يترافق الحديث عن الحل السياسي لمشكلة جنوب السودان، مع الحديث عن المواجهة العسكرية. ومع أن الفصل بينهما يكاد يكون مستحيلاً، إلا أنه ضروري من أجل التوضيح والفهم. ونبدأ بقضية المفاوضات والوساطات التي تنشد الحل السياسي السلمي للمشكلة. وصلت المفاوضات السياسية السلمية حول جنوب السودان، الى ما يمكن أن نطلق عليه اسم "مأزق مجموعة إيغاد". تشكلت "الإيغاد" من الدول الافريقية المحيطة بالسودان، وكان غرضها الأساسي مكافحة الجفاف الذي أثر على البيئة الافريقية تأثيراً كبيراً. لكن مجموعة هذه الدول انتدبت نفسها الى دور سياسي في جنوب السودان، لحل مشكلة مستعصية عمرها حوالى أربعين سنة، ومع دخول "الإيغاد" على خط الحل السياسي، أضيفت الى مشكلة جنوب السودان تعقيدات جديدة، منها أنه عند قيام "الإيغاد" كان ثلاثة من أعضائها من أصل خمسة في حال حرب مع السودان اثيوبيا، اريتريا، اوغندا، سواء مباشرة أو من خلال تقديم الدعم للمتمردين في الجنوب. وكان هذا الواقع يعني أن وساطة "الإيغاد" تتناقض مع الواقع على الأرض، لجهة انحياز أطراف الوساطة ضد حكومة الخرطوم. بعد تعثر الوساطات من طريق "الإيغاد" قامت من خلفها مجموعة اطلقت على نفسها اسم "أصدقاء الإيغاد" تضم الولاياتالمتحدة الأميركية ودولاً أوروبية. وشكلت هذه المجموعة مشكلة اخرى للحكومة السودانية، إضافة الى أن المعارضة السودانية الشمالية، ممثلة بالصادق المهدي حزب الأمة وعثمان الميرغني الحزب الاتحادي كانت تعتبر أن "الإيغاد" و"أصدقاء الإيغاد"، لن يتمكنوا من حل مشكلة جنوب السودان، لأن هذه القضية يجب أن تحل في إطار تسوية سياسية سودانية شاملة للشمال وللجنوب، وتساهم فيها كل الفصائل المعارضة. وطالب الصادق المهدي بانضمام دول عربية، مثل مصر، الى جهود الوساطة، وتوسيع إطار الحوار والحل ليشمل "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارض وهو يضم المعارضة الشمالية مع حركة جون قرنق الجنوبية. وفي المقابل كانت السلطات السودانية عمر البشير وحسن الترابي حريصة على أن تفصل موضوعات المعارضة الشمالية عن مشكلة الجنوب. وحدث أن "الإيغاد" طرحت في نيسان ابريل 1996 ما أسمته ب"إعلان المبادئ"، ووقعته الحكومة السودانية. وينص البند الأول في هذا الإعلان على "فصل الدين عن الدولة". وكان هذا أحد الأسباب التي عمقت الخلاف بين الدكتور حسن الترابي من جهة، وكل من علي عثمان النائب الأول للرئيس والرئيس البشير من جهة أخرى، على رغم أن كثيرين يشيرون الى أن الدكتور علي الحاج نائب الترابي كان بين الموقعين على هذا الاتفاق انصار الترابي يقولون إنه كان ضمن الشهود على الاتفاق فقط، لأنه كان عضواً في الوفد الذي رأسه البشير". ويؤكد الدكتور علي الحاج، من جهته، أن علي عثمان طه النائب الأول لرئيس الجمهورية أصر على أن "إعلان المبادئ" هو مجرد جدول أعمال للمحادثات. وخلاصة هذا كله، إن الحل السلمي لمشكلة جنوب السودان، يراوح اليوم مكانه. فالحكومة قدمت من جانبها كل تنازل ممكن، مع الشروحات والتفسيرات اللازمة، ولكن جون قرنق مصاب بتعنت مزمن، وله ارتباطات تجعله رهينة لأجندة اجنبية. ويقول قرنق من جانبه إن الحكومة ليست جادة، لا في طرحها ولا في مواقفها. واليوم، وبعد