يتردد الحديث منذ سنوات عن ان العصر الجديد الذي نجتاز اليوم عتبته هو عصر المعلومات. ويقال ان الرهان الأكبر في التنافس بين الحضارات والدول، بل المؤسسات والأفراد، هو الحصول على المعلومة المطلوبة في أسرع وقت وبأقل تكلفة. والواقع ان المعلومة في ذاتها كانت دائماً مبتغى المجموعات البشرية الفاعلة، اذ نعلم من أقدم الحروب التاريخية ان الانتصار كثيراً ما تحدد بالبراعة في تجميع المعلومات حول الخصم، وقد تحدد بذلك اكثر منه بكثرة الجيش والعتاد. كما ان النشاط التجاري كان يقوم على حسن استغلال المعلومات، وقد مكّن أمماً صغيرة من أن تلعب دوراً مهماً في التاريخ. أما المعلومة العلمية والتقنية فنعلم من خلال أمثلة كثيرة أنها كانت الدافع لنشاط محموم قامت به الحضارات والدول لتؤسس نهضتها أو تدعم سطوتها بأن تجمع المتوفر حولها وتدمجه في معارفها، ولنا في عصر التدوين العربي وبداية النهضة الأوروبية وعصر الميجي في اليابان أمثلة تشهد لذلك. وعليه، فإن قيمة المعلومة في ذاتها وبشتى أشكالها لم تكن غائبة عن وعي البشر منذ بدايات التاريخ، فما هو المتغير حتى نفرد العصر الجديد بكونه عصر المعلومات؟ قد يقول البعض ان الانترنت والشبكات العنكبوتية أحدثت ثورة لا مثيل لها في التاريخ وحولت العالم الى قرية كونية صغيرة. لكن إذا كان صحيحاً ان هذه الوسائل ستقلب عاداتنا وتؤثر في مسالك حياتنا فانها لا يمكن أن تعدّ فاتحة عصر ولا بوادر ثورة، فهي استمرار لمسار واحد بدأ مع اختراع التلغراف والمواصلات اللاسلكية ووسائل النقل الحديثة والاذاعة والتلفزيون الخ. فقبل هذه الاختراعات كانت المجموعات البشرية تعيش منفصلة عن بعضها البعض لا يعرف اي منها عن الآخر الا القليل الغارق في محيط من الخيالات. وقد قامت الثورة منذ أن تحول العالم الى خارطة صغيرة يحملها الطفل بين مقرراته ويمضي بها الى المدرسة. والرأي عندي ان جديد العصر لا يتعلق بقيمة المعلومة ولا وسائل انتقالها واقتنائها بل بمستوى العلاقة بها. فإذا كانت البراعة في السابق تتمثل في القدرة على الحصول على المعلومة فانها ستتمثل مستقبلاً في القدرة على تمييزها عن مئات المعلومات المضللة. فالعالم لن يكون قرية كونية هادئة يتحاور فيها الناس على بعد المسافات بل سوقاً صاخبة لا تتميز فيها أصوات العارفين ولا تدرك قيمة بضائعهم. فالمفارقة ان تعميم المعلومة لن يؤدي الى ان تصبح في متناول كل انسان، بل على العكس: ان يتطلب الأمر امكانات ضخمة للتمييز. فليس معيباً ان الذين سيطروا بالأمس على الأدمغة والمجتمعات بفضل قدرتهم على اصطياد المعلومات هم الذين سيسيطرون اليوم أيضاً لقدرتهم على التمييز والتمحيص، فضلاً عن التضليل لقدرتهم على تعويم السوق لاحتكارها تحت شعار تعميم المعلومة ودمقرطتها. ونحن نعلم ان الشكل التقليدي للسيطرة على العقول هو تغييب المعلومة بمنعها. لكن مقصّ الرقيب يبدو اليوم أداة بالية بالمقارنة بالأدوات الجديدة. فهناك أداة الاغراق والتعويم، أي اغراق الانسان بالمعلومات فلا يميز الصحيح منها ولا الخاطئ. بل لا يميز منها ما يفيده وما لا يفيده. وهناك أداة الالهاء، وهي أن ينشغل الانسان بتحصيل معلومات تحجب عنه أخرى لا يراد له بلوغها. وهناك أداة التضليل وهي ان يتوهم الانسان انه يحصل على معلومات وهو يضلل من خلالها، الى غير ذلك من أدوات أصبحت بارزة للعيان. كما نعلم ان المعلومة السياسية كثيراً ما تتحول الى "فرجة" يقبل عليها الانسان في وقت الفراغ كما يقبل على شريط سينمائي أو فعل موسيقي، يتوهم انه منشغل بشؤون عظيمة كما يتوهم المشاهد انه جزء من الحبكة في الشريط. ويخشى اليوم ان تتحول كل المعلومات الى هذا الوضع وتصبح مناسبات للترفيه، فيختزل الاقتصاد الى مشاهد يومية من البورصة، والثقافة الى وجوه معدودة تتمتع بالنجومية، والعلوم الى بعض الأحداث المثيرة للدهشة. مع ذلك ينبغي الاقرار بان التقنيات الجديدة المتاحة اليوم هي أيضاً فرصة جديدة بالنسبة الينا لمحاولة ولوج الحداثة التي اخطأنا مسلكنا اليها في عصر التلغراف، شرط أن نتذكر ان التقنية في ذاتها ليست الحداثة وان العقل يمكن أن يراوح مكانه رغم استبدال الدابة بالسيارة والبريد بالانترنت. واذا كنا مغرمين دائماً بالجدل في الماضي أو في المجردات فلماذا لا نجعل اليوم جدلنا حول هذه المواضيع بالذات؟