"أرامكو" ضمن أكثر 100 شركة تأثيراً في العالم    رصد 8.9 ألف إعلان عقاري مخالف بمايو    الإبراهيم يبحث بإيطاليا فرص الاستثمار بالمملكة    "كروم" يتيح التصفح بطريقة صورة داخل صورة    تدريب 45 شاباً وفتاة على الحِرَف التراثية بالقطيف    ضبط مقيمين من الجنسية المصرية بمكة لترويجهما حملة حج وهمية بغرض النصب والاحتيال    اختتام ناجح للمعرض السعودي الدولي لمستلزمات الإعاقة والتأهيل 2024    أنشيلوتي: كورتوا سيشارك أساسيا مع ريال مدريد في نهائي دوري أبطال أوروبا    ثانوية «ابن حزم» تحتفل بخريجيها    ترمب يصف محاكمته الجنائية في نيويورك بأنها «غير منصفة للغاية»    ضبط مواطنين في حائل لترويجهما مادة الحشيش المخدر وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    «الربيعة» يدعو إلى تعزيز المسؤولية الدولية لإزالة الألغام حول العالم    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بزيارة تفقدية    شولتس: إصابات "بالغة" إثر هجوم "مروع" بالسكين في ألمانيا    أمر ملكي بالتمديد للدكتور السجان مديراً عاماً لمعهد الإدارة العامة لمدة 4 سنوات    مفاوضات غزة «متعثرة».. خلافات بين إسرائيل وحماس حول وقف الحرب    كذب مزاعم الحوثيين ..مسؤول أمريكي: لا صحة لاستهداف حاملة الطائرات «آيزنهاور»    الذهب يستقر قبل بيانات التضخم الأمريكية    الهلال يبحث عن الثلاثية على حساب النصر    مورينيو يختار فريقه الجديد    حجاج مبادرة "طريق مكة" بمطار سوكارنو هاتا الدولي بجاكرتا    «الجمارك»: إحباط تهريب 6.51 مليون حبة كبتاغون في منفذ البطحاء    وكيل إمارة حائل يرأس اجتماع متابعة مكافحة سوسة النخيل الحمراء    فاتسكه: دورتموند قادر على تحقيق شيء استثنائي أمام الريال    خلافات أمريكية - صينية حول تايوان    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والنبوي    فيصل بن فرحان يلتقي وزير الخارجية الصيني و وزير الخارجية العراق    رياح مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    إسلامية جازان تقيم ٦١٠ مناشط وبرنامج دعوية خلال أيام الحج    5 مبتعثات يتميّزن علمياً بجامعات النخبة    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    ترقية 1699 فرداً من منسوبي "الجوازات"    "سامسونغ" تستعد لطرح أول خاتم ذكي    المملكة ضيف شرف معرض بكين للكتاب    توجيه أئمة الحرمين بتقليل التلاوة ب"الحج"    أطعمة تساعدك على تأخير شيخوخة الدماغ    الرياضة المسائية أفضل صحياً لمرضى للسمنة    البنك الأهلي واتحاد «القدم» يجددان الرعاية الرسمية للكرة السعودية    الغامدي يكشف ل«عكاظ» أسرار تفوق الهلال والنصر    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    جدة تتزين لأغلى الكؤوس    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الخريف لمبتعثي هولندا: تنمية القدرات البشرية لمواكبة وظائف المستقبل    «الدراسات الأدبية» من التقويم المستمر إلى الاختبار النهائي !    كيف تصبح زراعة الشوكولاتة داعمة للاستدامة ؟    5 أطعمة غنية بالكربوهيدرات    المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    المعنى في «بطن» الكاتب !    كيف نحقق السعادة ؟    العِلْمُ ينقض مُسلّمات    الحوكمة والنزاهة.. أسلوب حياة    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    عبدالعزيز بن سعود يطلع على عدد من المبادرات التنموية التي تشرف على تنفيذها إمارة عسير    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة تبوك    تكريم الفائزين بجائزة الباحة للإبداع والتميز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الذكرى المئوية للسعودية : لماذا تغافل عنها الفكر الوحدوي ؟. مقومات وحدة تحققت حيث تعثر غيرها
نشر في الحياة يوم 24 - 01 - 1999

أن تكون ثمة "وحدة" عربية متحققة وقائمة طوال هذا القرن العربي "الانفصالي" .. ذلك حدث يستحق التوقف واستخلاص الدروس مهما اتفقنا أو اختلفنا مع خطها السياسي. فما موقع هذه "الظاهرة" العربية بين أكثر من عشرين كياناً سياسياً عربياً تشكل عالمنا العربي اليوم؟
تحتاج الاجابة الى تحليل فكري يخالف بعض القناعات السائدة في خطابنا العربي:
يرى كاتب هذا البحث، بعد إذْن أغلب مفكري الأيديولوجيا القومية المشرقية، أن المشاريع "الوطنية" القائمة في إطار الدول العربية الراهنة تمثل عمليات توحيد مرحلي لا بد منه تاريخيًا - لإدماج البنى المجتمعية الصغيرة والمتشرذمة التي تنطوي عليها تلك "الكيانات القطرية" وهي البنى المتوارثة من تفاعلات التاريخ والجغرافيا في المنطقة العربية.
