نظم قسم الفلسفة في جامعة باريس الثانية عشرة ندوة علمية حول "الظاهر والباطن في الفلسفة والدين" يومي 17 و18 حزيران يونيو 2002، شارك فيها جمع من المختصين في تاريخ الفلسفة والفلسفة التحليلية. وقد دعي الكاتب الى هذه الندوة من منطلق اهتمامه بالمثالية الألمانية. وهنا يورد عناوين أبحاث الندوة ويلخص مساهمته فيها: تضمن برنامج الندوة مسائل جوهرية في الفكر الفلسفي الحالي وكان التركيز على علاقة هذه الاشكالية بالوضع الانساني الحالي في صلته بالعولمة وبالأفق الوجودي المحدد لتصورات العالم والمواقف الفلسفية والحضارية المتصارعة او المتحاورة في راهن التاريخ. في اليوم الاول خصصت الجلسة العلمية الاولى لمسألتين رئيسيتين هما: "الوعي بالذات عن القديس اغسطينوس" قدمتها السيدة انيك شارل ساجي استاذة تاريخ الفلسفة القديمة والهلنستية وعلاقتها بالفكر الديني المسيحي في جامعة باريس العاشرة و"باطن الايمان والشهادة في القرآن الكريم: الشريعة الجهاد" لكاتب هذه السطور. وخصصت الجلسة العلمية الثانية لمسألتين أخريين هما: "أعاريب الباطن: الاستبطان والنزعة الذهنية وألعاب اللغة" قدمها السيد جان بيار كوميتي استاذ المنطق والفلسفة التحليلية عامة وفكر فتغنشتاين في جامعة أيكس أون بروفانس، و"مجتمع الإعلام ودين اللامعنى" قدمها جان ميشال بانيي من جامعة باريس الرابعة. وفي اليوم الثاني عالجت الجلسة الاولى الموضوعين الآتيين: "انعطاف العقل على ذاته وعلاقته بما بين الذوات: حول قراءة فاريلية لنظرية العلم الفختية" قدمها جان كريستوف جودار المختص في المثالية الالمانية في جامعة بواتيه، وتلت ذلك مداخلة السيد ايليان اسكوباس الاستاذ في جامعة باريس الثانية عشرة عالج فيها "قراءة هوسرل وهايدغر او الانسان من دون باطن". وخصصت الجلسة العلمية الاخيرة لعلاج العلاقة بين الباطن والضرورة قراءة قام بها السيد ألكسندر شنال المختص في فلسفة هوسرل. وقد ناقش قراءة دولوز لفلسفة هوسرل في مسألة العلاقة بين الباطن والظاهر. وانطلاقاً من العلاقة المتينة بين مأزقي الانطواء في الذاتية الشخصية او الجماعية، الانطواء الذي تستند اليه فلسفات الباطن انغلاق الذوات والحضارات وتعذر التواصل حاولت علاج المسألة في الفلسفة العربية بمحدديها الاساسيين: خاصيات الوضعية التاريخية الراهنة لحضارتنا في علاقتها بالغرب كما نعيشها الآن، وصلة الفهم الغربي لهذه العلاقة بالمثالية الالمانية عامة وبوصف هيغل لها في الباب الاخير من فلسفته في التاريخ. فهو قد حدد في هذا الباب الخاص بالمرحلة الرابعة من التاريخ الانساني في عنوان "العالم الجرماني" منزلة الفكر العربي والاسلام، واصفاً الاسلام الذي يسميه "المحمدية" بكونه النظير السلبي للاصلاح المسيحي وللروحانية المسيحية الغربية. فهذه تمثل عنده حقيقة الروح الباطن لكونها بلغت الى الروح الذي اتم تعينه في الوجود المحدد فكوّن عالماً ذا اعماق، في حين ان الاسلام في رأيه ليس إلا روحاً مجرداً لم يتجاوز الانتشار الخارجي الذي يمثله الغزو