وزير "البيئة" يعقد اجتماعات ثنائية على هامش المنتدى العالمي العاشر للمياه في إندونيسيا    الجامعة العربية تؤكد أن أمن الطاقة يعد قضية جوهرية لتأثيرها المباشر على النمو الاقتصادي    استمطار السحب: حديث الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للأرصاد حول مكة والمشاعر يمثل إحدى فرص تحسين الطقس    غرفة أبها تدشن معرض الصناعة في عسير    يايسله يوضح حقيقة رحيله عن الأهلي    "الإحصاء": 1.8% معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان في المملكة    علامة HONOR تعلن عن رعايتها لمسابقة إجادة اللغة الصينية بعنوان "جسر اللغة الصينية" في المملكة العربية السعودية    ملتقى النص المعاصر: احتفالية شعرية وفنية تُضيء سماء نابل    الجمعية العليمة السعودية للصحة العامة ساف تشارك في مؤتمر يوم الابحاث    سفير إندونيسيا لدى المملكة: "مبادرة طريق مكة" نموذج من عناية المملكة بضيوف الرحمن    وزير الصحة الماليزي: نراقب عن كثب وضع جائحة كورونا في سنغافورة    مستشفى دله النخيل ينهي معاناة عشريني يعاني من خلع متكرر للكتف وكسر معقد في المفصل الأخرمي الترقوي    الديوان الملكي: تقرر أن يجري خادم الحرمين فحوصات طبية في العيادات الملكية في قصر السلام بجدة    رياح مثيرة للأتربة والغبار على أجزاء من الشرقية والرياض    بيريرا: التعاون فريق منظم ويملك لاعبين لديهم جودة    الأوكراني أوزيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع في الرياض    ولي العهد يستقبل مستشار الأمن القومي الأمريكي    شهداء ومصابون في قصف لقوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة    أوروبا تحقق مع «فيسبوك» و«إنستغرام» بسبب مخاطرهما على الأطفال !    رفضت بيع كليتها لشراء زوجها دراجة.. فطلقها !    السفارة السعودية في تشيلي تنظم حلقات نقاش بعنوان "تمكين المرأة السعودية في ظل رؤية المملكة 2030"    لقب الدوري الإنجليزي بين أفضلية السيتي وحلم أرسنال    صقور السلة الزرقاء يتوجون بالذهب    خادم الحرمين يأمر بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    330 شاحنة إغاثية إلى اليمن وبيوت متنقلة للاجئين السوريين    اشتباك بالأيدي يُفشل انتخاب رئيس البرلمان العراقي    البرق يضيء سماء الباحة ويرسم لوحات بديعة    الماء (2)    جدول الضرب    «التعليم»: حسم 15 درجة من «المتحرشين» و«المبتزين» وإحالتهم للجهات الأمنية    قرى «حجن» تعيش العزلة وتعاني ضعف الخدمات    اطلع على مشاريع التطوير لراحة الحجاج.. نائب أمير منطقة مكة المكرمة يتفقد المشاعر المقدسة    زيارات الخير    محتالة تحصل على إعانات بآلاف الدولارات    المقبل رفع الشكر للقيادة.. المملكة رئيساً للمجلس التنفيذي ل "الألكسو"    27 جائزة للمنتخب السعودي للعلوم والهندسة في آيسف    انطلاق المؤتمر الأول للتميز في التمريض الثلاثاء    طبخ ومسرح    مواقف مشرّفة    عبر التكنولوجيا المعززة بالذكاء الاصطناعي.. نقل إجراءات مبادرة طريق مكة إلى عالم الرقمية    للسنة الثانية.. "مبادرة طريق مكة" في مطار إسطنبول الدولي تواصل تقديم الخدمات بتقنيات حديثة    سمو ولي العهد يستقبل الأمراء والمواطنين    «تيك توك» تزيد مدة الفيديو لساعة كاملة    تحدي البطاطس الحارة يقتل طفلاً أمريكياً    دعاهم إلى تناول السوائل وفقاً لنصائح الطبيب.. استشاري: على مرض الكلى تجنّب أشعة الشمس في الحج    مختصون ينصحون الحجاج.. الكمامة حماية من الأمراض وحفاظ على الصحة    كيان عدواني غاصب .. فرضه الاستعمار !    