"هذي الأسطورة التي نصنعها هنا، والآن هي نحن، مثلما انها الحقيقة ايضاً. وسواد سطا أحد على هذه الأنشودة أو ذلك الابتهال وعلى تلك الحكاية القديمة واقعية أم متخيلة كانت أو لم يفعل، فإننا نحن الذين كنا هنا وما زالوا في الأرض والرواية والذين صنعوا حضارة فلسطين وأنتجوها في التاريخ والمكان التاريخي وينتجونها". ما سبق ليس مقولة أحد بل الدلالة الواسعة التي اشتغلت على انجازها مسرحية "من تراب وأرجوان" للمخرجة سوسن دروزة وتمثيل إياد نصار ومنذر رياحنة وأحمد العمري الأردن وتهاني سليم وأشرف فرح وفادي عبدالوهاب وسامي متواسي فلسطين ومن انتاج ثلاثي عربي لفرقة مسرح عشتار فلسطين ومؤسسة مرآة ميديا ومسرح التياترو تونس وعرضت أخيراً في نهاية مهرجان جرش للثقافة والفنون. وأكثر ما يلفت الانتباه في هذا العمل المسرحي، الذي اغتنت دلالاته من مشهد الدم والأرجوان في الداخل وغذّت روحه، ليس الصوغ المشهدي الذي يطوع "الحكاية" لفضائه، حكاية الكاتبة نادية الغزي، فانتزعت منها مشاهد ربطتها بما يحدث الآن في فلسطين في مغامرة حقيقية بجعل ما يحدث هو الاسطورة التي عُثِر عليها مطالع القرن الماضي في رأس شمرا في الشمال السوري والتي يصوغها شعب بأكمله في مواجهة الغزاة. جاءت المسرحية في مشاهد خمسة انقسم غير واحد منها الى تجسيد للنص الاسطوري وما يحدث راهناً، معاً... ماري النسابة ولاجئ يحمل البقجة يتحركان في فضاء حكائي واحد في مشهد بالغ التأثير والجمالية. ودخل المتفرج الى هذه المشهدية عبر راويين فانتازيين أو لاعبين، كان تورطهما في اللعبة المسرحية على هذا النحو مغامرة اخراج هذه المسرحية في ما هي تستهدف توريط المتفرج غير أنها هجست أيضاً، أي اللعبة المسرحية كلها، بسؤال أكثر مما صرحت به ويتعلق ""بمن هو أنا؟" وذلك بالذهاب عميقاً الى أصل الصراع، فالذي يحدث الآن وقد حدث وتكرر حدوثه منذ عشرات القرون وعبرها... في كل واحد من المشاهد الخمسة كان تطويع الجسد لموسيقى وليد الهشيم في حالته التعبيرية الرفيعة لا يشي إلا بالقلق والانشداد الى حال شعورية داخلية عميقة بخطر يهدد بزوال عبّر عنه الملفوظ مثلما عبّرت عنه تلك الحال التعبيرية للجسد التي بلغت مستوى من اتقانها واحتراف في تصميمها إذ لو ان اي جسد لممثل ينحرف يكسر تلك الحساسية البالغة للزمن الكيروغرافي الأمر الذي هو شديد الندرة في المسرح الأردني مع انه منح العمل مسحة من المسرح التونسي بتوقيع رجاء بن عمار وتوفيق الجبالي. خشبة المسرح في امتداده الروماني المسرح الشمالي في مدينة جرش الأثرية بدت متقشفة، ليس سوى ذلك الجدار في العمق بلونه النيلي تخرج الشخصية من الكواليس خلفه الى الخشبة عبر بوابات ونوافذ بطراز شرقي كما لو انها تولد منه... ربما في معنى أن ذلك اللون الذي منح فلسطين واحداً من أسمائها أرض الأرجوان قد تخلقت الشخصية على الخشبة عبره لتجسد البعدين الأسطوري والواقعي... من ولادتها من تربة تلك