيه "البريطاني". فقال ان السعي الأميركي ينبغي ان يخدم بقاء القوى الأوروبية العسكرية كلها على اراضيها الإقليمية، فلا يضطرها امنها الى إقلاق طمأنينة أقاليم العالم الأخرى ما خلا اقاليم "السباء"، وهي العالم غير الأوروبي وميادين القرصنة بأعالي البحار.
وسوغ جايمس ماديسون رئاسته في 1809 - 1817 النهج الأميركي تسويغاً خلقياً يخالف التسويغ الأوروبي الأناني. فالعزلة الأميركية إنما السبب فيها "فساد" العالم الأوروبي و"أنانياته". وإذا تركته الولايات المتحدة وشأنه فباعثها على هذا هو إرادتها القيام من سياسات القوة الفاسدة والأنانية مقام المثال الفاضل. فشأنها، على حسبان قادتها ورؤسائها الأولين، تحقيق الفضيلة الديموقراطية في الداخل، وعرض الفضيلة المتحققة على أنظار المجتمعات الأخرى، وبعثها على الاقتداء بها، وليس من طريق إعمال القوة وآلاتها وحساباتها.
وحين بلغت اخبار حرب التحرر والاستقلال اليونانية على السلطنة العثمانية أسماع الأميركيين، في 1821، حركت فيهم ما حركته في كثير من النخب الأوروبية من ميل وتضامن. وأراد بعضهم مساندة اليونانيين في حربهم التي تشبه حرب الأميركيين انفسهم على السيطرة البريطانية، قبل اقل من نصف قرن. ولكن وزير الخارجية، والرئيس لاحقاً، جون كوينسي آدامز 1825 - 1829 برّد حماسة الأميركيين من دعاة الحرب. واحتجّ لرأيه وسياسته بالقول ان خوض اميركيين حرباً واحدة تحت لواء غير اللواء الوطني، من اجل قضية الحرية، يترتب عليه خوضهم "حروب المنفعة والمكيدة"، فيتعذر تمييز حروب المنفعة من حروب الحرية، ويساقون الى تلك بذريعة هذه، وتساق دولة الولايات المتحدة الى طلب "الديكتاتورية على العالم"، وتخسر سيادتها على عقلها وتدبيرها. وفي 1823 أتم الرئيس جايمس مونرو مذهب الوزير آدامز، فأخرج القارة الأميركية من المنازعات الأوروبية الامبراطورية، وعلى رأسها الامبراطوريتان، البريطانية والإسبانية. وأفرد الولايات المتحدة بالمهمة و"الرسالة" التمدينيتين.
مشيئة إلهية
فتوج المنزع الأميركي المتصل هذا، وهو اتصل الى العام الثالث من الحرب العالمية الكونية الأولى، سياسة يقضي وزير الخارجية الأسبق بتناقضها. فمن وجه زعمت السياسة الأميركية، او المذهب السياسي الأميركي الذي اجمعت عليه نخب الحكم والإدارة والمجتمع، ان القيم والهيئات الأميركية تصلح للمجتمعات جميعها من غير قيد على عمومها ولا حد. ولكنها قضت، من وجه آخر، بأن حظوظها من العمومية الفعلية، والفشو في المجتمعات والبلدان الأخرى، تعظم اذا انكفأت الدولة الأميركية على نفسها، ولزمت حدودها، وصرفت جهدها وقوتها الى كمال ديموقراطيتها بمنأى من اضطرابات العالم وحمأة منازعاته. ولم تشك كثرة الأميركيين في ان عزلتهم القارية، وبعدهم من الابتلاء الأوروبي، هي مشيئة إلهية خصوا بها من دون البشر، وندبتهم الى "قدر مقسوم ظاهر"، على قول جون لويس سوليفان، ما عليهم إلا المسير على هديه، وتأويله التأويل المناسب.