كيلا يبقى تركي السديري مجرد ذكرى    وزير التعليم: تفوّق طلابنا في «آيسف 2024» يؤسس لمرحلة مستقبلية عنوانها التميّز    الهلال يحبط النصر..    الخبز على طاولة باخ وجياني    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    الرئاسة العامة تستكمل جاهزيتها لخدمة حجاج بيت الله الحرام هذا العام ١٤٤٥ه    قائد فذٌ و وطن عظيم    رئيس جمهورية موريتانيا يغادر جدة    بتوجيه الملك.. ولي العهد يزور «الشرقية».. قوة وتلاحم وحرص على التطوير والتنمية    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوهام التمني في تقويم الحالة اليهودية الأميركية
نشر في الحياة يوم 09 - 07 - 1998

يكثر في أوساط المفكرين العرب المعنيين بالنفوذ اليهودي في الولايات المتحدة طرح ثلاث مقولات تشير في رأيهم إلى جواز التفاؤل باقتراب أفول هذا النفوذ، أو على الأقل، مقارعته بنفوذ عربي إسلامي معارض.
المقولة الأولى هي أن "اليهود في الولايات المتحدة يتناقصون". فعلى الرغم من أن العدد الاجمالي لليهود الأميركيين بقي قرابة ستة ملايين منذ منتصف هذا القرن، فإن مجموع السكان في الولايات المتحدة تضاعف في الفترة نفسها. فنسبة اليهود تدنت إذن من زهاء خمسة في المئة إلى أقل من ثلاثة في المئة، ثم ان التزاوج بين اليهود وغيرهم يساهم في استنزاف هذه الطائفة. وبما أن معظم الأميركيين اليهود ينتمون إلى الطبقات الميسورة، فإن نسبة التوالد في أوساطهم منخفضة. إذن، وفق هذه المقولة، فالحجم البشري لليهود في الولايات المتحدة إلى انخفاض ، مع ما يستتبع ذلك من تراجع في الوزن الاقتصادي والتأثير السياسي.
والمقولة الثانية هي أن "المسلمين والعرب في الولايات المتحدة يزيدون عدداً عن اليهود. يكفي، إذن، تنظيمهم وتحفيزهم بالصيغة المناسبة لمعادلة النفود اليهودي أو التفوق عليه". فالأرقام المتداولة اليوم حول عدد المسلمين في الولايات المتحدة تتراوح بين أربعة ملايين وعشرة ملايين. وتوافد المهاجرين من الدول الإسلامية الى الولايات المتحدة مستمر. كما أن نسبة التوالد في المجتمعات الإسلامية تبقى عالية. وبالاضافة إلى هذه الزيادة الطبيعية، فإن الدين الإسلامي ترسخ في أوساط الافارقة الأميركيين. وتشير التقديرات إلى أن عشرة في المئة منهم أي قرابة ثلاثة ملايين هم من المسلمين. وحركة اعتناق الدين الإسلامي في أوساطهم ما زالت ترتفع.
وبالاضافة إلى المسلمين، فإن قرابة ثلاثة ملايين من الأميركيين المسيحيين هم من أصول عربية لبنانية في الغالب، المطلوب إذن، وفق هذه المقولة، تصحيح الخطأ التاريخي الذي أدى إلى إهمال هذه القوة الكامنة لمصلحة القضايا العربية، والشروع في العمل المؤسساتي الذي يضع العرب والمسلمين الأميركيين في موقع الند لليهود الأميركيين نفوذاً وتأثيراً.