الهدام للحضارة. والمعلوم ان هذا الفهم هو الاساس الاول والأخير لكل ضمينات الفكر الاستشراقي التي انكشفت معالمها بصراحة منذ الحادي عشر من أيلول سبتمبر، بل صارت جوهر الخطاب الرسمي ومضمون الفكر الاستراتيجي الذي حدد وظائف الحلف الاطلسي الجديدة فضم اليها بقايا حلف وارسو. ولم يكن هدفي الدفاع عن الحضارة العربية بقدر ما كان همي بيان امكان مساهمة الحضارة العربية الاسلامية مساهمة فعلية في المستقبل، فضلاً عن مساهمتها الماضية في تجاوز أمرين مهمين: اولهما تجاوز النتائج الهدامة لفشل الاصلاح الديني، فشله الذي اثبت عكس ما تصور هيغل، اذ تمكن الفكر الفلسفي النقدي للمثالية، الألمانية وما نتج منها من شمولية عملية الماركسية ونظرية الوضعية من إدراك مخاطر فكر الاصلاح، اعني التعين النهائي للميتافيزيقا في ما يسميه هيغل بالفكرة التامة او بالكلي المتعين المقابل للكلي المجرد الذي ينسبه الى الاسلام حطاً من شأنه. والثاني هو تجاوز التحليل السطحي لما يتهم به الاسلام اليوم من ارهاب، ليس هو في بعض مظاهره الا احد اعراض المرض الحضاري الكوني في صورته العولمية، لكون علاقة الاسلام والمسلمين بالارهاب كانت ولا تزال علاقة نقدية، تأسس جل الفكر السني على رفضه باعتباره من امراض القراءة الباطنية للفكر الديني والفلسفي، ومن ثم فهو من توظيفات الدين والفلسفة، اي دين وأي فلسفة، وليس خاصاً بالاسلام. فكانت هذه الندوة المناسبة المفضلة لكي اعرض كيفية علاج الفكر العربي لقضية الباطن والظاهر في مفهوم الشريعة التي صارت الدعوة الى تطبيقها مصدر ما يتهم به الاسلام من بدائية وتخلف في علاقة المسلم بالمسلم من جهة القانون الشرعي في الداخل وفي مفهوم الجهاد الذي صار التلويح به من اكبر الادلة على العدوانية المنسوبة الى المسلمين في سلوكهم الموصوف بالارهاب في علاقة المسلم بغيره من جهة القانون الشرعي في الخارج. وقد عرضت علاج الفكر العربي لهذه المسألة في مستوياتها الثلاثة التالية، لبيان ما يمكن ان يصيبها من انحرافات تصورها هيغل عين الفكر الاسلامي، في حين ان النقد النسقي الذي انجزه كبار مفكري الاسلام يدل الى سعي المسلمين الدائب لتحرير البشرية من اسبابه، كما نراهم الآن في صراعهم مع تعيني الارهاب المطلق او الدولتين الدينيتين المستندتين الى اسطورة الشعب المختار في اميركا واسرائىل. ففي المستوى الاول عرضت علاج الغزالي لمسألة التطرف الباطني في كتابه "فضائح الباطنية" الذي درس نتائج توظيف الفكر الديني لأغراض سياسية، وما يمكن ان يؤدي اليه من نزعة ارهابية بلغت الذروة في فكر الباطنية التي افرزت فرقة الحشاشين، اولى تجارب الارهاب في الحضارة الاسلامية. ومن ثم فكتاب "فضائح الباطنية" يمثل عملية تصد فكري وفلسفي للارهاب بصورة فلسفية عالجت علله العميقة، فسعت للمرة الاولى لدحض نظرية الحكم الثيوقراطي وحددت اساسي الحكم الانساني في الاسلام: اعني تساند الشرعية دينية كانت ام عقلية والقوة الساعية لتحقيق القيم الانسانية. كما عالج الغزالي مسألة