ولم يحملهم يقينهم الجديد، في اواخر القرن التاسع عشر، بأن إصلاح العالم الأخلاقي والمعنوي يفتقر الى انخراطهم، بقوتهم كلهم، في شؤون العالم وشجونه، على تغيير تقويمهم التوسل بالقوة بعد إعياء الحيلة أو ملجأ اخيراً، وازدرائهم التوسل بها. ولكن الحرب الإسبانية - الأميركية، عند منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين، بعثت فكرة هاميلتون الأوروبية، ودعت ثيودور روزفلت الى إيلاء الدولة الأميركية دوراً راجحاً في تعريف موازنة القوى الدولية. فترك روزفلت، الأول اسماً وشهرة، تعريف الولايات المتحدة "قضية" ورسالة، الى تعريفها قوة كبيرة، وربما عظمى من بعد. واستتبع التعريف الأوروبي "الوستفالي" هذا احتساب القوة العسكرية، ولوازمها، عاملاً حاسماً في العلاقات الدولية. فما ليس في مستطاع قوة الدول حمايته وضمانه، محال على القانون الدولي الاضطلاع بالأمر والقيام به محل قوة الدول.
فأقر ثيودور روزفلت في 1908، بحق اليابان في احتلال كوريا، على خلاف التقليد الأميركي السابق كله. وذريعته ان كوريا غير قادرة على حماية نفسها، وضمان استقلالها، ولا يُتصور نهوض دولة او حلف دول، الى حمايتها وضمان استقلالها بالقوة. واضطلعت "تتمة روزفلت" على مذهب مونرو - الى حظر تدخل الدول غير الأميركية في القارة الأميركية - بتسويغ تدخل القوة الأميركية العسكرية في هايتي وبناما وجمهورية الدومينيكان واحتلال كوبا في 1906 بذريعة حماية "المصالح الوطنية" الأميركية. وامتنع الرئيس نفسه، في 1904، عن إدانة العدوان الياباني على روسيا، على رغم إقرار عام بمبادرة اليابان الى الحرب. واحتج لامتناعه بترجيح إفضاء النصر الروسي، لو قيض النصر لروسيا، الى سيطرتها على آسيا، وإخلال الأمر بموازنة القوى بأوروبا والعالم. ولكنه لم يؤيد تخطي انتصار اليابان الموازنة نفسها، والميل بها الى دور ياباني غالب، على المثال الوستفالي العتيد، وقيام القوة البريطانية برعايته وضمانه.
وحمل تعاظم القوة الألمانية عشية الحرب الأولى روزفلت، وكان ترك الرئاسة في 1912 لوودرو ويلسون، الرجل على اقتراح تدخل الولايات المتحدة في صف بريطانيا وفرنسا، خشية خروج ألمانيا المنتصرة من أوروبا، واجتيازها الأطلسي، وبلوغ الساحل الشرقي الأميركي بعد خسارة "درع الأسطول البريطاني" الحاجزة بين ألمانيا وبين القارة الأميركية. ولكن ثيودور روزفلت لم يكن ليخلع حكومات الدول المغلوبة، ولا ليرسم حدود الدول الأوروبية بموجب حق تقرير المصير، على ما فعلت الدول المنتصرة، وويلسون على رأسها، في مؤتمرات الصلح. ولكان، على زعم المؤرخ، حفظ لألمانيا مكانة مقيدة، على مثال صنيع العاهل الروسي والوزير النمسوي بفرنسا غداة هزيمة نابليون.
ولكن ويلسون لم يتذرع لإشراك الولايات المتحدة في معمعة الحرب الأولى بحجة روزفلت. فالأميركيون ما كانوا، على الأرجح، على بينة من ان انخراطهم في الحرب وحده قادر على دفع تهديد ألمانيا امنهم، ورد النظام الأوروبي الدولي الى سوية تحميهم. فهم دخلوا الحرب، وارتضوا تضحياتها، وسائقهم دورهم الرسالي، على ما أقنعهم رئيسهم على هدي من تراثهم وأفكار هذا التراث. ولا توسع افكار التراث الأميركي محلاً لائتلاف قوى متوازنة يتولى هو رد التهديد الخطير حين ينشأ، وتعجز قوة بمفردها عن رد. فشرط قبول فكرة الائتلاف او النظام هذا هو إقرار القوى المؤتلفة، وفيها الولايات المتحدة طبعاً، باستحالة رد التهديد من طريق قوة واحدة وعظيمة. والحق ان الأميركيين لم يقروا بهذه الاستحالة في ما يعود إليهم، ولا يقرون بها اليوم فوق إقرارهم بها البارحة.