وسواء كانت هذه الكيانات مصطنعة أو طبيعية، فإنه لا بد من إنضاج مرحلتها في التوحيد القطري حتى يمكن تجاوزها والانتقال موضوعياًَ بعدئذ الى مرحلة التوحيد القومي. لحيثيات هذه النظرة يراجع كتاب الكاتب: تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية.
والواقع ان هذه النظرة - التحريفية في نظر الأيديولوجيا المشرقية - لا تثير أية "إشكالية" في الفكر الوحدوي المغاربي الذي يراها فكرة طبيعية لا غبار عليها - كما أشار إلى ذلك عبدالقادر الهرماسي ومحمد عابد الجابري وغيرهما - وكما ينبغي أن ننظر إليها جميعاً، بعيداً عن تأثيرات عقدة سايكس- بيكو التي أصابت الايديولوجيا المشرقية بحَوَل شديد في الرؤية جعلها غير قادرة على تبصّر الأبعاد الطبيعية والموضوعية للتعدديات العربية بمعزل عن تلك المؤامرة الاستعمارية التجزيئية التي تنسب إليها كل مواريث داحس والغبراء في الحياة العربية.
واذا كانت أغلب الكيانات العربية القائمة تمثل في تقديرنا مشروعات "توحيد" على الصعيد الوطني، فإن خصوصية الكيان السعودي المتمثل في المملكة العربية السعودية هي أنه كيان توحيد ببعدين متوازيين: وطني وقومي في الوقت ذاته.
فالوطن السعودي الأوسع هو حصيلة اندماج تاريخي "قومي" لأربعة أوطان/ أقطار عربية يمثل مجموعها أربعة أخماس مساحة شبه الجزيرة العربية، وهي نجد - الحجاز - الأحساء - وعسير.
واكتملت الآن المئوية الأولى على بداية تأسيس هذا الكيان الذي مثل النواة والقاعدة لاندماجها في مجتمع سياسي موحد يعيشه السعوديون، على تباين منابتهم وأصولهم، وطناً واحداً. وتمثل هذه التجربة السعودية - باستمرارها وتواصلها - ظاهرة شبه نادرة في سياق التاريخ السياسي العربي المعاصر الذي إن كان لا يخلو من تطلعات مخلصة للوحدة في أنحاء أخرى من الوطن العربي، ومن تجارب ومشروعات وحدوية كانت لها أصداؤها المؤثرة، فإنه لا يحفل بإنجازات وحدوية حققت الثبات والاستمرار كالتجربة السعودية. وعلى خصوصية النموذج السعودي في الوحدة من هذا المنظور، فمن اللافت للنظر أن الفكر القومي الوحدوي - الذي نشأت تياراته أساساً في منطقة الهلال الخصيب - قد أغفل دراسة التجربة السعودية من حيث هي تجربة توحيد قطري مركزي ذات دلالة قومية قامت واستمرت. ويعود هذا الإغفال، على الأرجح، إلى افتراق النظرة الايدولوجية - السياسية وتباينها، خاصة في مرحلة المد القومي الايدولوجي - بين تلك الاتجاهات الراديكالية وبين التوجهات المحافظة للسياسة السعودية.
غير ان هذا الاعتبار الايديولوجي لدى تلك التيارات القومية لا يبرر - من الناحية الموضوعية العلمية - إغفال تجربة توحيد سياسي عربي بهذا الحجم، وفي منطقة عربية كانت الحالة المجتمعية فيها، قبل قيام الدولة المركزية الموحدة، بمثابة "حرب الكل على الكل" بين البنى الصغيرة في أجزائها المختلفة، كما عبر عن ذلك أحد أبناء هذه التجربة ودارسيها وهو الدكتور تركي الحمد.
