وزير الطاقة يجتمع مع نظيرته الأمريكية ويوقّعان «خارطة طريق» للتعاون في مجال الطاقة    «الداخلية» تطلق ختماً خاصاً للمستفيدين من مبادرة «طريق مكة»    تحت رعاية ولي العهد.. انطلاق الملتقى العربي لهيئات مكافحة الفساد ووحدات التحريات المالية    «أثر نلمسه».. إصدار يرصد إنجازات التحوّل الوطني    "GREAT FUTURES" تعزز الشراكة الاستراتيجية بين المملكة وبريطانيا    واتساب يختبر ميزة تلوين فقاعات الدردشة    المزروع يشكر القيادة بمناسبة ترقيته للمرتبة 14    «نافس».. منافع لا تحصى لقياس الأداء التعليمي    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة في سباق للمجد.. الجمعة    "تاسي" أحمر والراجحي وأكوا باور يرتفعان    الشيخ خالد بن حميد يشكر القيادة الرشيدة بمناسبة ترقيته للمرتبة الخامسة عشرة    لقاح جديد لحمى الضنك    نائب أمير الشرقية يستقبل منتسبي "طويق"    واشنطن مستمرة في دعم إسرائيل بالأسلحة    ولي العهد يهنئ رئيس وزراء سنغافورة    خادم الحرمين يصدر أوامر ملكية    قمة البحرين ظروف استثنائية لحلحلة الأزمات    بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل يختتم دورة "تدقيق سلامة الطرق    المدربات السعوديات يكتسبن الخبرة الإفريقية    الأهلي يتمسك بذهب السيدات    أمير منطقة تبوك يتفقد مبنى مجلس المنطقة وقاعة المؤتمرات    فالفيردي: نلعب باسترخاء كبير في الوقت الحالي ونتطلع لنهائي دوري الأبطال    حالة رئيس وزراء سلوفاكيا حرجة بعد تعرضه لمحاولة اغتيال    الأحزاب المصرية: تصريحات متطرفي إسرائيل محاولة يائسة لتضليل العالم    افتتاح منتدى كايسيد للحوار العالمي في لشبونة    غوارديولا: لولا تصدي أورتيغا لكان أرسنال بطلا للبريميرليغ    4 أحزمة ملاكمة تنتظر من يحملها على أرض "المملكة أرينا"    القبض على مقيم لارتكابه أفعال خادشة للحياء    رئيس سدايا: السعودية مثال دولي في الذكاء الاصطناعي المسؤول والأخلاقي    «البلسم» تختتم حملتها الطبية في اليمن وتنجح في إجراء 251 عملية قلب مفتوح و«قسطرة»    زين السعودية تعلن عن استثمارات بقيمة 1.6 مليار ريال لتوسعة شبكتها للجيل الخامس 5G    «الموارد»: تمكين 22 ألف مستفيد من «الضمان» في سوق العمل خلال الربع الأول من 2024    الجامعة العربية تدعو مجلس الأمن لاتخاذ إجراءات سريعة لوقف العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين    مدير تعليم الأحساء يكرم الطالبة الفائزة ببرونزية المعرض الدولي للاختراعات    رئيس جمهورية المالديف يُغادر جدة    ضبط 264 طن مأكولات بحرية منتهية الصلاحية    وزير العدل يلتقي رئيس المجلس الدستوري في فرنسا    «النيابة»: باشرنا 15,500 قضية صلح جنائي أسري.. انتهاء 8 آلاف منها صلحاً    زلزال بقوة 5.1 درجات يضرب جزر قبالة سواحل نيوزيلندا    