التطرف الظاهري في كتابه "إحياء علوم الدين" محللاً توظيفه الفقهي لحصر الدين في مظاهر خارجية هي علامات التقوى المنافقة. وبينت ان ما يميز الحركات السياسية الدينية المتطرفة الحالية هو الجمع بين هذين التطرفين: وذلك هو الانحراف الذي تعانيه الصحوة بعد أن وظفتها القوى الاستعمارية لخدمة أغراضها. وهذا الانحراف هو الجمع بين السلوك الباطني العنيف الغالب على المغالي من المعارضة الدينية والسلوك الظاهري المنافق الغالب على المغالي من الاسلام الرسمي وليس للوجهين ادنى صلة بمبادئ الاسلام الاساسية، بخلاف ما يتصور هيغل لكون كبار مفكري الاسلام بدءاً بالغزالي وختماً بابن خلدون اقتصاراً على المدرسة الاشعرية التي تمثل اكبر فرق السنة، كانوا ادرى به من هيغل الذي اقتصرت معلوماته في تاريخ علم الكلام على ما ورد في كتابات ابن ميمون. ثم عرضت علاج ابن خلدون لمسألة العلاقة بين الباطن والظاهر في الدين من خلال مستوييها في كتابه "شفاء السائل": ظاهر النفس وباطنها اولاً وظاهر النص وباطنة ثانياً. ويعد حله للمستوى الاول بنظرية المجاهدات التي تعد حلاً فلسفياً علمياً يستند الى العلاقة بين النفس والجسد، وحله للمستوى الثاني بنظرية العلاقة بين اللغة وما يقبل القول من الفكر والوجود، عين الحلين اللذين تميل اليهما مدارس الفكر الفينومينولوجي والتحليلي والهرمينوطيقي، مع تجاوز ابن خلدون هذه الحلول الى اساسي الانحراف، اعني مسألة المثالية المطلقة في تصوف وحدة الوجود المطلقة، ومسألة التوظيف السياسي للدين في الفوضى الروحية والسياسية التي يمكن ان تنتج من حصر الدين في توظيفاته السياسية والفقهية. أما المستوى الثاني فيتعلق بمسألة حدود العلم الانساني في مقابل مزاعم المعرفة بالبواطن، سواء كانت هذه المزاعم فلسفية تتعلق ببواطن الطبيعة والعالم او صوفية تتعلق ببواطن الشريعة والتاريخ. وهنا ايضاً يعود علاج الامر الى الغزالي. فهو قد طرح المشكل فلسفياً في "تهافت الفلاسفة" فبيّن ان كل ما يزعمه الفلاسفة علماً بالحقائق المطلقة ليس هو إلا مجرد جدل يمكن بحجج مكافئة إثبات عكسه، مؤكداً ان المعرفة التي لا تؤيدها التجربة الخارجية بالنسبة الى العالم الطبيعي والتجربة الروحية بالنسبة الى العالم الخلقي ليست معرفة لا بالبواطن ولا بالظواهر. ومن ثم فلا يمكن أي معرفة ان تكون مفيدة اذا لم تجمع بين الباطن والظاهر، كما يؤكد ذلك في كتابه "مشكاة الانوار" الذي هو تأويل لآية من سورة النور. فبين ان الباطن ليس عكس الظاهر بل هو شرط الادراك الذي يتصاحب فيه بعدا النفس الروح والجسد وبعدا النص المدلول والدال: ذلك ان الظاهر ليس مجرد قشر للب، هو غيره كما يتصور الفلاسفة والمتصوفة، بل هو كما تفيد الكلمة في معناها الاعمق الامر الباطن الذي يبرز فينتأ لكونه الغالب فيكون الظهور بمعنى الغلبة التي تنقل الموجود من الكمون الى الحصول الفعلي. فإذا وصلنا الى المستوى الثالث المتعلق بالفعل التاريخي المحقق للقيم والجامع بين الدين باطناً والسياسة ظاهراً عاد الكلام الى