اشتهر الكاتب الكندي، السريلانكي الاصل، ميكائيل اونداتشه على اثر تحويل روايته "المريض الانكليزي" الى فيلم سينمائي. نال الفيلم الجوائز واستقطب المشاهدين فانتبه الناس، عندئذ، الى كاتب الرواية وفي تلك الرواية جعل المؤلف من وقائع التاريخ الحديث قماشة لف الحكاية بها. كانت تلك الروايات من الحرب العالمية الثانية بأهوالها وما اختزنتها من ضراوة في النفوس والاجساد. في روايته الجديدة "شبح آنيل" يعود الكاتب، مرة اخرى، الى وقائع التاريخ ليستلهم فيها الكتابة. ولكنه اذ يفعل ذلك فإنما يرجع الى تاريخ بلده الاصلي، سريلانكا، فيأخذه مرجعاً ومتكأ وإطاراً للحكاية. وأي تاريخ اخصب بالضراوة والعنف والذهول اكثر من تاريخ سريلانكا؟ ولد الكاتب في ارض تضج بصخب الجماعات تنهش بعضها بعضاً، وهو اذ غادر البلاد صوب الاصقاع البعيدة فقد لاحقته الاصوات الصاخبة "ملأت سمعه ونظره اخبار الوطن تطفح بالدم". في "المريض الانكليزي" اختلط الخيال بالواقع وتجاورت الواقعة والصنعة. كان الحدث ذريعة لتقول المخيلة قوتها. وتبين ان الواقع كثيراً ما يصدم المخيلة بغرابته حتى تبدو هذه الاخيرة ضحلة وبائسة في ظلالها. كانت الحكاية تنهض من الوقائع والمجريات التي دونتها الاوراق وحفظتها الذاكرة. وفي "شبح آنيل" ينسج ميكائيل انوداتشه على المنوال نفسه. ولكن يملك بين يديه خيوطاً اكثر ويخيط قماشة اوسع من شواهد التدوين والذاكرة. يبدو صنيع المؤلف، هذه المرة، اكثر وضوحاً في مرجعيته، او مرجعياته، التاريخية. بل هو يبدو كأنه يسعى في توريط القارئ للاكتراث بالوثائق والارقام والتواريخ والأماكن. ويبدو النص، والحال هذه، وكأنه مأخوذ من نصوص اخرى، سبقته في التأريخ والتوثيق. يتوخى الكاتب ان يسرد فصولاً من سيرة بلده. ولكن السيرة تعيض عن السرد. ويلوح الراوي، وهو دالة الكاتب، ينهك نفسه في تصفيف مواد التاريخ ليصنع منها رواية. ولكنه يظهر في هيئة من يشير الى ان التاريخ روايات متعاقبة، متلاحقة، لا تنتهي فصولاً. وسواء تهيأت للحكاية مخيلة جامحة ام اكوام من الوثائق والاوراق فإن النص يميل الى اسناد كتفه الى الحوادث التي تمتلئ بها ايام الناس. لا يجعل الروائي من المدونات الرسمية والتقارير والكتب والارقام عناصر في حيلة فنية يلعب عبرها النص لعبته السردية. بل هو يرضى بأن تكون استراتيجيته في الكتابة موازية، ومساوية، لاستراتيجية التدوين التاريخي. ما تبقى سيتكفل السرد الروائي لصهره وتذويبه حيث ينتهي عملاً فنياً مبدعاً. وبالفعل، فالكاتب ينشغل، منذ البداية بإظهار انتماء الرواية الى الواقع. اي ان لها اصولاً، في التاريخ والاماكن، مما يمكن رسم شجرة نسيها بوضوح. وفي بدء الرواية يثبت الروائي ملاحظة ذات صلة بأحوال سريلانكا والاوجاع التي كانت تأتيها منذ الثمانينات وما برحت تتعاظم. و"شبح آنيل" هو "انجاز روائي يرتبط بهذه الحقبة من الزمن"، كما يقول، اما في خاتمة الرواية فإن صفحات عدة تكرس للثناء على اولئك الذين وفرّوا المساعدة وهيأوا الوثائق ولم يبخلوا بلوازم التوثيق والتدوين من كل صنف. وشأن المؤلف، في هذا، شأن باحث او عالم او اكاديمي. ومع هذا فالنص الذي يضمه "شبح آنيل" يمسك بالقارئ ويشده الى دائرة الجاذبية نفسها التي تختزنها الرواية المتقنة والمدهشة. اكثر من ذلك، تكتب الوقائع والحوادث والاسماء والاماكن سمات جديدة