أمير تبوك يثمن للبروفيسور " العطوي " إهدائه لجامعة تبوك مكتبته الخاصة    «الصحة» تدعو الراغبين في الحج إلى أخذ واستكمال جرعات التطعيمات    نيمار يبدأ الجري حول الملعب    فيغا يعود للتدريبات الجماعية للأهلي    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج 2374 طالباً وطالبة من «كاساو»    أمير حائل يكرم عدداً من الطلاب الحاصلين على الجائزة الوطنية بمبادرة «منافس»    ..أنيس منصور الذي عاش في حياتنا 2-1    تمكين المواهب وتنشيط القطاع الثقافي في المملكة.. استقبال 2200 مشاركة في مبادرة «إثراء المحتوى»    إطلالة مميزة وطراز معماري فريد.. قصر العان.. قيمة تراثية ووجهة سياحية    أمير تبوك ينوه بالخدمات الراقية لضيوف الرحمن    اطلع على تقرير« مطارات الدمام» واعتمد تشكيل «قياس».. أمير الشرقية يؤكد على تجويد الخدمات ورضا المستفيدين    حجز العربات الكهربائية عن طريق "تنقل".. وصول أولى رحلات مبادرة «طريق مكة»    حمام الحرم.. تذكار المعتمرين والحجاج    تفقد محطة القطار ودشن «حج بلياقة».. أمير المدينة المنورة يطلع على سير الأعمال بالمطار    طموحنا عنان السماء    انطلاق برنامج الرعاية الأكاديمية ودورة البحث العلمي في تعليم الطائف    ( قلبي ) تشارك الهلال الأحمر الاحتفاء باليوم العالمي    الكلام أثناء النوم ليس ضاراً    تأثير العنف المنزلي على الأطفال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة الى كاتب عراقي
نشر في الحياة يوم 12 - 01 - 2000

لقد مرّ عشرون عاماً ونيف منذ التقينا آخر مرة. في ذلك العام أضحت بغداد مدينة أشباح بالنسبة الّي، في ما هي مدينة جولات وصولات بالنسبة اليك، جميع أصدقائي أدخلوا السجن، ماتوا، اختفوا أو هربوا. هناك التقيتك صدفة لآخر مرة ربما، حيث حاولت اقناعي بالعدول عن السفر، وحاولت جاهداً تبيان حسنات الالتحاق بركب كتاب السلطة الصاعدين سلم الوظائف والامتيازات. دافعت عن كتّاب التقارير الحزبية والوشاة وقصائد التمجيد، وكنت منهم بطبيعة الحال، مكذباً كل ما أخبرتك به عن أحوال الاصدقاء الذين ماتوا أو اختفوا، الذين ادخلوا السجن أو الذين لا أدري ما حل بهم، هل هربوا؟ فقد كنت تؤكد دائماً على اننا يجب ان نكون في خندق واحد، وهذا الخندق - حسب رأيك - هو خندق الحكومة، خندق الحزب الحاكم والسيد النائب. آه كم كنت تعبد السيد النائب، حتى انك كتبت كتاباً في ما بعد عنه، معتبراً إياه شاعراً... وايضاً بحثت عن أثره في الشعر، وقد أثر فينا حقاً هذا "السيد النائب". لكنك لم تدرس شعرنا ولا أثره فيه، فنحن بحكمك وبحكم حاكميك غير موجودين، لا نذكر ولا نرى وغير معروفين في بلداننا بفضلك وبفضل خدمتك وخدمة غيرك، يتجنبنا اللاقمون في الخارج، ولا نذكر اذا ذكر بلدنا. كل الحقوق أسقطت عنا، لكننا "كنا موتى واستطعنا التنفس".