والمقولة الثالثة هي أن "أغلب الأميركيين يدرك تضخم النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة ومستاؤون منه، وهم يترقبون الفرصة لتحجيمه". والشواهد على ذلك، وفق هذه المقولة، أكثر من أن تحصى. فهناك جمعيات انشئت لترصد هذا النفوذ، وأعضاء هذه الجمعيات ينتمون إلى مختلف التيارات السياسية والاصول العرقية. وصدرت كتب عدة لتكشف مدى التورط اليهودي والإسرائيلي في التجسس على الولايات المتحدة والإساءة إليها. أما استفحال الحضور اليهودي في قطاعات المال والاعلام والسياسة فمن البديهيات التي تثير من دون شك، مجدداً وفق هذه المقولة، امتعاض الجمهور الأميركي، ولربما خير دليل على هذا الامتعاض، الاعتراف الهامس الذي طالما يصدر عن المواطن الأميركي العادي بعيداً من رقابة "الصواب السياسي" والذي يصرح أن الكيل طفح من اليهود ونفوذهم ومحرقتهم وإسرائيلهم.
ثلاث مقولات تصب في اتجاه واحد وتفتح المجال أمام تفاؤل وربما اطمئنان بأن المستقبل يحمل في طياته انتصاراً للقضايا العربية، ولا سيما قضية فلسطين، إلا أن كلاً من هذه المقولات ينضوي على مغالطات خطيرة تبطله جملة وتفصيلاً. فلا اليهود إلى تناقص، ولا المسلمون والعرب إلى تفوق، ولا إدراك لنفوذ يهودي مفترض في الولايات المتحدة، أو على الأقل، لا بد من إعادة النظر في الحتمية التي تبطنها هذه المقولات.
ففي موضوع الحجم العددي لليهود في الولايات المتحدة، يخطئ من يكتفي باستعراض الأعداد التي تطرحها المؤسسات الدينية والاجتماعية اليهودية، فبما ان تبين الانتماء الديني لا يتم عبر الاحصاء السكاني الذي يتم في مطلع كل عقد في الولايات المتحدة، فإن تقدير عدد اليهود ينطلق غالباً من انتمائهم الطوعي إلى جمعياتهم الدينية وكنسهم. والعدد الاجمالي المطروح قرابة ستة ملايين يشمل فحسب المواطنين الذين يستوفون في يهوديتهم الشروط التي ترتئيها الأطراف القائمة بالتقديرات الاحصائية، من حيث الاصول العائلية والمعتقد الديني، إلا أن الوجود اليهودي في الولايات المتحدة يتعدى هذه الشروط، ربما أضعافاً مضاعفة، ففي مقابل كل يهودي مستوف للشروط، ثمة مواطنون عدة إما من أصول يهودية أو ذوو قرابة يهودية لا يستوفونها، فالتزاوج، كما يتخوف رجال الدين اليهود، قد يؤدي فعلاً إلى "تبديد" جزء كبير من اليهود وفق تعريفهم لليهودية وبعض رجال الدين اليهود يعتبر التزاوج محرقة يهودية جديدة، إلا أنه من ناحية أخرى يساهم في توطيد الوجود اليهودي في المجتمع الأميركي عبر تشكل فئة كبيرة من الأميركيين الذين يعتبرون اليهودية قسماً من تراثهم الشخصي، وجزءاً راسخاً من هويتهم، وقد يصعب تقدير أعداد هؤلاء، غير أنهم على الأرجح يزيدون مرات عن اليهود الأميركيين. فهؤلاء ليسوا يهوداً بالمعنى الديني، غير أنه قد يصح في العديد من الحالات اعتبارهم يهوداً بالمفهوم القومي، وتعاطفهم مع القضايا اليهودية واهتمامهم بها ليس طارئاً ولا عرضياً. أما الاعتراض بأن اليهودية هي دين وليست قومية، فهو اعتراض يصلح في فلسطين حيث استقطبت الصهيونية مجموعات سكانية ذات اصول عرقية وثقافية مختلفة لا يجمعها إلا الدين. أما في الولايات المتحدة حيث معظم اليهود من أصل عرقي ثقافي اجتماعي واحد، هو الأصل الأوروبي الاشكنازي الناطق بالييديشية، فلا جدل أن اليهودية هي كذلك انتماء قومي. وفي حين لم ينجح المجتمع الأميركي بتحقيق الصهر القومي الذي يشكل أحد مقوماته العقائدية، فإن قدراً ملحوظاً من