وعلى هذا دخل ويلسون، وبلاده، الحرب غير عازم، على خلاف نداء ثيودور روزفلت الى خلفه، على حفظ الموازنة بين الدول الأوروبية، على ما اعلن صراحة، فذهب، عشية قراره الاشتراك في الحرب، الى ان ما يحتاج إليه السلم والسياسة الآتيان ليس مثل هذه الموازنة بل هما يحتاجان الى "اتحاد القوى" او جمعيتها واجتماعها، وإلى "سلم مشترك ومنظم". وآذن هذا برفض الدولة الأميركية، إبان مشاركتها الأولى والحاسمة في عمل سياسي وعسكري دولي وبارز، الإسهام في العلاقات الدولية في صفة دولة، شأنها شأن الدول الأخرى، تتولى الدفاع عن مصالحها الوطنية والأنانية.
فهي، اي الدولة الأميركية، على يقين بأنها ليست والدول الأخرى على قدم واحدة، خلقياً ومعنوياً. وينيط تفوقها الأخلاقي بها بناء العلاقات الدولية بناء جديداً قوامه حمل هذه العلاقات على "نظام طبيعي" من التآخي والتناغم، وإرساءها على تقرير المصير الوطني والديموقراطية والقانون، وتعهد الديموقراطيات من طريق المشاورة والتنسيق نشر القيم الجامعة والعامة. ويترتب على السياسة الويلسونية قبول الشعب الأميركي النزول من رأس التلة، وترك الاعتكاف هناك مثالاً يحتذى من بعيد، والانخراط في مهمة طويلة وشاقة سماها ويلسون "صليبية"، شأن بوش الابن، من غير ان يقصد استعادة المسيحيين مهد المسيح بالقوة، وفي سياسة خارجية نشطة.
وعارض الويلسونية، في العقد الثالث من القرن العشرين، دعاة الاعتدال الذين دعوا "جاكسونيين"، نسبة الى الرئيس الديموقراطي و"البلدي" اندرو جاكسون رئاسته في 1829 - 1837. فدعوا الأميركيين الى إدارة ظهرهم الى أوروبا وفسادها وأنانيتها المدمرة، وحضّوهم على الانصراف الى استكمال مثالهم السياسي والاجتماعي الداخلي، والمضي على استصلاح اراضي الغرب، والتوجه شطره. فنشأت عن المشاركة الأميركية في الحرب الأولى مطارحة سياسية كبيرة قسمت النخب تيارين: تيار الويلسونيين، وهم دعاة الانخراط النشط والمثابر في الشؤون الخارجية، والأوروبية في صدارتها، وتيار الجاكسونيين، وهم دعاة الاعتكاف عن الانخراط هذا ما لم تؤد "المناورات" الأوروبية الى تهديد الأمن الأميركي والقيم الأميركية. واقتسم التياران العريضان الحزبين الكبيرين والتقليديين. وحين مال الرئيس الديموقراطي فرانكلين د. روزفلت، وريث اندرو جاكسون، حزباً وسياسة، الى التدخل في اوروبا وحربها الثانية، دفع الجاكسونيون سياسة الرئيس الويلسونية وويلسون كان ديموقراطياً كذلك، وتمسكوا بالحياد. ولم يحملهم على تركه إلا غدر بيرل هاربور.