فكّرت فيك لسنين بعد هذا، خصوصاً في الامتيازات التي كنت تتمتع بها، فقد كان بإمكانك النشر في كل مجلات الدولة وجرائدها. تتقاضى راتباً جيداً، تدعى دائماً للمشاركة في اللقاءات الثقافية، توفد ضمن الوفود الى بلدان أوروبية مثل: بلغاريا، رومانيا، هنغاريا، يوغوسلافيا... دائماً أتابعك من بعيد وأنت تسافر زائراً هذا البلد الشقيق أو ذاك البلد الصديق. وقد حاولت، على رغم هذا، أن أبقي خيوط الصلة قائمة في ما بيننا، فأنت - على رغم هذا - كنت صديق طفولتي، معاً خطونا الخطوات المرتبكة الأولى، في تلك الأيام ونحن نقرأ ونعيد قراءة "كتاب الطواسين"، ونردد في تلك الأماسي ذات النجوم والأقمار البيتين اللذين أصبحا شعاراً لنا:
نظري بدء علتي
ويح قلبي وما جنى
يا معين الظنى عل
ي أعني على الظنى
لهذا كنت أرسل اليك رسائل حذرة، منطلقاً من أنها ربما تؤذيك أو تشوه سمعتك وتعطي لرفاقك الجدد السبب الأنصع لكي يشوا بك. ومع ان هذه الرسائل ما هي الا رسائل موجهة الى تلك الصداقة القديمة، أو هي حنين وخوف من شيء أفقده، كنت أحدثك من خلالها عن مدن أوروبا، عن شعراء كنا نقرأ لهم وها أنا أرى بعضهم الآن ماراً في شارع ما، أو ربما مجرد شخص آخر توهمته هذا الكاتب أو ذاك الشاعر. ثم تحدث المفاجأة، فإذا بك بعد عام أمامي وأنا جالس على تلك الكنبة أمام معهد اللغات في تلك المدينة التي عاش فيها أو بقربها الكاتب الفرنسي بلزاك. كما فرحت بك حين رأيتك تضحك من بعيد وأنت تراني في تلك المدينة. لكني خجلت ايضاً كثيراً. لأني لا بيت لي ولا حتى غرفة... أي من دون مأوى ولا مصدر رزق. اذ كنت أنام حيثما تقودني الصدفة... أكل ايضاً بذات الطريقة. الإفلاس قد صفر منقاري وبت كشبح في تلك المدينة الغريبة. لكنك، وهذا ما آلمني كثيراً، بعد ان التذذت بباريس وأوشكت مصاريفك على النفاد، تذكرتني، وها أنت أمامي هنا، متعجباً مني ومن عيشتي، واكثر من هذا. كان تساؤلك الغريب: لماذا اعيش من دون صديقة؟ ذلك ان فكرتك عنا هي أننا نعيش في بيوت طبيعية تضم الى غرفها صديقة! لقد شعرت بالمرارة لأني اولاً لم استطع استضافتك، لأني لا املك مأوى ولا مورد مال، ثم ان ما يؤويني احياناً او سيستقبلني في ساعات الشدّة لن يقبل بذلك الآن، فأنت كاتب سلطة وحمّال تقارير او كاتب تقارير. ايضاً شعرت بالمرارة اكثر لسخريتك مني ومن احوالي وشعرتُ بالمرارة اكثر لسخريتك من جوعي! ثم لم تكتف بهذا، اذ عدت الى نفس اللعبة القديمة، مستغلاً حالتي المزرية، فشتمت الجميع وأخذت تسرد محاسن الحزب والثورة وال…… السيد النائب.
رسالتك الوحيدة اليّ والتي حدثتني عنها وصلت بعد رحيلك بأسبوع، مجرد تحية واشارة الى انك ستسافر وهي مكتوبة في نفس يوم سفرك.
كنت بعد عودتك تشتم "المتنافين" الذين خانوا الوطن والذين يعيشون على فتات موائد الأجنبي. عن اي وطن تتحدث، عن اي خيانة، من خلال اي منظور؟ نحن لا نعرف ولا القارئ يعرف، ولم يكن بامكاننا ان نسألك، اضافة الى انه لم يكن بامكانك الاجابة كما قدّرت. ثم لم تكتف بهذا، فقد اخذت تنظّر عن "علم الجمال البعثي" مرّة وعن "اعادة كتابة التاريخ" مرة اخرى. والاخيرة لم تكن تعني بالنسبة إليك اكثر من أن اصول الأكديين والسومريين والآشوريين كانت عربية. اما كيف حدث ذلك، فلا انا اعرف، وانت بالتأكيد لا تعرف ذلك.
ثم لم تكفّ عن هذا، فقد قرأنا لك مقالاتك او بالأحرى قرأنا عن مساهمتك الكبرى في "قادسية صدام" او "القادسية الثانية"، كذلك فوزك بجائزتها، ثم وصولك القمة حيث قلدوك وساماً كواحد من "اصدقاء السيد الرئيس".