الاندماج والتداخل قد تحقق. وفي حين يبقى الانتماء العرقي حاجزاً يفصل بين ذوي الاصول "البيضاء" و"السوداء" و"الهيسبانيك" الناطقين بالاسبانية، فإن الاصول القومية المختلفة انبثت فعلاً في جسم المجتمع الأميركي "الأبيض". وظاهرة الانبثاث هذه لا تقتصر إذن على اليهود، فالمواطن الأميركي، باستثناء المهاجر الجديد، يجمع في خلفيته العائلية، غالباً، العديد من الاصول. فإذا كان هذا المواطن مثلاً من أصول يهودية وايطالية وايرلندية وبولونية، فإن الجمعيات المعنية بالتراث الايطالي أو الايرلندي أو البولوني تعمد إلى اعتباره من مجموع المواطنين الأميركيين الايطاليين والايرلنديين والبولونيين على التوالي. أما الجمعيات اليهودية، فإنها تتحفظ عن ادراجه ضمن المواطنين الأميركيين اليهود. هكذا نجد ان الرقم المتداول لعدد الايرلنديين الأميركيين هو أربعون مليوناً، فيما اليهود ستة ملايين وحسب.
والعامل الديني هو طبعاً السبب في الاختلاف في منهجية الاحصاء. ومن حق المؤسسات الدينية اليهودية أن تعتمد المنهجية التي تناسبها. ويبدو ان هذا الاختلاف هو مصدر العلة التي تعاني منها مقولة "اليهود إلى تناقص". وللأسف، فإن هذه العلة أدت كذلك إلى انحدار بعض الفكر العربي إلى منحى مؤامراتي واهن. فوزير الدفاع الأميركي وليم كوهين هو من اصول ايرلندية ويهودية، كما أنه ينتمي مذهبياً إلى كنيسة التوحيد Unitarianism، إلا أن بعض الصحافة العربية يصر على تغليب أصله اليهودي على سائر أصوله، بل وعلى معتقده، ليصبح من عداد "يهود كلينتون" الذين يتحكمون بمصير البلاد والعباد، ومن ضمن هؤلاء طبعاً وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت "اليهودية" هي الأخرى. فالأحرى بمن يرى ذلك ان يدرك ان عدد اليهود في الولايات المتحدة وفق المعايير التعسفية التي اختارها لكوهين هو أربعون مليوناً أو يزيد!
وبالاضافة إلى هذا الجانب المهمل في تقويم عدد اليهود الأميركيين، ثمة ناحية أخرى لا بد من الاشارة إليها، ذلك ان التحول السكاني المهم في الأوساط اليهودية الأميركية ليس عددياً، بل مذهبي وثقافي. إذ أن أعداد اليهود في الولايات المتحدة ما زالت ثابتة تقريباً منذ منتصف القرن، غير أن نسبة اليهود الناموسيين منهم ترتفع بانتظام. وهذا الارتفاع يعكس تطورين يسيران باتجاهين معاكسين، فالاستنزاف الطارئ على اليهود المحافظين والاصلاحيين نتيجة التزاوج مع غير اليهود يؤدي، وفق المنهج الاحصائي المعتمد، إلى تناقص عدد اليهود الاجمالي. لكن نسبة التوالد العالية جداً في أوساط اليهود الناموسيين الذين لا يتزاوجون البتة مع غيرهم تعوض هذا التناقص، وتحافظ على استقرار العدد الاجمالي. ولكن، مع استمرار في ارتفاع نسبة اليهود الناموسيين، فإن التعويض سوف يزيد عن التناقص. ويعود عدد اليهود الاجمالي إلى الارتفاع. فالتوقعات إذن هي أن يهود منتصف القرن الحادي والعشرين، وفق التعريف الديني لليهودية، سوف يزيدون عن يهود منتصف القرن العشرين، لكنهم سوف يختلفون عنهم بارتفاع نسبة الناموسيين في أوساطهم. فاليهود الأميركيون، إذن، ليسوا إلى تناقص، لا في العدد ولا في الانبثاث. ومقولة تناقصهم باطلة. وإدراك حقيقة ظاهرة الانبثاث القومي في الولايات المتحدة يؤدي إلى نتائج تنهك المقولة الثانية، مقولة "المسلمون والعرب إلى تزايد في الأهمية". فالمسلمون حديثو العهد نسبياً في الولايات المتحدة، والتزاوج بينهم وبين غيرهم يكاد أن يكون معدوماً، فلا