يقول: "سياسياً، كانت الجزيرة العربية منقسمة إلى العديد من الإمارات والمشيخات. وقد كانت المشيخات قائمة على علاقات وأسس قبلية، اذ كانت البنية القبلية وتشعباتها تشكل حاجزاً منيعاً لقيام شكل حكومي جديد واكثر اتساعاً قائم على أشكال مختلفة للولاء. بمعنى آخر: كانت القبلية نقيض قيام دولة قومية حديثة في الجزيرة العربية بشكل عام... وكان القضاء على مثل هذه العقبات البنيوية وانشاء دولة قومية حديثة قادرة على خلق نوع جديد من الولاء يستلزم قيام شكل من أشكال الثورة-إن صح التعبير- قادر على إزالة مثل هذه العقبات، وخلق تنظيم سياسي أكمل واكثر تطوراً...".
وهكذا فإن الفكر العربي الوحدوي قصّر - في نظرنا - تقصيراً علمياً واقعياً مُعيقاً عندما فاته درس ثورية هذه التجربة الوحدوية العملية التي قادها وحققها الملك عبدالعزيز آل سعود بين أربعة أقطار مترابطة جغرافيا من بلاد الجزيرة العربية، هي نجد والأحساء والحجاز وعسير، في كيان المملكة العربية السعودية التي أصبحت اليوم قطراً ووطناً عربياً واحداً لجميع أبنائه بمختلف مناطقهم.
واذا كنا ندرك أن الكتابة عن المملكة تشوهها أغراض المادحين والقادحين - على حد سواء - فإننا نأمل في هذا المقام أن نتجاوز أساليبهم المتهافتة في الحالتين لنقترب ما أمكن من الصورة الموضوعية للواقع بقدر ما يسمح به مناخ الخطاب السياسي في عالمنا العربي. غير ان هذا التحفظ ينبغي ألا يمنعنا من القول بداية:
إن المملكة العربية السعودية هي النموذج الوحدوي المتحقق الذي استمر بنجاح في تاريخ العرب الحديث ولا بد لأي مفكر وحدوي عربي أن يواجه هذه الحقيقة، ويتأمل فيها ويدرسها لاستخراج دروسها وقوانينها الوحدوية، أياً كانت وجهته السياسية أو الايديولوجية، وألا يمنعه اختلافه مع السياسة السعودية - إن وُجِد - من رؤية هذه الحقيقة، حيث من آفات التفكير العربي السائد طغيان الاعتبار الايديولوجي على الاعتبار المعرفي مما أضاع على العرب فرصاً كثيرة.
وأبرز هذه الدروس أن وحدة المملكة انطلقت من التلاصق الجغرافي والامتداد الاقليمي الطبيعي بين نجد والأحساء، ثم بين نجد والحجاز، ثم بين الحجاز وعسير، حيث الوحدة الطبيعية الجغرافية تربط هذه الاقطار الأربعة في قلب الجزيرة العربية، وحيث يمكن للسلطة المركزية الوحدوية في قاعدتها المتوسطة - نجد - أن تتحرك عملياً تحت أي ظرف، وفي امتداد جغرافي غير متقطع بمناطق لا تسيطر عليها لممارسة أي حسم وحدوي يتطلبه الموقف في أي منطقة من مناطق الكيان الوحدوي المتصل الحلقات فوق قاعدته الجغرافية المتناسقة الواحدة، من دون حواجز أو موانع قاهرة من عوامل طبيعية أو قوى معادية.
ولم يضيع الملك عبدالعزيز جهده أو وقته في طرح مشروعات وحدوية نظرية أو مثالية، بين قاعدته النجدية وبين أي بلد عربي بعيد عنه، على الرغم من اهتمامه بإقامة علاقات وثيقة مع مختلف الأقطار العربية والإسلامية، بعيدها وقريبها.