حينما بدأت الحرب العراقية - الايرانية، كانت الجنازات تعود الى البيوت ومعها مبلغ 10 آلاف دينار عراقي 33 الف دولار اميركي تقريباً حسب قيمة الصرف آنذاك، مع سيارة لا ادري ما علامتها. وبدا كأن العراقيين ليسوا فرحين بالحرب فقط، بل كانوا يتسابقون الى ارسال ابنائهم الى جبهات القتال الأمامية.
هذه الرشوة التي كانت تتلقاها عوائل القتلى في بداية الحرب العراقية - الايرانية لم تثر فيك شيئاً، ولا في اولئك الكتّاب العرب الذين كنت تحتفل بحضورهم سنوياً في مهرجانات باذخة فخمة، وحكومتك الميمونة كانت تجزل لهم عطاءً اثار حسدك، انت ابن البلد، الحزبي، رافع التقارير، الواشي حتى على جاره.
ثم تمرّ السنوات التي ستستعيد معها تلك الرشوات، وتأخذ اضافة الى الأرواح، حلي الأمهات والاخوات والعرائس، كتبرعات اجبارية يُعاد سبكها لكي تُصاغ منها يد "القائد الضرورة" من ذهب، والذي بفضل يده السمحاء هذه حلّ الدمار وشاع البؤس وتشرد الناس شذراً مذراً، حتى انت نفسك، في بلد لم يعد يأمن فيه حتى الخادم على حياته! حسب تعبير واحد من اصدقائك، ذوي المقام الرفيع آنذاك وربما ما زال اليوم كذلك. فلم نعد نعرف متى ينفجر اللغم المؤقت، حسب نظريتك، ذلك ان كل واحد منكم كان ملغوماً ولا يعرف متى يطير به اللغم! فأنتم لم تعودوا تعرفون حتى الخطوط الحمراء، ولم يكن هذا الأمر عبارة عن قانون سري حتى يتم التعامل معه، كما تدعي، انما هو مجرد مزاج وشاة وجبناء.
لقد سارت الأمور سريعاً، واذا بك تجد جيلاً جديداً، كما قلت لي، تجد جيلاً بلا تجربة، جيلاً ممسوحاً يكتسحك انت وجماعتك. جيلاً كما تقول بلا اخلاق، لم يعرف الحلاج، ولا بودلير، ولا "الرفض كأنجيل"، انما هو جيل الرضوخ والعمى والدونية. وكأن هذا الجيل لم يتدرب على يديك، فمنك تعلّم اول حرف من أبجدية الخنوع، منك تلقى ملعقة الكذب والتناور وتسطيح الأشياء، وها انت تشكو من "هذا الجيل الخنوع، من هؤلاء الزعاطيط..."
ثم توقفت الحرب مع ايران، والتي يبدو انها حقاً تركت فيك اثراً كبيراً، فقد اخذت تدفع بناتك الى ارتداء الحجاب، امتنعت عن المحرمات، عدت الى ربك كما يقولون ان بحار العالم لو فاضت بالخير لك فانك لن تصيب منها الا ما كتب الله لك. وان نيران العالم لو اجتمعت لم تحرق منك الا ما كتب الله لك. وما هي الا اشهر حتى وجدت نفسك مجنداً ضمن وفد صحافي لمتابعة تطورات انضمام الكويت كمحافظة باسم محافظة "كاظمة" الى البلد الأم!