انبثاث لهم البتة، ولا حضور على المستوى الوطني العام. فوجودهم اليوم لا يكاد يتعدى هامش المجتمع الأميركي. ولا شك ان هذا الو ضع سوف يتطور بصورة يتوطد معها الحضور الإسلامي بشكل أو بآخر. لكن المسألة ليست موضوع أرقام، بل هي مسألة حضور تاريخي واندماج في بنى المجتمع. وسبيل المسلمين الأميركيين إلى ذلك لم يتضح بعد. ثم أن الأرقام الشائعة حول عدد المسلمين في الولايات المتحدة مبالغ فيها على الأرجح. فهذه الأرقام ابتدأت تقديرية، ثم استقرت، فتضاعفت، بناء على ترجيحات متفائلة. وحتى إذا صحت، وهو أمر مستبعد، فإن الانتماء الإسلامي في الولايات المتحدة هو فعلاً انتماء ديني، وليس انتماء قومياً ليس بعد، على الأقل. فليس من المحتم أن تتلاقى المصالح وخطط العمل لدى الفئات الإسلامية المختلفة. فالنشطون في العمل السياسي والاجتماعي من الأفارقة الأميركيين المسلمين مثلاً يتحركون في إطار المجتمع الافريقي الأميركي، وقل أن تعنيهم القضايا الخارجية، وعند اهتمامهم بهذه القضايا، فإن مشاكل افريقيا "السوداء" هي التي تنصب عليها معظم جهودهم.
أما العرب الأميركيون المسيحيون، فانبثاث الاجيال الأولى منهم يكاد أن يكون تاماً. والحديث بالتالي عن ثلاثة ملايين منهم يتجاهل الطابع الجزئي لهذا التصنيف، فعروبة معظمهم هي جزء وحسب من هويتهم، وليس هويتهم الكلية. أما المسيحيون العرب من المهاجرين الجدد، فالعديد منهم جاء إلى الولايات المتحدة محملاً بأثقال التفرقة والتضييق الثقافي والديني. فالحديث عن تحفيزهم وتنظيمهم يجانب الواقع.
وكثيراً ما ترد في الصحافة العربية التعليقات التي تلوم العرب في الوطن والمهجر للتخلف عن الاستفادة من تلك القوة الهائلة التي يشكلها الحضور العربي والإسلامي في الولايات المتحدة. والواقع أن جهود العاملين في المنظمات والجمعيات العربية الأميركية والإسلامية الأميركية ليست مقصرة على الاطلاق. بل العكس هو الصحيح، أن تتمكن هذه القلة القليلة من تحقيق وجود عربي وإسلامي في العاصمة الأميركية، على الرغم من محدوديته، هو شاهد على كفاءتها وصلابة التزامها على رغم انتفاء الأسباب الموضوعية لنجاحها. فهذه الجهود نجحت بالفعل في إرساء الأرضية المطلوبة لتطوير النشاط السياسي العربي والإسلامي الأميركي، ألا إنه ما زال في مراحله الأولى. فمن المبكر التكهن بالشكل الذي سوف يتخذه الحضور العربي والإسلامي في الولايات المتحدة في المستقبل، هل هو حضور انبثاث صرف النموذج الايرلندي الأميركي أو حضور انفراد النموذج الافريقي الاميركي أو حضور مخضرم بين الانفراد والانبثاث النموذج اليهودي الأميركي، بل هل يجوز افتراض نموذج واحد للعرب الأميركيين، أو يتوجب أخذ انتماءاتهم الدينية في عين الاعتبار؟
وعلى أي حال، فالصورة الواقعية للحال العربية والإسلامية في الولايات المتحدة ليست صورة قوة كامنة على وشك البروز، بل صورة بحث عن هوية وبحث عن إطار في مجتمع يصر قطاعا الاعلام والترفيه فيه على إلزام المسلم والعربي أشكالاً نمطية جارحة. فعلى النشطين العرب والمسلمين الأميركيين تصحيح هذا الواقع الذي يضني مجتمعهم قبل الشروع، وفق الوصفة المقترحة عليهم في الصحافة العربية، بإحكام قبضة النفوذ العربي والإسلامي على مراكز القوى في العاصمة الأميركية. إذن، فمقولة "نفوذ العرب والمسلمين إلى تصاعد" تعاني من الإفراط في التفاؤل ومن التفريط في الانجازات الفعلية للمنظمات والجمعيات العربية والإسلامية الأميركية.