وعلى خلاف اضطرار ويلسون، غداة الحرب الأولى، الى بعض مراعاة المطاليب الديبلوماسية الأوروبية، أطلق الضعف والانهيار الأوروبيان، في اعقاب حرب الثلاثين عاماً الجديدة، يد فرانكلين د. روزفلت، ثم يد خلفه هاري ترومان، في معالجة ذيول الحرب الثانية. فأجمعت بلدان العالم على المبادئ الأميركية التقليدية: الأمن الجماعي، وتقرير المصير الوطني، وتصفية الاستعمار. وعلى هذه المبادئ نهضت هيئة الأمم المتحدة. واضطلعت الولايات المتحدة بخلاف الدور الذي ناطه بها جون كوينسي آدامز في الربع الأول من القرن التاسع عشر، حين عرفت غايات سياستها في أرجاء العالم، بلسان فرانكلين روزفلت، بالحريات الأربع: حرية الرأي، وحرية العبادة، وحرية العيش بمنأى من الخوف والعوز والحاجة. فعلى هذا لم يبق في وسع الدولة الأميركية الشمالية صم الأذن عن نداء الحرية المنبعث من "يونان" ثائرة على استبداد "بني عثمان"، مهما بعدت شقة المكان او شقة الثقافة والمعتقد.
العمومية والسذاجة
واجتاز حلف الجاكسونيين البلديين والانعزاليين والويلسونيين الرساليين والمتدخليين الحرب الباردة. ولعل قران المنزع الرسالي العالمي والانكفاء الانعزالي على النفس هو ما قاد الولايات المتحدة الأميركية الى فيتنام و"محنتها" اي امتحانها القاسي. فذهب ليندون جونسون، صاحب ذروة السياسة الأميركية في فيتنام 1965 - 1968، الى ان اميركا، في حربها هذه، لا تسعى الى السيطرة على إقليم، ولا الى موقع عسكري او غلبة سياسية. فكانت غايتها اقامة نظام ديموقراطي انتخابي محل الامبراطورية التقليدية، وإنشاء رأسمالية "على الطريقة الأميركية" في بلد لا يكاد يعرف اثراً لطبقة وسطى ولم يختبر التدبير الذاتي السياسي اي حرية تقرير الرأي الفردي في الشؤون السياسية والاجتماعية الداخلية من قبل، على ما لاحظ، آسفاً وساخراً، المفاوض على الانسحاب الأميركي من فيتنام، هنري كيسنجر نفسه. وجمعت السياسة الأميركية في فيتنام تصديق عمومية القيم الديموقراطية وهيئاتها المجتمعات كلها، وفي الحال، الى سذاجة عسكرية واستراتيجية وخيمة آيتها قصر الحرب على الأرض الفيتنامية وحدها، وترك المعاقل الخلفية وطرق الإمداد بالعتاد والرجال، بلاووس وكمبوديا، آمنة.
ومع طلائع العثرات والخيبات انقصم حلف الويلسونيين الرساليين النشطين والجاكسونيين دعاة الانصراف الى الحديقة الأميركية الوطني. وأدرك الأولون ان الدعوة الى نشر الحرية والازدهار والمثال الدستوري الأميركي دونها "المروري والشناخيب"، أو الشوك والدمع. وخلصوا، في غضون اقل من ثلاثة اعوام، الى إلحاح الانسحاب العاجل، من غير النظر الى الثمن المترتب على الانسحاب، ومن غير فحص عن جدوى القتال في سبيل برنامج اكثر تواضعاً من البرنامج الويلسوني، وأقرب منالاً. وذهب بعض الويلسونيين، وهم منازع وألوان، الى أن الإخفاق السياسي والعسكري إنما هو جزاء "خطيئة" أو "معصية" اخلاقية، وليس ثمرة طموح مفرط وعجول. وأقام الجاكسونيون على مثال الحرب الموروث من الحربين الأولى والثانية، وهو "الحرب الكلية" على ما سمى مارشال ألماني الحرب الأولى. وانصرفوا عن الحرب المقيدة او المحدودة، وهي الحرب الوحيدة المتاحة في اطار الحرب الباردة وعلاقاتها الدولية والعسكرية التي أدخلت السلاح النووي، وغيره من اسلحة الدمار الشامل، جزءاً من العتاد الجديد. فاضطلع نيكسون بالتمهيد لانعطاف غلّب بعض العودة الى المصالح الوطنية و"البلدية" وتصدر هذه السياسة عن الجاكسونية على الويلسونية المتخبطة في أزمتها. ولكنها جاكسونية لا يسعها، في الثلث الأخير من القرن ال20، التملص من قضايا العالم "المدوّل"، على ما قيل قبل شيوع "العولمة"، مثل مراقبة التسلح غير التقليدي، واستقبال الصين في المجتمع الدولي، والتحكيم في الشرق الأوسط، ونزع الفتيل الألماني. فلم تسلم من نقد حلف الفريقين الداخلي. فأنكر الويلسونيون على سياسة نيكسون انغماسها في المراوغات وضعف تمسكها بطهر القيم الديموقراطية. وطعن الجاكسونيون عليها إحجامها عن الحسم.
