نحيا في عصرٍ استهلاكي سريع. كل يوم تقذف المطابع الى الأسواق عدداً لا يحصى من الكتب. ماذا نقرأ وماذا نُهمل؟ من يدلّنا الى الكتاب الذي يستحق القراءة؟ النقاد؟ لكن من هم النقاد؟ هؤلاء الذين يكتبون في المجلات والصحف وعلى أغلفة الروايات؟ هل نستطيع أن نثق بآراء كل هؤلاء؟ لن تقرأ نقداً سيئاً على غلاف كتاب. بالتأكيد لن يُثبت ناشرٌ على غلافٍ هجاءً في الكتاب الذي ينشره. هذا مفهوم. الهجاء غير مفيد تسويقياً. يستطيع القارئ ان يدخل الى أي مكتبة وان يقلب بين يديه ما تعرضه رفوف وطاولات وان يصاب بالحيرة. كل هذه الكتب! وكلّها مزينة بعبارات الثناء! الروايات الأميركية تحيا في الواجهات شهراً أو شهرين أو ثلاثة ثم تحتل مكانها مجموعة أخرى مماثلة: بهذه السرعة يجب تسويق الكتب. بالشهور. أعداد كبيرة من الروايات تختفي ولا تطبع مرة أخرى. لكن يكفي أن يبرز كتاب واحد بينها. كتاب واحد يكفي ليصنع المؤلف ثروة وليصنع الناشر ثروة. الفكرة هي الكمية. ترمي في السوق عدداً ضخماً من الأعمال وتنتظر نجاح عمل منها. يكفي أن ينجح كتاب واحد. وكلما نزل الى السوق عدد أكبر من الكتب كلما ارتفعت نسبة النجاح. نحيا في عصرٍ استهلاكي. وكل ما يدر مالاً يُسمح به. ليس عيباً أن تكتب من أجل الربح. وليس عيباً أن تنشر بصفتك تاجراً. لا نعيش في مدن فاضلة. وهذا مفهوم. الكتاب أيضاً سلعة. ماركس يصف مأساة صانع أحذية كان يصنع الحذاء كاملاً فصار - في العصر الصناعي الحديث - يصنع النعل فقط، أو لسان الحذاء، أو الكعب. ماركس انتبه الى "معنى السلعة": فجأة يٌعطى الإنسان المكان الثاني، ويُسرق منه المكان الأول. * تدخل مكتبة فتضيع بين العناوين. كيف تنتقي الكتاب الذي يستحق القراءة؟ الكتب كثيرة. والكتب الجيدة قليلة. يتعلم الإنسان هذا باكراً. إذا كان انساناً قابلاً للتعلم. الكتب لا تُعد. والكتب الجيدة نادرة. ما هو الكتاب الجيد؟ ما هو الكتاب الكلاسيكي؟ يقترح ايتالو كالفينو تعريفاً مبتكراً للأدب الكلاسيكي: انه أدبٌ يُقرأ مرة تلو أخرى. "هاملت" مسرحية كلاسيكية لأننا نقدر أن نقرأها أكثر من مرة. "المخطوف" رواية كلاسيكية لأن أحدنا قد يقرأها عشر مرات ولا يملّ من وصف المطر المنهمر على التلال السكوتلندية. "بيدرو بارامو" لخوان رولفو كلاسيكية بعالمها الواقعي - الخيالي. رحلة ابن بطوطة أدب كلاسيكي لأنك تستطيع أن تقرأ بعض مقاطعها عشرين مرة على مدى عشرين عاماً. في مطلع كل خريف ترجع الى وصف ابن بطوطة لحياته في الهند مثلاً وترى جلوداً مصلوبة وتبصر الملوك والأفيال والهدايا والولائم والنساء. في منتصف كل صيف تقرأ اعترافات دي كوينسي وتتذكر كولريدج. هذان كلاسيكيان أيضاً؟ هل نعتبر وليم فوكنر كلاسيكياً؟ هل تعود الى "بينما أرقد محتضرة" كل عام؟ ما هو كلاسيكي بالنسبة الى كالفينو قد لا يكون كلاسيكياً بالنسبة إليك. هذا صحيح أيضاً. من يدلنا الى الكتب الجيدة إذاً؟ * الأدب الكلاسيكي يُقرأ أكثر من مرة. تعود الى قصص بورخيس مرة تلو أخرى، وفي كل مرة جديدة يزيد استمتاعك بها. "حياة تيديو ايزيدورو كروز"، أو "الجنوب"، أو "فيونس المتذكر"، أو "الرجل الميت"، أو "التحدي"... هذه قصص لم تُكتب لتُقرأ مرة واحدة ثم تُرمى جانباً. الصفحات الأولى من "حمامة" للألماني باتريك ساسكند، وكذلك صفحاتها الأخيرة. "مئة عام من العزلة" تُقرأ سبع مرات بيسرٍ، ولعل الواحد يحذف أحياناً بعض الصفحات الخاصة بصراع أختين، أو يضرب صفحاً عن مقطع هنا أو مقطع هناك، لكن الرواية تُقرأ كاملة أكثر من خمس مرات، وكل قراءة جديدة تكشف أحاسيس وأسراراً صغيرة. بتكرار القراءة قد ننتبه الى أخطاء أيضاً: يُقال مثلاً أن جميع أبناء الكولونيل اوريليانو بوينديا قتلوا في يوم واحد. هذا غير صحيح. وماركيز انتبه الى هذا الخطأ بعد نشر الرواية. هل يجوز أن نسمي هذا خطأ؟ أحد أبناء الكولونيل بوينديا يُقتل بعد سنين من أخوته كلّهم قتلوا. حين يحدث هذا يجري نقض عبارة سابقة في الكتاب ذاته. هل التناقض مسموح في عالم الروايات؟ هل الخطأ مسموح؟ تولستوي وصف عربة عسكرية في "الحرب والسلم" لم تكن موجودة في زمن بونابرت. هل هذا خطأ؟ هل يُمنع على روائي ان يكتب عن جدة كريستوفر كولمبوس قاعدة مع صديقاتها الصغيرات تأكل البطاطا المشوية أو تدخن تبغاً... قبل عقود من اكتشاف أميركا! * اعادة القراءة فحص وامتحان. الكتاب الجيد كتاب يُقرأ مرة تلو مرة، ولا تمل منه. بل تزداد فيه رغبة. هذه كتب قليلة. موجودة بالتأكيد. لكنها ليست كثيرة. والسؤال هو: كيف نعثر عليها؟ نعثر عليها بالتجربة. وبالحظ. ونعثر عليها حين نرغب - فعلاً - في العثور عليها. الوقت يساعد أيضاً. على عادة الوقت. أما المشكلة فتكمن في ظاهرة تعميم الرداءة. لا يكفي ان الكتب السيئة تملأ المكتبات" يظهر دائماً من يُسوق هذا الأدب الرديء! هذا أيضاً مفهوم. ثمة من يبحث عن مال. وثمة من يبحث عن مردودٍ آخر. العامل المعنوي مهم. ورغبات البشري لا تحصى. في هذه الدوامة من العلاقات والمصالح والصداقات والأميّة والأهواء والكتب عليك أن تعثر على كتاب يستحق القراءة. لا بأس. هذا هو عالمك. هذه هي حياتك. والعزاء انك حين تبلغ الكتاب الذي أردته تبلغه قانطاً ومتعباً وراغباً في قراءة كلماته أكثر مما رغبت في القراءة حين بدأت الرحلة. * عجوز يحيا في مكتبة. هذه كل حياته. يقرأ، يرتب المجلدات القديمة على الرفوف، ويبقى حياً. حين يجوع ينزل الى الشارع ويشتري طعاماً. حين يعطش يشرب. هنا، بين الكتب، يحيا. القراء الذين يشترون كتباً والذين يستعيرون كتباً لا يبادلونه كلاماً كثيراً. يجد صعوبة في الكلام. نادراً ما يبدأ حديثاً. يحيا هكذا. وحده. لكن من يقول إنه بلا أصدقاء لا يعرف ماذا يدور في هذه المكتبة... حين يُقفل البوابة مساءً، ويفتح الكتاب.