وتتكامل في ذوبان نصي، حكائي تبدو فيه وكأنها آتية من مخيلة لا تعرف الحدود. يشبه الكاتب عالم آثار يحفر في الارض وينتشل، لحظة بعد الاخرى، لقيات ومتروكات غابرة تبعث على الدهشة. والحق ان المؤلف يسند وظيفة مد الصفحات امام النص الروائي الى عالم آثار وباحثة في علوم الجريمة والتحري الجنائي. وآنيل، الطبيبة الشرعية المتخصصة في الجرائم، تزور سريلانكا في مهمة تكلفت بها من منظمات حقوق الانسان لاستقصاء احوال تلك الحقوق ومعرفة مصائر الناس العالقين في رحى حرب مديدة. وهي نفسها، اي آنيل، من سريلانكا ولكنها رحلت عنها منذ صباها واستقرت في الولاياتالمتحدة ودرست هناك. وهي، اذ تعود الى بلدها الاصلي فلكي تعيد النظر اليه بعيون جديدة وتكشف، بمرتبتها الجديدة، عن الوجه الفعلي، ولكن المخفي، للبلد. ستدرك، مع زميلها سارات، عالم الآثار، ان الاجساد مدفونة في كل مكان تقريباً، من دون ان يستطيع احد ان يحدد هوية الضحايا. وستتيقن من ان الدولة ومعارضيها، بل والاطراف جميعاً، ترتكب المجازر وتسحق الناس من دون رحمة. فالأمر يتعلق بحرب ما انفكت متواصلة منذ مئة عام، ولكنها تدار الآن بأسلحة جديدة. لقد تسرب الى الساحة تجار السلاح ومافيات المال والفاسدون والمرتزقة. تضيع آنيل في الحوادث المرعبة وتروح تطرح اسئلة حارة، قلقة، يائسة، عن مصير اعداد هائلة من الناس يحاصرهم الموت والرعب. القانون هو الى جانب القوة وليس الحقيقة. والحرب لا تتولد الا من الضياع. ضياع الحقوق، ضياع الروح، ضياع القانون، ضياع الحقيقة. في لحظة تتذكر آنيل قول احدهم في ان مأساة زماننا هو ان مصير البشر بات متشابهاً الى حد كبير. وبالفعل. فإن يغض القارئ الطرف عن اسماء الاماكن والناس سيبدو في امكانه ان يتخيل وقوع الحوادث في اي بقعة من العالم "الثالث" الذي تخنقه الازمات والحروب وشراهية الكره والدمار. الحرب التي تدور رحاها في سريلانكا تشبه الحروب التي تطحن الناس هنا وهناك. وفي الاحوال جميعاً يقبع في القاع ضيق افق مخيف وجهل مدمر: ان لا يرى المرء في التنوع القومي والاثني والديني سوى امراض تفتك بالجماعة التي يراد لها ان تكون مونوليتية وصلبة كالصخور. تحاول آنيل ان تحضر في طبقات الارض، بمساعدة عالم الآثار سارات، بحثاً عن جثث اخترقتها رصاصات قاتلة. هي تسعى لأن تتأكد من الاقاويل التي تذهب في اتجاه ان الحكومة تغتال المعارضين وتدفن جثثهم بعيداً من الانظار. ولكنها إذ تفعل ذلك فإنها تحفر في ذاكرة بلدها وتاريخه. انها تنبش جثة وطن مزقته رصاصات الفقر والجهل والتصعب والانغلاق وعدم التسامح. ولكن جهود آنيل تصطدم بتلك الصخرة المونوليتية التي مر ذكرها. في كل يوم يسقط من حول آنيل صديق او مساعد. يختفي اثره. تبتلعه الحرب. في كل يوم تتعثر آنيل بجثة جديدة. تصادف حكاية هول اخرى. انها اشبه بطائر حطت به رحلته التي حملته من بعيد في غابة تحترق. هي محاصرة باللهيب من كل جانب. سارات، صديقها، يصير ضحية جديدة، جثة مقطعة الاوصال يبعث مرآها على الفزغ. وفي الاخير تختفي آنيل نفسها وتتحول الى شبح يتجول في فضاء سريلانكا. تبدو رواية "شبح آنيل" اشبه بسلسلة حكايات لا نهاية لها. تتناسل الحكايات من بعضها بعضاً لذلك تفعل الشخصيات. شخصية تقود الى شخصية اخرى. كأن الرواية هي نفسها البنية الاركيولوجية التي سعت آنيل الى حفرها والغوص في اعماقها.