وآذن امتزاج التيارات والألوان في خضم العقد الثامن - وهو شهد الانسحاب من فيتنام، واتفاقات كامب ديفيد بعد الحرب العربية - الإسرائيلية الثالثة، وظهور اعراض أزمة اقتصادية عالمية آيتها دخول اوروبي مزمن في مرحلة ركود متطاولة، وانعقاد مؤتمر الأمن والتعاون في اوروبا في معرض إحراز الاتحاد السوفياتي "الانتصارات" في افريقيا وآسيا - آذن الامتزاج بانتقال جناح من الليبراليين، اقتصاداً وسياسة، وهم "تقدميو" السياسة الأميركية ويعدون في "يسار" الحزب الديموقراطي الى سياسة محافظة جديدة. فنشأت عن هذا الانتقال نواة "المحافظين الجدد" الذين تتردد اسماء بعضهم في الصحافة العربية اليومية. وحمل هذا الجناح في ترحاله، وهو حط الرحال بجوار رونالد ريغان 1980- 1988 ويلسونية رسالية عالمية ناشطة يصفها الفرنسي بيار هاسنر، اليوم، بلباس "الجزمة"، كناية عن المنزع العسكري، وسبق كيسنجر الى وصفها ب"القسمات المشدودة العضل"، كناية عن إيلائها القوة الأميركية مكانة عالية.
واتفق تبلور هذا الجناح، وهو جزء او وجه من صوغ سياسات بعضها ظرفي وبعضها صادر عن تقاليد عريقة، في غضون السبعينات، اي قبل تربع ريغان في الرئاسة، اتفق مع تخلي السياسة الأميركية تدريجاً عن التحفظ الذي صبغ من قبل تدخلها في الشؤون الداخلية. فمحل التوسل بالعمليات السرية، وتحريك الأنصار او العملاء، واستمالة بعض النافذين المحليين، حلت سياسة علنية. وجاء سن الكونغرس الأميركي، قبيل إقالة نيكسون، عقوبة على الاتحاد السوفياتي جزاء تقييده هجرة الشطر اليهودي من رعاياه، بياناً عن إدراج مسألة سيادية وداخلية في موجبات سياسة خارجية تنتهجها دولة اخرى. فكان قانون العقوبات الأميركي هذا مثالاً لإجراءات كثيرة لاحقة تناولت ترتيب الدول على سلم الرعاية التجارية والتقنية والعلمية الأميركية، من غير ان تكون بينها وبين الولايات المتحدة حرب أو قطيعة فلا تقارن بكوبا من قبل ولا بإيران من بعد، ورداً متأخراً على تخفف الكتلة السوفياتية باكراً من سنن العلاقات الدولية الأوروبية.
وفي العام التالي اقرت وثيقة مؤتمر الأمن والتعاون بأوروبا الختامية بنداً يوجب على الموقعين، وبعضهم دول شرق اوروبا ووسطها، احترام حقوق الإنسان. ويقيد البند السياسات الداخلية بإجراءات وقوانين تنضبط على هذه الغاية. ورأى بعض المراقبين، يومذاك، الى البند الجوهري هذا إيذاناً بخسارة الكتلة السوفياتية معركتها المعنوية والقيمية ضد الغرب الأوروبي - الأميركي، وابتداء المسير الى التحلل والتصدع. والحق أنه إقرار مرغم بنتائج العودة السوفياتية عن "حتمية الحرب" الستالينية قبل عقدين، من وجه، وبقصور الكتلة السوفياتية الفاضح في مضمار المنافسة الاقتصادية والاجتماعية المزعومة مع الغرب الرأسمالي، من وجه ثان، وببعض مترتبات حركات الانتفاض على السيطرة العسكرية والبوليسية السوفياتية بأوروبا، من وجه ثالث. وأفضى هذا في سياق العلاقات الدولية غداة الحرب الثانية، وفي اطار تدويل متعاظم لشبكات الإنتاج والتسويق والتمويل على ركن سياسات تايلورية في الداخل الأوروبي الأميركي، الى تصدر معايير سياسية واجتماعية وثقافية مشتركة غير منازعة. فضاقت الأطر الوستفالية، ومبناها على الدولة - الأمة الأوروبية وعلى القسمة بين "بطحاء" متمدنة وبين "ظواهر" برية او بربرية، ضاقت عن تمثل الحوادث والوقائع الجديدة.