ابن خلدون. فالظاهر هنا هو القوة والعصبية والباطن هو العقيدة والشرعية الخلقية. وقد اوّل ابن خلدون كل الحروب الاهلية التي حدثت في صدر الاسلام فعزاها الى سوء فهم العلاقة بين الباطن او الشرعية الدينية والخلقية والظاهر او القوة السياسية والعصبية. فبعض الشيعة تعلق همه بباطن اعزل يدافع عنه من دون مراعاة جانب عامل القوة السياسية التاريخية. وبعض السنة تعلق همه بظاهر عري يدافع عنه من دون مراعاة جانب الشرعية. وتلك هي علة الحرب الاهلية التي ما زلنا نحيا بعض اذيالها. ويمكن ان نقول إن هم المقدمة الاساسي هو بيان مزالق الفصل بين البعدين: فكل "دعوة دينية من دون عصبية لا تتم" وكل "عصبية من دون قيم تفضي الى الهرج". كان هدفنا من هذه المشاركة ان نبين ان الشريعة في معناها الاسلامي العميق لا يمكن ان تقتصر على الدعوة الى تطبيق الحدود وفرض سلوك معين بل هي في جوهرها، كما حددها الغزالي وابن خلدون، مجاهدات روحية تبين بالجهد الخلقي كيف يمكن الانسان ان يحقق في حياته القيم التي يؤمن بها، وهو امر لا معنى فيه لظاهر من دون باطن او لباطن من دون ظاهر، بل المهم فيه هو التطابق بين الوجهين، وان الجهاد ليس عنفاً اعمى يحصر الشرعية الدينية في القوة السياسية بل هو جهد لتحقيق القيم بشرط الحرص على العدل والحرية جمعاً للصدق داخل النفس او الباطن والحقيقة خارج النفس او الظاهر. ويجمع بين الوجهين العلاقة المتينة بين تناهي علم الانسان ولا تناهي الوجود المعلوم. فيكون كل زعم لحصر معاني الوجود وحقائقه في علم الانسان مصدراً لكل انحرافات العلاقة بين الظاهر والباطن، سواء كان هذان الوجهان متعلقين بالانسان او بالعالم او بالقرآن او بالله او بالوجود ككل، وذلك هو مصدر كل تعصب وإرهاب يصيب الفكر الانساني سواء كان دينياً او فلسفياً، اسلامياً او غير اسلامي. والنتيجة الاهم هي بيان فساد التأويل الهيغلي وتكذيب التاريخ لبنوءتيه المتعلقتين بنهاية التاريخ وبخروج الاسلام منه. فهو قد ظن انحراف الظاهر العثماني ممثلاً لجوهر الاسلام، فاستنتج انه مجرد نفي لكل تعين وانه تصحير للوجود خلطاً فادحاً بين نفي اطلاق التعين واطلاق نفي التعين. وليس ذلك مجرد تقديم وتأخير لمحدد وصفي كثيراً ما يحصل في العلاج المنطقي الصوري بل هو سوء فهم عميق للعلاقة بين الاصلاح المسيحي الذي حرف الروحانية الدينية والاصلاح "المحمدي" الذي لم يكن في وسع هيغل ولا الفكر الغربي ان يفهماه، ما داما يتصوران الله قابلاً للحلول في المخلوقات عموماً وفي ابنه خصوصاً. تلك هي العلة التي ادت الى اهم نتائج الوهم الهيغلي ممثلاً لجوهر المثالية الالمانية: فلسفة المطلق المتعين تنتهي الى كل انحرافات التنوير في المثالية الالمانية وما انتهت اليه من شموليات هي مصدر كل الارهاب في التاريخ الحديث، لكون ما قضت عليه الفاشية والنازية والشيوعية من البشر فاق مئات الملايين، فضلاً عن وهم نهاية التاريخ وصراع الحضارات في العولمة التي هي جوهر الكلي المتعين النافي لكل تعال وتجاوز. * كاتب تونسي.