اما ما حدث من عمليات تبدو لك خفية قبل هذا، فلك ان تدعي بأنك لم تعرف عنها شيئاً. فقد كانت جرائد الحكومة تنشر البرقيات تلو البرقيات حول عمليات الأنفال التي راح ضحيتها 180 الف مواطن عراقي من الأكراد، اضافة الى مئات القرى التي محيت من الخارطة… مدينة حلبجة قصفت بغاز الخردل ووقع آلاف الضحايا كنت بعد اعوام هناك ومن هناك اشتريت بذور "الرشاد" وحينما عرف البائع هويتي رفض، ليس قبول الثمن فقط، انما حاول امدادي بالكثير من البذور الاخرى وألحّ كثيراً عليّ من اجل قبول عرضه. لكن اقول لك لا انت قمت بشيء من اجل هؤلاء، ذلك ان لسان حالك يقول ذلك ان مجرد الكتابة في جريدة خارج العراق هو بطولة من نوع خاص، ولا ابطال العروبة، الذين عدت ووصفت بعضهم بكونه "كان ينسج وجه البساط غزلاً بالعراق وسرعان ما اتجه الى قفا البساط بعد حرب الخليج، فكانت هذه الحرب المرآة التي كشفت نفاقهم الآلي…"، فلسان حالهم الدفاع المستميت طالما ان الدفاع عن البوابة الشرقية للوطن العربي مستمر والتحويلات كذلك، فهي الأساس هنا.
لكن هذه "اللمّة" الصحافية والتضامن المطلق سينهاران بشكل كامل ما ان عُرف أمر الحصار. وتوزع اصحابك وتركوكم لأنكم ببساطة لم تعودوا تدفعون، وبقيت لكم فقط صرخات شتات الجماهير هنا وهناك… تلك الجماهير التي تؤمن بالعجائب لكي يتسنى لها نسيان البؤس الذي تعيش فيه! لم يفكر احد بنا، لا انت ولا هم، كما لم يفكر احد فينا هناك… في الممنوعين من كل شيء، المعرضين للحصار بكافة انواعه، وحصار السيد القائد بالذات. وما ان سنحت لهم فرصة التمرد حتى اخذ لسان حالك يصفهم بكونهم ليسوا عرباً... لكأنما على الانسان في العراق ان يولد عربياً وإلا فلا وجود له، وانما هم جلبوا من قبل احد القادة العرب كرعاة مع الجاموس من الهند! لم يقشعر بدنك ولم تعد تفكر الى اي مدى يسير بك خنوعك. لكن التاريخ أرحم، ففي سوق الكتب المستعملة وجدت كتاباً من اصدار مجلة Life باسم "مهد الحضارات". ولم يكن مؤلفه الا عالم السومريات الأشهر: صموئيل نوح كرامر. وفيه وجدت مجموعة من الصور والشروح، وهي صور دالة تماماً إذ تعرض صوراً من الحاضر واخرى من الماضي، ومنها صورة الهور اليوم، البيت في الهور والجاموس، وهناك مقابلها صورة من ختم اسطواني تعرض لنا ذات الوجوه، البيوت والجاموس ايضاً. هل تعرف بلدك؟ انت لا تعرف حتى نفسك! سعيد هذا الانسان الذي ينعم بالجهل وينام هانئاً! لكن مشكلتك انك، على رغم هذا، لا تستطيع حتى النوم هانئاً، لا في بيتك ولا في بيوت الضيافة والفنادق الفخمة، فالتصوير والرقابة قائمان ليل نهار…
لكن حين اخذت السفينة تهتز، سرعان ما رأيتك وانت واقف في الطابور امام مقر منظمة الامم المتحدة بعمان، وبعد ان قبلوا الآخرين "الزعاطيط" رفضوك، فعدت تلعن "الامم المتحدة" وتشتم "اميركا". ليس هذا فقط، وانما عدت الى بغداد وكان وقت عودتك هو الوقت الذي يحتفل به "القائد الميمون" بعيد ميلاده... واذا بك كما تقول الصحيفة الحكومية "الذي عاد تواً من عمان وما ان تناهت اليه اخبار المهرجان الذي يقيمه المنتدى احتفالاً بعيد ميلاد القائد العظيم حتى حمل اوراقه وقصائده ليشارك بقصيدة…". ثم نراك تصرح للصحافة على خلفية هذا المهرجان فتقول: "كانت قصائدنا تتنفس عطر الميلاد بخياشيم الشعر، الميلاد الذي حلقت به الكراكي والفواخت وهي تهدل للشطآن البعيدة التي تسوّرها غابات القصب والنخيل، الميلاد الذي انبثق من مرابعه القمح والماء، تلك الحقول التي تلوح بالحلم السري المضيء على جبهة جدنا الذي لا يشيخ… جدنا السومري العراق…".