ولم يعدُ رونالد ريغان، والمحافظون الجدد جزء من إدارته على معنى الكلمة الأوسع وهو يتضمن اصحاب الآراء والخبرات والرؤى، حين شن "صليبيته" هو كذلك على "سلطنة الشر" أو "خاقانيته"، اليقين الأميركي التقليدي باضطلاع "البلد" الأثير برسالة كونية مهدت العناية لها السبل، وأخرجت اميركا لتبليغها فحبتها المساحة والموارد والحماية والمهاجرين والإيمان والدستور وكلها علامات "اصطفاء" و"استثناء" وقبل الابتسام والسخرية ينبغي ربما المقارنة بين المذهب الأميركي هذا وبين تأويل شعوب وأمم اخرى ل"رسالتها" الخالدة على مر الزمن ومسوغات تأويلها. فجمعت إدارة ريغان المزاعم السائرة في الفرادة الأميركية ومصدرها الويلسونية، والتصدي الحاسم للشر ولواء جاكسون هو الخفاق، وتقدم المصلحة الأميركية واحتسابها في الالتزامات الخارجية على مذهب ألكسندر هاميلتون، وألفت بينها.
إحجام وافتراق
فمهد الجمع والتأليف هذان لاطراح رئاسة كلينتون، في العقد الأخير من القرن العشرين، مبدأ جون كوينسي آدامز المعتزل والمتحفظ، ولإنزال الدفاع عن حقوق الإنسان في البلدان والمجتمعات الأخرى، بما فيها بلدان ومجتمعات من غير دول ولا مبان سياسية متعارفة مثل الصومال او بلدان ومجتمعات تقوم في دوائر ثابتة مثل البوسنة وكوسوفو بأوروبا، منزلة الصدارة من السياسة الخارجية الأميركية. ولعل "بناء الدولة" - ويراد به تولي السياسة الأميركية، جيشاً وإدارة مدنية وشركات وجمعيات غير حكومية وخبراء، الإسهام المباشر في رفع الهياكل التي تأتلف منها حياة وطنية داخلية ومستقرة ويرجى آمنة. هو ثمرة من ثمرات المذهب المركب، والمثلث المصادر، هذا، على رغم ترجح الإدارتين، الديموقراطية مع كلينتون والجمهورية مع بوش الابن، بين الأخذ به، على تردد، وبين تركه وتحميله أوزار ترنح سياسة كلينتون الخارجية وتبديدها الموارد على أمور لا مدخل إليها من المصلحة الوطنية. وذلك قبل العودة الى الأخذ به اخذاً قوياً غداة هجمات 11 أيلول سبتمبر.