واستيعاب حقيقة الانبثاث اليهودي في المجتمع الأميركي من شأنه كذلك أن يظهر مواطن الضعف في المقولة الثالثة التي تفترض انفصاماً بين اليهود وسائر الأميركيين. نعم، ثمة خصوصية يهودية عائدة إلى الشكل الأولي الديني لهذه الفئة، بالمقارنة مثلاً مع الجالية الألمانية التي لا تعاني في انبثاثها من بروز الجانب الديني. لكن هذه الخصوصية هي اليوم خصوصية كمية لا نوعية. يذكر على سبيل المثال أن انبثاث الجاليات الكاثوليكية الايرلندية والايطالية مثلاً في المجتمع الأميركي تأخر عن انبثاث الجاليات البروتستانتية. فالنصف الثاني من القرن العشرين شهد بالفعل بلوغ الانبثاث الكاثوليكي ثم اليهودي فهل يكون القرن الحادي والعشرون قرن انبثاث المسلمين؟.
والتفاعل بين الاتجاهات الدينية الثلاثة البارزة في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة خصوصاً، أي البروتستانتية والكاثوليكية واليهودية، لا يقتصر على الجانب الاجتماعي. فالواقع ان مذاهب بروتستانتية أميركية عدة ابتدأت منذ مطلع القرن التاسع عشر بإعادة تقويم للعلاقة مع اليهودية، فالبعض الاصولي منها أعاد الاعتبار لليهود ضمن رؤيته الغيبية لمجرى التاريخ، والبعض الآخر، في خطوات تقدمية، بلغ حد التخلي عن حصرية الخلاص بالمسيحية، مفسحاً المجال أمام تعايش يهودي - مسيحي. ولا يخفى ان مجمع الفاتيكان الثاني في أواسط الستينات أرسى مقومات تعايش بين الكاثوليك واليهود. فالحديث في الخطاب الفكري الأميركي عن اليهودية - المسيحية كأساس مشترك ليس مجرد صيغة بيانية تهدف إلى استرضاء مجموعات متنافرة، بل هو إقرار بحقيقة في طور النشوء، وإن جابهها اعتراض من بعض الأطراف بين حين وآخر.