كل هذا قلته وقمت به بعد رسالتك اليّ من الاردن، بشوقك الى الالتقاء بيّ والتحدث عن الجرائم وعن المقاومة "البطولية" التي قمتم بها ضد الحكومة، ثم عن روايتك الضخمة التي - كما قلت - تفضح الوضع بكامله، وبأنك كنت طيلة الوقت تحاول الحفاظ على نفسك الخ… ومنها تطلب المساعدة وربما دبرت لك دعوة من اتحاد الكتّاب الالمان باعتبارك شاعراً معارضاً ومضطهداً وبأن عدي صدام حسين ارسل اعوانه لملاحقتك في الاردن وبأنه اتهمك بالخيانة! وكنت ايضاً تريد ان اقوم او اشارك في حملة عالمية للتضامن معك!
في البداية فرحت برسالتك، اذ قلت لنفسي انك قد صحوت اخيراً، وأنه يمكنني ان اساعدك، على الاقل مادياً. وبالفعل جمعت ما امكنني وارسلته اليك… لكن المسائل الاخرى! فقد فكرت وفكرت ورحت اتيه في تفكيري… فقد نشرت قبل سفرك مباشرة مقابلة مطولة مع "الاستاذ عدي صدام حسين"، ثم رحت اعيد قراءة آخر كتاباتك التي يبدو لي انك تتصور بانها لم تصلني… لهذا فقد قررت عدم الدخول في اختلاق كذبة كهذه.
لكن الامر الذي زاد الامور سوءاً هو احتجاجك على المبلغ الذي ارسلته اليك. إذ انك لم تشكرني، انما ادعيت بأن المبلغ ضئيل جداً ولا يعادل ثمن عشاء في مطعم عادي بالمانيا! هنا صدمت حقاً! لم اعد اعرف كيف اتصرف معك، واسقط بيدي! ذلك ان المبلغ الذي ارسلته اليك يكفيني لمدة شهر كامل، بما فيه زيارة المطعم مرة او مرتين في الشهر. لقد حاولت جهد الامكان مساعدتك، ومع ان بعض الغرور ركبني في البداية، إلا أنني شعرت بالبؤس فجأة، وتصورت بأن هذه امور تشكلت لديك نتيجة معلومات مغلوطة، وسرعان ما تزول. وهكذا منيت نفسي واعتبرت الامر مسألة وقت فقط! لكنك سرعان ما عدت ثانية الى بغداد وقرأت رسالتك التي نشرتها هناك: "… وكان ناس كثيرون قد سألوني من قبل: لماذا لم اكتب مباشرة الى مقام الرئيس القائد "حفظه الله". كنت وما زلت اتهيب الكتابة ومخاطبته مباشرة، لأنني أرى فيه الرمز المترفع عن خطايا الآخرين واخطائهم وخصوماتهم، وهو المرجعية التي لا يجوز اشغالها بهم اضافي غير الذي تحمله…".
هنا عجزت عن الكلام حقاً وحتى عن التفكير، واعتقدت بأنك قد شُوهت حقاً واختلافك مع الجيل الجديد ليس الا امراً مصطنعاً.
لكن هذه الامور جميعها مرت سريعاً واذا بك تتصل بي تلفونياً، تخبرني بانك قد تخلصت اخيراً من الكابوس. وفرحت بذلك وهنأتك بالامر، ثم ارسلت لك مجموعة من الكتب واتفقنا على اللقاء، وبناء على طلبك ارسلت اليك بطاقة السفر، حيث جئت واستقبلتك في المحطة وجئت بك الى شقتي، وقد تفاجأت بأنها شقة مستأجرة وبأني اسكن في شقة وليس في بيت خاص. ثم تفاجأت لأني لا املك سيارة، واكثر لانك بحثت طيلة الوقت في البيت ولم تجد تلفزيوناً ولا جهاز فيديو، فقط الكتب المنثورة والاحلام الطائرة.