أما من حيث العمل الوحدوي فقد اتجه مباشرة إلى توحيد إمارات نجد أولا، فلما ترسخت وحدة القاعدة النجدية المتوسطة في قلب جزيرة العرب سار على أساس القرب الجغرافي والتقارب الطبيعي أولا بأول والأقربون أولى بالتوحيد، فبدأ بمنطقة الأحساء حيث هي الأقرب جغرافيا الى نجد. وكانت الأحساء التي هي الامتداد الشرقي للجزيرة العربية على شواطئ الخليج العربي مرشحة لأن تتجزأ إلى عدة إمارات ودويلات على غرار الإمارات الأخرى المجاورة لها في شرق الجزيرة والخليج، غير أن توحيد الملك عبدالعزيز لها مع نجد عصمها من ذلك المصير، فلما أطمأن إلى سلامة جناحه الشرقي اتجه غرباً إلى الحجاز، حيث تحققت الوحدة بين أهم منطقتين في جزيرة العرب حينذاك، وهما الحجاز ونجد 1925، ومن الامتداد الجغرافي المتواصل عبر الحجاز، امتدت حركة التوحيد إلى عسير وصولاً إلى الحواجز الجغرافية الطبيعية المتمثلة في الإقليم الجبلي لبلاد اليمن، حيث فرضت الجغرافيا واقعا سياسياً آخر. ولعله ليس من المبالغة القول إن الملك عبدالعزيز كان أكثر القادة العرب إدراكأ لاعتبارات "الجغراسيا" فعرف أين ينطلق وأين يتوقف. والقفز فوق هذه الاعتبارات ما زال يمثل أبرز مواطن القصور في السياسات العربية الرسمية والشعبية على السواء.
وهكذا توحدت أربع مناطق عربية شاسعة المساحة، كانت كل منطقة منها معرضة للتجزنة إلى دويلات وكيانات متعددة بمقياس ظاهرة التجزئة العربية الحديثة في الأقطار والأقاليم العربية الأخرى، هذا بالإضافة إلى ما تعّرضت له محاولات التوحيد الأخرى بين الأقطار العربية غير المتواصلة جغرافيا من نكسات انفصالية في حين استطاعت الوحدة الطبيعية المستندة إلى وحدة الأرض في قلب الجزيرة العربية أن تتجنبها وتتجاوزها، لتبقى النموذج الأبرز للوحدة العربية - الناجحة المستمرة - في تاريخ العرب الحديث.
والى جوار هذه الوحدة، فإن الجزيرة العربية في عقود تالية قد استطاعت أيضاً أن تقدم لوطنها العربي نماذج أخرى للوحدة. ففي مطلع السبعينيات قامت دولة الإمارات العربية المتحدة على امتداد شطر مُهِم من الساحل العربي للخليج، ثم قامت دولة اليمن الكبير على أساس وحدة الأرض اليمنية، وفي الحالتين فإن منطق الجغرافيا المترابطة هو المنطلق.
وبالطبع فإن أية حركة ناجحة في التاريخ لا يمكن تفسير نجاحها بعامل واحد فقط، وإذا كان عامل التقارب والجوار الجغرافي هو العامل "الطبيعي الواقعي" الذي انطلقت منه حركة الوحدة بقيادة الملك عبدالعزيز، فإن عوامل أساسية أخرى تضافرت مع ذلك العامل لإنجاز الهدف.
وأبرز هذه العوامل عامل "الدفع العقيدي" المتمثل في الحركة التي كانت أولى حركات التجديد الديني في تاريخ الإسلام الحديث، حيث تولدت من جرائها حالة روحية وأخلاقية جديدة وحدت بين القبائل والمناطق، ودفعتها لتجاوز حدودها الضيقة وكياناتها الضئيلة، لتلتقي في كيان عقيدي ومعنوي أكبر وأرفع.
كما دفعت الفرد العربي في الجزيرة العربية إلى تقديم المزيد من التضحية وتحمل الصعاب والتخلي عن الصغائر وعن طلب الدعة والتواكل، وهي قيم تدعو الظروف الراهنه لإحيائها وتجديدها حسب متطلبات العصر لمواجهة تحدياته.
ولولا هذه الحماسة الدينية والتطهرية الأخلاقية والتقشف والاحتشاد الاجتماعي لما أمكن تحقيق هذا المشروع الوحدوي الذي مثل تخطياً لكل أبعاد الواقع العربي الراكد في حينه.
وهذا هو الجانب العقيدي والدعوي الذي رأى ابن خلدون انه إحدى أهم دعامتين في نجاح الحركات الجديدة في التاريخ العربي، إلى جانب عامل التعئبة المجتمعية.