أما عن العداء المفترض الذي يبطنه العديد من الأميركيين لليهود، فبالفعل، يمكن الاشارة إلى مجتمعات أميركية، ولا سيما في الغرب الأوسط والجنوب، حيث يكاد الانبثاث اليهودي أن ينعدم وكذلك الانبثاث الكاثوليكي. ففي هذه الأوساط، قد يسمع السائل الكثير من التهجم على اليهود والتشكي من نفوذهم وربما كذلك اتهاماً للبابا بأنه يستعد من الفاتيكان لاخضاع الولايات المتحدة لسلطة النظام العالمي الجديد، بالتعاون والتنسيق مع الأمم المتحدة والعائلة البريطانية المالكة. لكن هذه المواقف تبقى خارج الخطاب السياسي والفكري السائد في الولايات المتحدة، ولا يخطئ السائل، خصوصاً إذا كان هذا السائل عربياً، ان يخلط بين العداء لليهود وإسرائيل ونفوذها المفترض في الولايات المتحدة فبعض "الوطنيين" الهامشيين يطلقون على الحكومة الاتحادية في واشنطن اسم "حركة الاحتلال الصهيوني" وبين التأييد للقضايا العربية. فالنفط العربي، لدى أصحاب الطروحات التآمرية، هو سلاح آخر يهدف إلى اخضاع أميركا الحرة. ولا يعني ذلك اطلاقاً ان الساحة الفكرية والسياسية الأميركية تخلو من الذين يميزون بين العداء لليهود كمجموعة دينية أو قومية، ويتجنبونه، وبين مخاصمة الصهيونية، كحركة سياسية عنصرية، ويعتنقونها. يذكر، على سبيل المثال، الجهد المثابر الذي يلتزمه محررو نشرة Washington Report on Middle East Affairs ومحاولاتهم المستمرة، على رغم بعض التعثر، للتمييز بين الجانبين.
أما خارج المجموعات الهامشية التي تتأرجح بين المؤامرة والأخرى، فالاجماع في الخطاب الفكري الأميركي هو على إدانة أي شكل من أشكال التمييز بحق اليهود، وربطها بالتجربة التاريخية اليهودية في أوروبا والغرب عامة، والتي كانت المحرقة آخر فصولها. وقد لا يعكس هذا الاجماع الاسمي واقع حال المجتمع الأميركي الذي لا يخلو من الشحن العرقي والقومي والمذهبي. إلا أن الافتراض ان هذا الشحن، أو بعض مظاهر التعبير عنه، يكشف عن تأصل حالة عداء لليهود في الأوساط الأميركية، فهو مبالغة انتقائية، ذلك أنه للمؤامرات والعداوات والكتب التي تفضحها سوق رائجة في الولايات المتحدة. فالمقولة الثالثة هي إذن من باب التمني، لا الواقع.
وينكشف في المقولة الثالثة أن التمييز بين الصهيونية واليهودية قد ضاع، إذ تتمنى هذه المقولة أن يكون الأميركيون قد سئموا النفوذ اليهودي. فالاعتراض ليس على نفوذ سياسي للجهات المؤيدة لإسرائيل، وهو نفوذ يتمنى الطرف العربي صراحة ان يضاهيه، بل على نجاح المواطنين الأميركيين اليهود في مختلف الأصعدة، فالنجاح يمسي إذن مؤامرة بدلاً من أن يكون دعوة للتحليل والاستيعاب. فكما عممت الصهيونية المفهوم القومي لليهودية ليشمل غير الاشكنازيم شاؤوا أم أبوا، وكما استوعبت التعريف النازي لكلية الانتماء إلى اليهودية وخصوصيته وتفرده، فإن بعض الفكر العربي اليوم قد وافقها. فهكذا ترفض بيروت استقبال ثلاثة مفكرين أرادوا مشاركة مجتمع ينتمون إليه فكراً وروحاً في مناسبة ذكرى النكبة، لأنه ثمة من رأى اختزالهم يهوداً وحسب، مؤيداً بذلك المقولة الصهيونية التي تعتبر الانتماء اليهودي انتماء كلياً... وهنا بيت القصيد.
فالمقولات الثلاث التي جرت محاولة نقضها هنا ليست مقلقة بحد ذاتها، إنما المقلق هو ما تبطنه من توسيع تعريف "الآخر" المعادي وتمني زواله. المقلق ان لا تكون المعطيات الموضوعية هي التي أدت إلى تشكل هذه المقولات وتداولها. بل أن تكون هذه المقولات جاءت محكومة برغبة عقائدية شمولية تفرض على اليهودي يهوديته كصفة اطلاقية، وترى في هذه اليهودية عدائية الزامية.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.