فانتهاء الحرب الباردة الى انهيار "مملكة الشر"، في ختام ثلاث ولايات رئاسية جمهورية تولى الاثنتين الأوليين منها رئيس واحد هو ريغان، غذى في صفوف الشعب الأميركي نشوة انتصار عامة، وحقق حسبان الولايات المتحدة الأميركية في نفسها، وفي رسالتها وجدارتها بها. ووقتت المفارقةُ ترئيس اميركا، غداة تبدد القوة السوفياتية، عليها رئيساً هو الأول من جيل المولودين بعد الحرب الثانية، والمتأدبين بآداب معارضة الحرب والهرب من خدمتها، والعازفين عن انتهاج سياسة خارجية قوامها موازنة القوة بالقوة. وبعض رأي جيل الرئيس السابق في الحرب الباردة يميل الى تحميل الولايات المتحدة نفسها، ومبالغتها في الاعتبارات الاستراتيجية الأمنية، جزءاً من المسؤولية عن دوام الحرب واستطالتها. ولكن النازع الى اطراح سياسة موازنة القوة بالقوة، او الى إضعاف اعتبارها، لم يحل بين الكونغرس الأميركي وبين الاقتراع على قرار يلزم الصين، غداة تين ان مين وفي ذروة الشراكة الاقتصادية الأميركية - الصينية، حرية الرأي والصحافة والاجتماع والتظاهر. ويلزمها تالياً طي صفحة خمسة آلاف سنة من استبداد "ابن السماء" وطبقة المثقفين من إدارييه وعماله، قبيل زيارة الرئيس الأميركي إليها.
فربط بعض كبار المسؤولين في ادارة كلينتون، شأن المحافظين الجدد اليوم، بين امن الولايات المتحدة الأميركية وأمن الأميركيين من الإرهاب وتدمير البيئة وانفجار الحروب وتقلب الأحلاف على حين غرة، وبين استتباب الديموقراطية في المجتمعات عموماً، وحملوا هذا على ذاك. وأوكلوا الى اميركا "الرسالة" والقانون والسياسة، وليس الى اميركا القوة والديبلوماسية، تبليغ مجتمعات الأرض وأقوامها ودولها، لا يستثنى مجتمع او قوم او دول، عهداً جديداً لم يسبق ان اضطلعت به دولة، او دول، من قبل. فنزعوا، على زعم بعض المحافظين الجدد اليوم، منزعاً اوروبياً. وخلَّصوا، أو زعموا تخليص السياسة من القوة والسلطان، وحملها على الحق والقانون وهيئاتهما في الداخل والخارج وينسب روبرت كاغان، احد كتّاب المحافظين الجدد، هذا الزعم الى "ما بعد التاريخ"، او الخلافة على التاريخ.
وقاد المذهب المترجح والمتردد هذا الى سياسة يدفع بعضها بعضاً وينقضه. فأحجمت إدارة كلينتون عن معالجة المسألة العراقية، على رغم رشح مخاطر استراتيجية عنها في الخليج والشرق الأوسط عموماً، واقتصرت على "تأديب" ورد ضعيفين غداة حمل صدام حسين مفتشي "انسكوم" على الرحيل. ولكنها اهابت بحلف الأطلسي خوض الحرب الأولى في تاريخه طوال نصف قرن كامل رداً على جرائم حربية في حق الإنسانية لا يترتب عليها خطر من اي ضرب يُخشى ان يصيب مصلحة وطنية اميركية، او أوروبية مباشرة، بأذى. وظهرت على السياسة الديموقراطية الوسطية التي قادها كلينتون بوادر تردد وإحجام بإزاء مسائل دفاعية استراتيجية مثل إنشاء شبكة صواريخ مضادة للصواريخ، كان بول وولفوفيتز، اعلى المحافظين الجدد منصباً سياسياً، اضطلع في عهد ريغان بدور راجح في سبيل إقرارها، وابتداء تنفيذها. واتفق ذلك مع سياسة اميركية بإزاء روسيا والصين اتسمت بسمات "أوروبية"، على المعنى المتقدم، لا تنكر. ولعل تواتر المواقف السياسية الأوروبية، في اثناء العقد العاشر، التي نمَّت باستعجال عمود حلف الأطلسي الأول طي صفحة السياسة القائمة على رصد مصادر التهديد، والرد عليها رداً متماسكاً في اطار استراتيجية قد تكون باهظة التكلفة - لعل تواتر هذه المواقف هو ما حدا بالسياسة الأميركية الى انتهاج طريق اسهم المحافظون الجدد في تمهيدها وتعبيدها. ففي القلب من الأفكار التي تنسب الى هؤلاء، وهي محصلة مركب من المصادر والتقاليد والأحكام، افتراق بين عمودي المؤسسة الدفاعية الأطلسية قادهما الى استشراف "الجنة" على نحوين مختلفين.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.