أما العامل الثاني في تقديرنا بعد العامل العقيدي فهو عامل الواقعية الاجتماعية التي تمت على أساسها عملية التوحيد، ونعني بذلك أنه روعيت الحقائق الاجتماعية والتاريخية لواقع المجتمع في الجزيرة العربية، وفي كل منطقة من مناطقها الداخلة في عملية التوحيد، حين راعى الملك عبدالعزيز بعناية العلاقات والتوازنات بين الأسر والعشائر والقبائل والمناطق وأبقى الروابط المساعدة على الوحدة وعالج العوائق بحكمة وحذر وتريث، ولم يتم استيراد أي شكل اتحادي أو وحدوي خارجي من أية تجربة أجنبية لتطبيقه على الوحدة الجارية، بل تم التدرج في بنائها لتوليد الشكل الوطني والقومي الذي يلائم خصوصيتها الذاتية.
وهذا ما يتطلب في مشارف المئوية الجديدة إبداعاً سعودياً جديداً لتوليد الأشكال والنظم الملائمة لمسيرة التطور الجديدة وتحدياتها.
وبالمقارنة فإن محاولات الوحدة العربية الأخرى التي لم تستمر كانت تنقصها بشكل ملحوظ هذه المراعاة المتبصرة للتكوينات والتشكلات الاجتماعية القائمة في مجتمعات الوحدة، حيث تم إضفاء أردية عصرية عليها، يبدو أنه لم يحن أوانها في سياق التطور الطبيعي لتلك المجتمعات، الأمر الذي أدى إلى تصدعها وعودة التجزئة بينها لدى ظهور أول التحديات في مسيرتها.
وإذا كان عامل "الواقعية الاجتماعية" ساعد مناطق الجزيرة العربية التي وحدها الملك عبدالعزيز على نمو الترابط الطبيعي في ما بينها، فإن عامل "الواقعية السياسية" الذي تمثل في سياسته التوحيدية كان له دور مهم في تحقيق الخطوات الوحدوية واحدة بعد الأخرى، في وقتها المناسب، وبالأسلوب الملائم لها في كل حالة، وبما يقي الوحدة الناشئة من ردود الفعل الدولية والإقليمية المعادية لها، وبينما كانت الحماسة الدينية ترص الداخل وتوحّده، كانت الواقعية السياسية تتعامل بحذر مع قوى الخارج، وتعمل على ضبط تلك الحماسة لتفادي اصطدامها بالموانع الدولية، إن لزم الأمر.
درس الملك عبدالعزيز بعناية مخططات الدول الكبرى المؤثرة في المنطقة، وعلى رأسها بريطانيا صاحبة النفوذ الأكبر فيها حينذاك، وكانت السياسة البريطانية في ذلك الوقت لا تريد التورط في المناطق الداخلية من الجزيرة العربية، لكنها لم تكن تريد بروز قوة عربية متحدة في ذلك الداخل، تتحدى نفوذها في سواحل الخليج وجنوب الجزيرة على امتداد طريق الهند، وقد أدرك الملك عبدالعزيز هذه الحقيقة، وتبين نقاط القوة والضعف في السياسة البريطانية، ليحسن التعامل معها فيحقق ما يمكن تحقيقه، ويؤجل ما يتطلب التأجيل دون أن يعرض الوحدة الناشئة في إطار مملكته إلى مواجهات غير مأمونة العواقب مع القوى الكبرى، وعلى الرغم من أنه قد أنجز توحيد الأحساء مع نجد عام 1913، مستفيدا من فرصة تخوف الانجليز من استمرار النفوذ التركي على سواحل الخليج قبيل الحرب العالمية الأولى، إلا أنه لم يشرع في الخطوة الوحدوية التالية بإتجاه الحجاز إلا في 1924/1925عندما نضجت الظروف الموضوعية- الدولية والإقليمية - المساعدة على تحقيق ذلك. ثم انتظر سبع سنوات أخرى، ليتم اعتراف الدول الكبرى بالواقع الجديد، قبل أن يعلن رسميا في عام 1932 قيام المملكة العربية السعودية بأقاليمها ومناطقها وحدودها التي نعرفها اليوم.
هكذا لم تكن على جدول أعماله إعلانات "فورية" للوحدة الاندماجية.