الأرض الأولى، أي "من تراب وارجوان". وفي مستوى النظر ثانية الى الحكاية الجامعة مجسدة في شطريها الأسطوري والواقعي ما من قدر تراجيدي شبيه بذلك الذي لعوليس الاغريقي أو لسواه بل ثمة تراجيديا نابعة من بساطة الفعل الانساني فالمقاومة فعل ارادة وحياة مثلما هي فعل تذكر لكنه هنا تذكر تراجيدي فردي يعاين مصيره التاريخي بنون الجماعة واحساسه بها فحبل سرته لم ينقطع عنها. وربما ان هذا القدر على هذا النحو يكون تراجيدياً خالصاً. ذلك أن وطأة حضور الآخر غازياً ونافياً الى حد الابادة قد أغلق على الفرد أي منحى يعاين من خلاله المصير على نحو وجودي فردي فالأنا يمكنها أن تتساءل عن موقعها من العالم بل جعلته وطأة ذلك الحضور يفكر في ذاته كجزء من المشهد الطبيعي للوجود المحض الذي يتعرض الى تغيير تفاصيله عبر الاعتداء عليها واقتلاعه منها. أي ان الذات تفكر في معاينة موقعها من العالم من خلال اثبات الحضور الفيزيقي. انها تراجيديا الشخصية في "من تراب وأرجوان" مكثفة ومختزلة الى معناها الرمزي من دون ان تفقد بساطة حكايتها ففي البحث في الذات على نحو فلسفي ما يساوي الحضور الموضوعي المتحقق للفرد أو هو الوجه الآخر لعملة الوجود لوجهي ذلك الإله الروماني الغامض: جانوس. وهذا جزء من المعنى الذي تدخله كينونة الشخصية على الخشبة الى الشخص المتلقي. ولعل ما يؤكد ذلك، على رغم ما شاب بعض المشاهد من افاضة أو ارتباك كمشهد الملك الكبير مثلاً، احتفاظ النص الملفوظ بطاقة اشعاعية اسطورية: "تَهَجَّر شعب مريام... وتفجرت في عينه الدموع حمل صُرّتَه القماشية على عجل... ورحل مع الراحلين ستة من أصل الستين تساقطوا... سبعة من أصل السبعين تفرقوا ثمانون غرقوا في الشرخ... تسعون دفنوا في حيرة أيها القاضي هناك أشياء غير قابلة للترميم في هذا الكون". فضلاً عن حكايا ترد في الاسطورة فيها من الأمكنة الآرامية ما هو موجود الى اليوم بالاسم نفسه: بيت إيل بيت رام... الخ. كما أكدت ذلك علاقة الطاقة الاسطورية بشعرية ما في التمثيل لدى غير ممثل في الفريق نذكر تهاني سليم ورانيا الحارثي بما بذلتا من جهد استثنائي كما لو قالتا للممثلين، في صفة حضورهما هذه، أن يبذلوا كل ما فيهم من طاقة باستفزاز عالٍ للأدوات والمخيلة معاً. هي الروح النقية في "من تراب وارجوان"، على رغم وجود بعض الغموض أو الخلل، ما جعل أن يشاهد المرء المسرحية معادلاً لأن يقرأ شعراً يجري فيه ماء بكل ما في ذلك من سلاسة وبساطة وأناقة: قصة الملك الكبير والعلاقة الترميزية بالنخب السياسية، وقصة زائشة بنت النقاش كما لو أنها هي ذاتها سعاد سرور ناجية من المجزرة ذاتها، وحكاية النسابة ماري وأول الشتات ورعبه... كذلك اسطورة أقهات بن دانيال وملحمة بعل وعناة وكلها في قالب مسرحي حداثي كأنها كتابة الجسد واللون في فضاء تاريخي استجلب الحاضر من أبعد نقطة في التاريخ حيث الصراع كأفعى ما فتئت تبدل جلداً بآخر... إنه صراع إرادة وحياة.