مضي ست سنوات، تبدو "الإيغاد" وكأنها قد استنفدت أغراضها، ويبدو الحل السلمي لمشكلة الجنوب وكأنه يحتاج الى خطوة درامية جديدة، يتوافر فيها طرح جذري للمشكلة. لكن مشكلة الحل الجذري اليوم، أن الحكومة السودانية تواجه وضعاً خاصاً. فقد انقسم الحزب الذي كان يشكل السند الأساسي لها حزب المؤتمر الوطني، وهو الذي كان يتولى دور المرجعية، ويبادر الى اقتراح رؤيا جذرية لمعالجة مشكلة الجنوب. يضاف الى ذلك أن الحل السياسي السلمي لمشكلة المعارضة الشمالية ما يزال يراوح مكانه منذ عامين، أي منذ لقاء الترابي والصادق المهدي في جنيف. وهو لا يزال يراوح مكانه بعد المبادرة الليبية - المصرية، وبعد اتفاق جيبوتي الذي وقعه الصادق المهدي والرئيس البشير في مطلع هذا العام. وتحاول الحكومة اليوم نفخ الروح فيه، بابتكار وسائل جديدة، مثل "الملتقى التحضيري" الذي دعت له الحكومة الشهر الماضي، وأرادت أن يكون بمثابة خطوة، من داخل التجمع، نحو الحل السلمي لمشكلة المعارضة الشمالية. وقد قاطع اللقاء كل من الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني وحسن الترابي. ما هو الوضع الآن في جهات القتال الجنوبية؟ تعلم الحكومة أن قرنق يستعد لشن هجوم واسع يستهدف المدن الرئيسية، ويستهدف بشكل خاص مناطق إنتاج النفط، وتعلم الحكومة أن قرنق بات يملك جيشاً مزوداً بالسلاح، ويتوافر له التموين اللازم. وقد اتهمت الحكومة صراحة، المنظمات العاملة في مجال الإغاثة بأنها وراء حصول قرنق على السلاح والتموين، وأنها استغلت اتفاق شريان الحياة، الموقع عام 1989، أيام حكومة الصادق المهدي، لتوفير هذه الصلة غير الشرعية مع جيش قرنق. وبالاستناد الى ما أدلى به الرئيس البشير في لقاء تعبوي شعبي، يتضح اضطراب الموقف الحكومي. لقد أعلن البشير سحب ترخيص العمل من تلك المنظمات. ولكن اليوم التالي، شهد تصريحات من نوع آخر أدلى بها غازي صلاح الدين، وزير الثقافة والإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة. قال الوزير في تصريحاته إن حكومة السودان ملتزمة العمل مع أي جهة تمد المتضررين من الحرب بالغذاء، وتحتفظ في الوقت نفسه بحق مراقبة هذه المنظمات حتى لا تخرج عن إطار العمل الإغاثي البحت، وكانت الأممالمتحدة علقت رحلات "عملية شريان الحياة" موقتاً في 9 آب اغسطس بسبب غارات جوية أصابت موظفين في تلك المنظمات، وأعربت الحكومة السودانية عن أسفها للقرار. ومن المؤكد اليوم لدى الحكومة السودانية أن قرنق يحيط بالمدن الرئيسية في منطقة بحر الغزال، ويهدد مناطق البترول. وتقوم الحكومة بحملة شعبية شاملة للتعبئة، إنما في خضم صعوبات جمة أبرزها: الانقسام الحكومي، وتدني الروح المعنوية لدى الفصيل الإسلامي في السودان ومجموعة "المجاهدين" خصوصاً وهي عرفت بمثابرتها وصلابتها في العمليات الحربية ضد المتمردين، حتى في اللحظات التي لم يكن فيها الدور العسكري الرسمي فاعلاً. وإذا كان تحرك قوات قرنق الآن صعباً عسكرياً، بسبب هطول الأمطار الخريفية في الجنوب، فالصعوبة نفسها يواجهها تحرك نواب الجيش الرسمي. وقد يبقى الوضع على هذه الحال حتى نهاية شهر تشرين الأول اكتوبر المقبل، وحتى توقف الأمطار. وفي هذه الأثناء قد تحدث مفاجآت كبيرة.