وكان من البرغماتية بحيث وفر لمملكته دعماً اقتصادياً من الحكومة البريطانية مقابل تفهمه لأولويات الاستراتيجية البريطانية في المنطقة.
فبمقياس المساحات الجغرافية الشاسعة التي ضمها الملك عبدالعزيز إلى مملكته المتحدة، كان ميسورا عليه - بالمقارنة النظرية - ضم بعض إمارات الخليج العربي أيضا إلى الكيان الجديد، غير أن القوة البريطانية المسيطرة في المنطقة كانت قد رسمت "خطوطا حمراء" لا يمكن تجاوزها بالنسبة لموانئ خطوطها البحرية على امتداد الساحل الخليجي، وذلك ما أدركه ابن سعود في حينه، فلم يتح للبريطانيين أية فرصة للاستفراد به، وخصوصاً في ساحة المعارك البحرية، وهو ما حدث في فترة تاريخية سابقة لمحمد علي باشا في معارك الجزر اليونانية، حيث تم تدمير الأسطول المصري، وما حدث أيضا في منطقة الخليج العربي نفسها لأسطول عمان والبحرين وأسطول القواسم في مواجهة القوة البريطانية البحرية الساحقة، وعلى الرغم من إدراك ابن سعود لتخوف البريطانيين من تنامي كيانه الوحدوي وعدائهم المبطن له، وتشجيعهم ضمنا لمنافسيه، إلا أنه أبقى "شعرة معاوية " مع الدولة البريطانية المجاورة له بنفوذها من كل جانب حينئذ. في حين كان يخطط بالمقابل - وبنظرة تجديدية بمقايس تلك الفترة - لإقامة علاقات اقتصادية، وبالتالي سياسية، مع الولايات المتحدة، القوة الجديدة الصاعدة على الساحة العالمية في ذلك الوقت التي كانت تعارض بعض جوانب السياسة البريطانية في المنطقة، ولم تتورط في تناقضات ملموسة مع المصالح العربية حتى ذلك التاريخ، وهو ما يتبين - بين مراجع أخرى - في كتاب ملوك العرب لأمين الريحاني الذي كان من دعاة هذه الفكرة آنذاك.
ومن مؤشرات واقعيته السياسية على صعيد آخر أنه قرر عدم التورط في أي نزيف عسكري طويل الأمد في جبال اليمن، إذ تبين محاذير ذلك، فاعترف بالأمر الواقع بمرونة سياسية وفرت عليه الاستمرار في جبهة جديدة غير مأمونة العواقب، وأدت إلى تفاهمه بمعاهدة صداقة مع إمام اليمن، ليتفرغ بعدها إلى بناء كيانه الوحدوي من الداخل، وذلك بعد أن أدرك بأنه وصل في عملية التوحيد إلى أقصى الحدود التي سمحت بها ظروف الجغرافيا والسياسة العربية والدولية في ذلك الحين، وهكذا على رغم بلائه في حروب الصحراء فإنه تجنب المواجهة البحرية مع بريطانيا في الخليج، كما تجنب حرب الاستنزاف الجبلية في اليمن، بقرار حاسم، وهي الحرب التى استنزفت تركيا العثمانية من قبله، وستستنزف مصر الناصرية من بعده.
واذا كان المشروع التوحيدي لدى عبدالعزيز وليد مكانه عامل الجغرافيا فإنه بالمثل وليد زمانه الظرف التاريخي السانح. إذْ لو لم يبادر عبدالعزيز وتأخر إنجاز التوحيد الى زمن آخر، لنشأت متغيرات دولية تحول دون تحقيقه. وهذا يعني أن تجارب الوحدة لا تعيد نفسها ولا يجوز نسخها ولابد من إبداع وحدوى مختلف في كل مشروع. ولذلك بقيت الحدود السياسية بين السعودية وجاراتها الخليجيات على حالها وتم التوجه لمشروع مجلس التعاون في حقبة مختلفة تماماً.
باختصار نجح عبدالعزيز - باستثمار هذه العوامل مجمتعة في حينه - في إقامة أول وحدة عربية مستمرة ثابتة في تاريخ العرب الحديث، وبالرغم من أهمية العوامل الثلاثة التي ذكرناها - في حركته وشخصيته - فإن قاعدة وحدة الأرض وترابطها وتواصلها في إقليم جغرافي طبيعي واحد هي التي مثلت الضمانة المستمرة لنمو عملية التوحيد واستمرارها في عهده وبعد غيابه حتى يومنا هذا. وهو عامل موضوعي افتقده مشروع الوحدة العربية بين مصر وسوريا، ومشروع الوحدة الإسلامية بين باكستان الغربية و"الشرقية" وانتهى الأمر في الحالتين بتغلب الجغرافيا على الايديولوجيا، وذلك لدى بروز التحديات المناهضة لاستمرار الوحدة.