لا أخفيك فرحي الكبير بزيارتك، فأنت كنت كاتباً مشهوراً حينما غادرت انا العراق، ايضاً فقد منيت نفسي في استعادة المشهد من جديد... وأكثر من هذا، انني كنت انتظر منك بعض الأشياء لكي أعرف ماذا حدث فعلا هناك: ماذا فعلتم، ماذا قلتم، ماذا قرأتم، كيف عايشتم الأحداث؟ وهل فكرتم بنا، ثم ماذا فكرتم؟ لم يحدث أثناء لقائنا شيء من هذا البتة، فأنت كنت تزوغ دائماً وتتساءل متى سنخرج الى السوق، وهناك كنت تبحث عن ماركات لملابس معينة، وسألتني الذهاب الى مطعم "مكدونالد" وهو من الأماكن التي لا أحب الذهاب اليها اطلاقاً... وحينما تحدثت كنت تستشهد دائماً بقصائدك، وهذا شيء أرعبني حقاً، فلا يستشهد الشخص بقصائده دائما الا إذا كان هشاً وفارغاً! لقد كانت زيارتك لي بمثابة كابوس! فقد طبخت لك وتعجبت أنت بأني ما زلت اتذكر الطبخ العراقي، وأكثر من هذا انك استغربت الأغاني التي سمعتها عندي، حيث تساءلت: منذ متى وأنت خارج العراق، ومع ذلك ما زلت تتذكرها؟
بعدها تقلبت بك الأحوال، فيوماً أجدك تمجد نضالك الشخصي ضد الديكتاتورية، وتشتم "مناضلي" الفنادق وتطالبهم بالعودة الى الوطن والنضال من هناك، ثم الأغرب من هذا شتمك لكل المقيمين في الخارج، ف"كل عذابات الأدب انه يولد وهو محمل بمحنة المعايشة الداخلية. ترى من أين يتأتى للاديب المغترب أن يجمع صورة اليومي، ويوميته لا تسهم في صياغة مفرداتها، ومن أين يأتي أديب المهجر بالوجع ان هو ألغى لسانه وتجربته ومعارفه، ومن أين يأتي شاعر المنفى بالصورة الشعرية الحقة وهو لم يعش اصوات الناس ونظراتهم اللامستقرة وحركة أقدامهم الماشية بكل اتجاه وصمتهم الممتلئ لغة اسطورية وهواجسهم التي تصنع الأسئلة الأشواك، ترى من أين يملأ أديب المنفى قربه الفارغة من الماء والطين وصوت المارة وحواف الأشياء المنتهية؟"...
وتساءلت مع نفسي: أما كان عليه أن يحدثنا عن هذا الواقع الذي يريدنا أن نتحدث عنه، خصوصاً هو القادم منه تواً! لكنك لم تتحدث، بل انزويت ولم تصف لنا ولا لغيرنا ما حدث، لقد اكتفيت بهذيانات بعد هذيانات وأخذت تردد تلك الأشياء التي تسمنا ب"المتنافين" والمرتزقة وعملاء أميركا الخ... أنت تعرف أننا قرأنا عن هذه الأشياء آنذاك، واستنتجنا في ذلك الوقت ان لا وجود لشيء اسمه الفن للشعب أو الفن للفن، انما كان هناك - كما كنا نقول - ثمة شيء اسمه الأدب الحق، سواء قاله راعي الماعز في أعالي الجبال، كما كان يقول الناقد جورج طومسون، أو شاعر مثل الحلاج أو شارل بودلير أو بلزاك الذي كنا نستشهد به دائماً أو ربما كنا نستشهد بما قاله فلاديمير لينين عن أدبه وكنا نفرح لذلك.
كتاباتك أمامي، النقد المكتوب عنها أيضاً، كتاباتك في الخارج، أصداء اللقاء بك... ماذا تريدني أن أقول؟ حاولت ان أجد شيئاً، بلداً، حدثاً، رائحة اثر لخراب حل أو حرب مرت، حاولت ان استطلع أحوال البيئة التي دمرت تماماً منذ تلك الأيام!
ما زال الماضي القصير هذا لغزاً بالنسبة الّي، لم تسعفني محادثتك بأي شيء، لا شيء لديك لتقوله.
* شاعر عراقي مقيم في ألمانيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.