وإذا أعدنا تتابع الأحداث الراهنة إلى خلفيتها التاريخية، فإن ظاهرة مجلس التعاون الخليجي بحجمها وأبعادها الحالية، تبدأ من تلك القاعدة الوحدوية التي أقامها عبدالعزيز قبل قرن، فمحاولات دول الخليج العربي لإقامة رابطة سياسية في ما بينها لم تحقق النجاح المطلوب إلا عندما دخلت المملكة العربية السعودية كمركز ثقل فيها، وهكذا فالتوحيد يؤدي إلى مزيد منه، كما أن التجزئة تؤدي إلى مزيد منها. ويبقى من القصور ألا يستوعب الفكر العربي الوحدوي هذه الظاهرة. والمطلوب من دراستها التمييز بين العام والخاص فيها، بحيث يستفاد من دروسها وقوانينها العامة، وتبقى ما فيها من خصوصية تميزها عن غيرها، وتميز غيرها عنها دون نقل أو تقليد، بين كل تجربة وحدوية عربية وأخرى.
والواقع أن فكرة "الوحدة الطبيعية" وإن ظلت - من الناحية النظرية - بعيدة عن الصدارة في الفكر العربي الوحدوي، إلا أنها لم تستبعد منه تماماً طالما بقيت مبرأة من دعوة التكتل الإقليمي المعادي للوحدة العربية.
يقول الدكتور عبدالرحمن البزاز في كتابه "الدولة الموحدة والدولة الاتحادية"، "على أن دعوتنا إلى الاتحاد العربي الشامل لاتعني امتناع قيام تكتل أقوى بين أي جزأين من أجزاء الوطن العربي. و هناك أقاليم عربية متميزة، فإقليم اليمن غير إقليم نجد، وبلاد الشام غير المغرب، وإن كانت هذه الأقاليم كلها أجزاء من الوطن العربي الكبير".
وحصل التحول في مثل هذا الاتجاه الفكري من الصيغة الوحدوية الإندماجية إلى الصيغة الإتحادية الفيديرالية مراعاة لهذه التمايزات في أقاليم الجغرافيا العربية، وإن لم يصل إلى حد التسليم بقيام وحدات إقليمية كل على حدة، في المدى القريب والمتوسط على أمل اتحادها في المدى البعيد.
غير أن مفكرين عربا آخرين قد طرحوا في غمرة المد الوحدوي الشامل بديل الوحدات الجغرافية الطبيعية من منطلق إيمانهم بالوحدة الشاملة، وباعتباره الأسلوب والمدخل العملي الأكثر حظا من النجاح للبدء بتحقيق الوحدة. ففي عام 1957 قبل إعلان الوحدة المصرية - السورية بأقل من عام دعا الأستاذ نبيه أمين فارس، وهو مؤرخ وأستاذ جامعي عربي فلسطيني الأصل لبناني الجنسية، إلى البدء بإقامة أربع وحدات عربية في الأقاليم الجغرافية العربية الأربعة تمهيداً لإقامة كيان "الدولة العربية المتحدة" أو "الولايات العربية المتحدة" وقد ذكر بأنه دعا إلى الفكرة نفسها بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة عام 1946، وأنه يعيد الدعوة إلى ذلك 1957 تجنبا لمزيد من نكبات التجزئة العربية كما جاء في كتابه دراسات عربية. وهذه النظرة الموضوعية لوحدة العالم العربي واردة أصلاً في دعوة القوميين السوريين التي أسس لها أنطون سعادة، وإنْ التشبث بالاقليمية المجافية للعروبة في غمرة صراعها مع دعاة القومية العربية في الخمسينات وقبل إعادة نظر الحزب القومي السوري في توجهاته السابقة.
ويبدو في وقتنا الحاضر أن منزع الوحدة الشمولية الايديولوجية لم يصمد للاختبار، وأنه لم يبق في الساحة - في المدى المنظور على الأقل - غير أسلوب التقارب الإقليمي الواقعي المتدرج كما في تجربة مجلس التعاون الخليجي، وفكرة المغرب الكبير، وتنمية وحدة إقليم اليمن، وإعادة التقارب بين شطري وادي النيل، وهي تجارب إن تحققت وتنامت مرشحة لخلق تيار وحدوي جديد في الوطن العربي كله. ويلاحظ أن مصر التي رشحها الفكر الوحدوي قاعدة للوحدة العربية لن تفقد دورها في التصور الجديد، بل ستبقى واسطة العقد بين المغرب الكبير، وبين وحدات المشرق شماله وجنوبه، وسيتعين عليها التقريب بين بضعة كيانات طبيعية كبيرة بدل محاولتها لمّ الشمل بين أكثر من عشرين كيانا مبعثراً.
وأياً كان الأمر فإن الصورة تتبلور لدينا هنا في الجزيرة العربية على النحو الآتي من التصور النظري والعملي، حسبما عبر عنها قبل عقدين تقريباً الدكتور أحمد زكي يماني، يقول: "إن الأمة العربية التي نجحت أصابع الشرق والغرب في تمزيق حلمها الكبير في الوحدة الشاملة، قد بدأت تتجمع في حلقات منفصلة في البداية مترابطة في النهاية. ومجلس التعاون الخليجي واحد من حلقاتها، ووادي النيل حلقة أخرى تتلوه حلقة المغرب العربي الكبير. ولو عطل المحاق السياسى ولادة الهلال الخصيب فإن سنة التطور وقوانين الطبيعة قد لا تحجبه طويلا، وهذه الحلقات المختلفة قد تترابط تدريجيا تحت حلقات أوسع من دائرة كل واحدة منها.
ويضيف: فحلقة الجزيرة العربية إذا نشأت ترتبط بحلقة مجلس التعاون بهمزة وصل هي المملكة العربية السعودية، والمملكة أيضا حلقة وصل أو ارتباط مع حوض البحر الأحمر ووادي النيل وما يمتد جنوبه من دول عربية. ومهما حاولت الصهيونية العالمية وقف التطور التاريخي وتقطيع أوصال الأمة العربية فإن ظواهر الأمر تدل على أن نجاحها - إن تحقق - سيكون في التأجيل وليس في تعطيل الالتحام والتكوين" - الدكتور أحمد زكي يماني: "العالم في القرن الحادي والعشرين - منطقة الخليج العربي" فى: ندوة التصورات المستقبلية لجامعة الخليج العربي، نشر مكتب التربية العربية، 1983، ص 42.
وعلى رغم وقوع تصدعات قومية أخطر منذ طرح مثل هذه النظرة، فإن الفكرة الأساسية التي تستند إليها - وهي وحدة الجوار المتماثل - في كل الأقاليم العربية، ما زالت هي "الممكن القومي" إذا شفانا الله من تعجل المستحيل.
وأخيراً، ومن موقع المواطن العربي الحريص على مستقبل هذه التجربة العربية النادرة والمتميزة، والتي تمثل العمق الاستراتيجي لوجودنا العربي في الخليج بالذات، لابد من القول للاشقاء السعوديين - قيادة وشعباً - إن انجاز عبدالعزيز يستحق ويستأهل ما يماثله اخلاصاً وجهداً وتجرداً وتطويراً متصلاً وبناءً لاينقطع. ومع كل التقدير لما تحقق، فإننا ننتظر المزيد مما تطلبه ضرورات العصر، وحتميات التطور، ويستدعيه تجنب المحاذير والتحديات التي تتجمع من حولنا بشراسة في الأفق الخليجي والعربي، والتي لن تتردد في استهداف المملكة، باعتبارها بيت العرب الجامع وملاذهم المانع. واذا استهدفت المملكة فلن يبقى أي هدف عربي بعيداً عن مرمى السهام. وذلك ما ينبغي أن يستنهض المزيد من عزم القيادة ووعي القاعدة.
إن الأمر في غاية الجد بين "مئوية" ماضية "ومئوية" آتية.
ومن ثقتنا بما تحقق في المئوية الماضية نقول لكم :
- كل مئوية وأنتم بخير.
يحدونا أمل كبير في قدرة أجيال المئوية الجديدة على صيانة وإنماء ما أورثته إياها أجيال المئوية التليدة.
* مفكر وأكاديمي من البحرين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.